178- تتمة: الضابط في البحوث الدقية الفلسفية المقبولة في الاصول من المرفوضة منها ـ ثمرة البحث: الملك المبعض ذاتاً وآثاراً (حق الخلو مثلاً)
الثلاثاء 29 جمادى الاخرة 1438هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(178)
تتمة: الضابط في المفيد من الضار من المباحث الفلسفية في الأصول
وبعبارة أخرى: ان التدقيقات العقلية والبحوث الفلسفية في الفقه والأصول تارة تعارض المرتكزات العرفية أو تصطدم بالمسلمات الوجدانية، فهي حينئذٍ ضارة مذمومة مفسدة للفقه أو الأصول أو الكلام أو غيرها، إذ تكون حينئذٍ من الجهل المركب، وتارة لا تعارضها بل تكون مفسرة لها وشارحة ومحللة لماهيتها ومدققة في مضمونها بما يدور في مدارها أو تكون من العلل المعدة للاستدلال عليها وإثباتها ببيان عقلي، فلا بأس بها حينئذٍ بل قد تكون ضرورية ولازمة.
ولنمثل لكلا القسمين بما يوضح المقصود أكثر، إضافة إلى ما مضى التمثيل به:
الاستدلال على امتناع الترتب بوجه عقلي
فمن القسم الأول: الاستدلال على بطلان الترتّب بالأدلة العقلية مثل: ان الأمر بالمهم على تقدير ترك الأهم([1]) فيما لو كان العبد عاجزاً إلا عن احدهما([2])، محال عقلاً لاستلزامه البعث الحقيقي نحو الضدين في صورة تركه الأهم لأن الأمر بالأهم لا يسقط بتركه بل إنما يسقط بفعله وامتثاله، والفرض، على الترتّب، أن الأمر بالمهم حينئذٍ (حين إذ ترك الأهم) صار فعلياً منجزاً والبعث نحو غير المقدور قبيح بل محال من الحكيم الملتفت إذ لا يعقل البعث الحقيقي لما يعلم انه لا يمكن الانبعاث عنه فإن وِزان البعث في التشريعيات كوزان البعث في التكوينيات وكما لا يعقل البعث والتحريك الحقيقي لما لا يمكن تحريكه فكذا البعث.
وبعبارة أخرى: (انّ طلب المهم مترتّباً على عصيان الأمر بالأهم يستلزم طلب الضدين في زمان واحد، إذ الأمر بالأهم لا يسقط بمجرّد عصيانه، فيكون طلب الأهم باقياً وفعلياً مع فعلية طلب المهم لتحقق ما هو شرط لفعليته، وهو عصيان الأمر بالأهم، فيلزم الجمع بين الطلبين، وهما طلب الأهم وطلب المهم في زمان واحد.
وحيث انّ صدورهما غير مقدور للمكلّف في آن واحد فالجمع بين طلبيهما محال من الحكيم، لأنّ الغرض من التكليف إحداث الداعي للمكلّف نحو العمل والانبعاث الاختياري والتحرك الإرادي نحوه، وما لم يقدر المكلف على الانبعاث والتحرك الإرادي كان بعثه وتحريكه التشريعي بتوجيه الخطاب إليه لغواً لا يصدر من الحكيم.
وبالجملة الجمع بين الضدين محال، وطلب المحال محال من الحكيم، ولو كان بسوء اختيار المكلّف لعصيانه الأمر بالأهم باختياره، إذ لولاه لما كان متوجّهاً إليه إلا طلب الأهم)([3]).
وهنالك مسلكان في الجواب عن هذه الشبهة وأشباهها:
الجواب عن ذلك وأشباهه بشِبهه، أو بالإِحالة على الوجدان والمرتكزات
الأول: الإجابة عنها ببيان فلسفي علمي ورد الإشكال بنفس النحو.
الثاني: الإجابة عنها بمنافاتها للوجدان أو للمرتكز الذهني العرفي والعقلائي، وكلا الطريقين حسن إلا أن مورد الشاهد هو الطريق الثاني فان الفطرة هي أكبر برهان والمستقلات العقلية هي أصح الأدلة فالرجوع إليها أولاً لكشف مقتضاهما في مقدمة الواجب أو في مبحث اجتماع الأمر والنهي أو في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام أو الخاص ومنه الترتب أو غير ذلك، هو مقتضى القاعدة والذي به يصان فكر الإنسان عن الخطأ نتيجة التلوث بالشبهات وعن الخروج عن مقتضى الفطرة ومدركات العقل النظري أو العملي.
وعلى ذلك فانه يمكن الإجابة عن أية تدقيقات فلسفية بانها شبهة في مقابل البديهة كما نجيب مدعي (كل ما في الكون وهم أو خيال أو عكوسٌ في المرايا أو ظِلال) أو مدعي صحة التسلسل أو صحة وجود حادث بلا عِلّة محدثة، بذلك؛ فانه يصح الجواب بكلمة موجزة بان هذه شبهة في مقابل البديهة وبأن أدلّ دليل على امكان الشيء وقوعه وما أشبه.
نعم لا ينفي ذلك الحاجة، إذا كان الطرف ممن لا يتنبه ضميره بالإلفات إلى مستقلات العقل ومقتضيات الفطرة، إلى الرد الفلسفي إلا ان المرشد الأول هو الفطرة والوجدان ولذا قال (عليه السلام): "وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ"([4]).
وقد نُقل ان ابن سينا بعد ان امضى في تعليم تلميذه بهمنيار أشواطاً من الفلسفة، أخذه إلى شاطئ نهر وأقام سبعين دليلاً على أن هذا الماء الجاري في النهر ما هو إلا وهم أو خيال وطلب من بهمنيار الإجابة عن استدلالاته فما كان من بهمنيار إلا أن حمل بكفه بعض الماء من النهر ورمى به على وجه أستاذه وقال: هذا الدليل (الوجداني العيني) يبطل كل أدلتك السبعين! فاستحسن ابن سينا جوابه وأعلمه انه قد أدرك عمق الفلسفة فان البديهي لا يمكن الاستدلال عليه إلا بالإلفات إليه، كما لا يمكن رد منكر البديهي إلا بالتنبيه عليه إذ يستحيل إقامة البرهان على البديهيات، ولذا قال تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)([5]).
الاستناد إلى الوقوع في الخطابات العرفية، لإثبات صحة الترتّب
وقد سلك هذا المسلك أعلام الأصوليين القائلين بإمكان الترتب كالميرزا الشيرازي الكبير ومعظم تلامذته ومن المعاصرين السيد الخوئي قدس الله أسرارهم.
قال في مصباح الأصول (وكيف كان، فالصحيح هو الثاني، وأدلّ دليل على امكانه وقوعه في العرف والشرع.
وقوع الترتب في العرف والشرع:
أمّا العرف، فيقع الأمر الترتّبي فيه كثيراً بشهادة الوجدان، فقد يقول الوالد لولده: اذهب اليوم إلى المدرسة، وان عصيت ولم تذهب إلى المدرسة فاكتب في الدار ولا تلعب مع الصبيان، فالأمر بالكتابة في الدار مترتّب على عصيان الأمر بالذهاب إلى المدرسة، وكذلك المولى العرفي قد يأمر عبده بشيء ويأمره بشيء آخر على تقدير عصيان الأمر الأول، وبالجملة وقوع الأمر المترتّب على عصيان أمر آخر في الخطابات العرفية فوق حدّ الاحصاء، ولا يمكن انكاره لمن راجع وجدانه.
وأما الشرع، فقد وقع الأمر الترتّبي فيه أيضاً في موارد كثيرة لا يمكن للفقيه انكارها:
1- ما إذا وجب السفر على أحد بنذر ونحوه في شهر رمضان، فعصى وترك السفر، فانه لا إشكال في وجوب الصوم عليه، فالسفر والصوم متضادّان شرعاً، مع أن الأمر بالصوم مترتب على عصيان الأمر بالسفر...)([6]).
شروط الأشكال الأربعة، تحليل منطقي لمرتكز عقلي
ومن القسم الثاني: الكثير من البحوث المنطقية وغيرها، فان الأشكال الأربعة بشروطها، خاصة غير المأنوس للذهن منها كالشكل الرابع، لا تعدو أن تكون غوراً في أعماق العقل لكشف الضوابط وتفصيل ما وجد بوجود إجمالي في الفطرة أو العقل، ولذا كانت حجةً وشاهدٌ صدقِها معها، وقد جمع الأديب الفارسي شروط الأشكال الأربعة بقوله:
مغكب اول، خينكب ثانى، ومغكاين سوم ، در چهارم مين كغ يا خينكاين شرط دان([7])
ثمرات القول بان (الملك) حقائق مختلفة
الثمرة: ثم انه قد يسأل عن ثمرة هذه النظرية الجديدة في الملكية وانها أنواع مختلفة بالماهية، فنقول:
الثمرات كثيرة:
1- السرقفلية بيعٌ لملكٍ مبعّضٍ ذاتاً وآثاراً
ومنها: ما طرحنا أصل هذه النظرية لإثباته في المقام وهو السرقفلية: فانه قد يدعى بان السرقفلية أو أحد أنواعها هو ما نصطلح عليه بـ(بيع الملك المبعّض ذاتاً وآثاراً) استناداً إلى هذه النظرية وانه في حق الخلو أو السرقفلية([8]) لا يباع الملك بكامله وتمامه ولا انه ليس ببيع بل هو إجارة مع شرط أو إجارة أو جعالة.. الخ بل هو بيع للمملوك من حيثية السكن فيه أو من حيث الإتّجار به بنحو الحيثية التقييدية وليس بيعاً له من أية حيثية أخرى، فهو بيع للملك المبعّض ذاتاً وآثاراً، وقد سبق ما يوضح عمق هذا بقولنا:
السرقفلية تقع في مقابل الإجارة([9])
(الثاني: ان (الإجارة([10])) يحتمل فيها بدواً كونها من نقل العين أو نقل الثمرة أو نقل العين بلحاظ الثمرة أو المحيثة بحيثيتها أو نقل الثمرة القائمة بالعين.
ولكن الإجارة لا هي من نقل العين وإلا كانت بيعاً للعين، ولا هي من نقل الثمرة والمنفعة بنفسها وإلا كانت بيعاً لها فيما صح فيه ذلك كبيع ثمرات البستان فانه بيع لها لأنها أعيان وليست إجارة لها، أو باطلة فيما لم يصح فيه ذلك كما لو نقل ما ليس بعين كنقل سكنى الدار مباشرة، للغير.
فتعين ان تكون من الأخيرين: فاما هي نقل العين المحيّثة بحيثية السكن فيها أي بحيثية تقييدية لا تعليلية أو هي من نقل السكنى القائمة بالعين بما هي قائمة بها)([11]).
فالسرقفلية هي الطرف المقابل للإجارة إذ الإجارة لا هي من نقل العين ولا من نقل الثمرة بل هي من نقل السكنى القائمة بالعين بما هي قائمة بها عكس السرقفلية التي هي من نقل العين المحيثة بحيثية السكنى فيها.
فهذا نوع آخر من الملك، فكما للملك أنواع كالشخصي والكلي والكلي في المعين والمشاع، فهذا نوع آخر، وإن شئت فقل انه مشاع طولي مقابل المشاع العرضي المعهود.
وسيأتي مزيد توضيح لهذا وان ثمرات الالتزام به كبيرة جداً في باب الإرث والخمس وغيرها فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ إِلْحَاحَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَحَبَّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَيُطْلَبَ مَا عِنْدَهُ"
الكافي: ج2 ص475.
................................................
الثلاثاء 29 جمادى الاخرة 1438هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |