||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 68- (إهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ )-2 نقد الهرمونطيقا ونسبية المعرفة

 26- (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه)2 الحقائق التاريخية والفضائل والمصائب في مقياس علم الرجال

 173- ظاهرة ( التبري ) من المستقلات العقلية ومن الامور الفطرية

 Reviewing Hermeneutic. Relativity of Truth, Knowledge & Texts – Part 3

 139- (قضاء التفث) بلقاء الامام (ع) ـ مقارنة بين اجرا الحج وأجر زيارة الامام الحسين

 279- فائدة أصولية: توسعة دائرة متعلّق الحكم بسعة دائرة الحكم

 دراسة في كتاب "نسبية النصوص والمعرفة ... الممكن والممتنع" (6)

 202- مباحث الاصول - (الوضع) (9)

 167- فائدة رجالية: دعوى الاجماع على صحة أحاديث كتاب من لا يحضره الفقيه من قبل علمين من اعلام الطائفة

 484- فائدة رجالية: (عدم تواطؤ المخبرين على الكذب ركيزة التواتر)



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 177- أعلى درجات التواتر لاخبار مولد الامام القائم المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف )



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23697034

  • التاريخ : 28/03/2024 - 09:15

 
 
  • القسم : الفوائد والبحوث .

        • الموضوع : 180- مباحث الاصول : (المستقلات العقلية) (2) .

180- مباحث الاصول : (المستقلات العقلية) (2)
١٠ شوال ١٤٣٨ هـ

 الفائدة السابعة : تطابق مطالب الرواية ومضمونها  مع المستقلات العقلية مما يقوي  سندها وصحة صدورها من المعصوم (عليه السلام) .
عن محمد بن أبي عمير، عن إبراهيم الكرخي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج»[1].
ويظهر ذلك المعنى بالتدبر والتفكر قليلاً في المقاطع الثلاثة: (حديث تدريه خير من عشرة ترويه) لأنّ ما تدريه ينفعك دون ما ترويه من دون أن تدريه، وهذا بديهي، فإنّ مَن يدري ويعرف كيفية الخروج من المآزق والمشاكل والفتن هو الذي ينتفع بها، دون من يروي لغيره ألفاظاً ومصطلحات لا يفهم معناها، وكذا مَنْ يعرف الحكم الشرعي دون من يروي وهو يحفظ ألفاظ المسألة دون فهم معناها، وكذلك من يدري ويعرف محتوى الدواء أو وصفة الأطباء، فإنه هو من ينتفع بها وينفع غيره بها، دون من يحفظ أو يروي ألفاظ الوصفة دون معرفة معناها، ولا موارد استعمالها، ولا ما يضادها مما لا تجتمع معه ، وهكذا.
وأما سند هذا الحديث، فحيث إنه مرفوع فإن قلنا بحجية مراسيل الثقات[2] فالأمر سهل، وإلا أمكن الاطمئنان به ووثاقته كخبر ورواية عن طريق برهانية مطابقة مضمونه للأصول والقواعد، بل نقول: إن مطالبه من المستقلات العقلية أو المرتكزات العقلائية[3].

الفائدة الثامنة : إذا اصطدمت مطالب الرواية الصحيحة مع المستقلات العقلية لا بد من حملها على محامل تناسبها أو طرحها.
وردت روايات عديدة ظاهرها ـ إن لم يكن نص بعضها ـ استثناء أمور ثلاثة من حكم التقية، ومنها صحيحة زرارة التي رواها في الكافي: ... عن زرارة قال: قلت له: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً: شرب المسكر، ومسح الخفين ومتعة الحج[4].
أقول : وحيث إن الرواية بظاهرها مخالفة للقواعد ولفطرية التقية، لكونها من المستقلات العقلية، ولبداهة أن حفظ النفس والعرض ـ مثلاً ـ أهم من المسح على الخفين أو شرب المسكر، وللإطلاقات[5]؛  لذلك حملها الفقهاء على محامل[6].
 منها[7]:إنها مطروحة لمعارضتها لإطلاقات الكتاب والسنة الآبية عن التخصيص، ومعارضتها للمستقل العقلي، ولإعراض المشهور، بل المجمع عليه ـ إلا الشاذ النادر ـ عنها[8].

الفائدة التاسعة : كلما كان التعليل في لسان الشارع  بالمستقلات العقلية، فإنّ العلة تكون معممة ومخصصة في حدود ما استقل به العقل، والكلام هو الكلام في الضرورة المذهبية والإسلامية.
في  قوله تعالى: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ... ) [9]،  بناءً على مسلك كون علل الشارع حِكَماً، فهل يوجد مخلص لإبقاء العلة في هذه الآية الشريفة على الأصل الأولي من خلال إخراجها من دائرة الأصل الثانوي، فتكون على ذلك علة حقيقية يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً؟
والجواب: الظاهر أنّ هناك وجهاً حتى على المسلك الثاني لإثبات أنّ قوله تعالى: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ... ) [10] هي علة حقيقية وليست حكمة، وهو وجود قرينة خاصة في المقام دالة على ذلك، وهي مناسبة الحكم والموضوع.
والقرينة في المقام هي قرينة المادة، فإنّ مادة  (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ  ) آبية عن التخصيص؛ وذلك أنه لا يعقل القول: إنّ الإضلال عن سبيل الله جائز أحياناً، فحال هذه المادة كحال مادة (الظلم) فإنها كذلك آبية عن التخصيص، فلو قال المولى: (لا تقرب مال اليتيم، ولا تتصرف في أمواله بما لا مصلحة له فيه؛ لأنه ظلم) دل على حرمة طرده من المنزل؛ لعموم العلة، وهي الظلم، فإنه وفي كل هذه الموارد هناك امتناع عن التخصيص وإباء عنه لخصوصية في المادة.
وعليه: فإنّ خصوصية مادة الإضلال عن سبيل الله قرينة تورث القطع بأنّ هذه علة وليست حكمة، بل إنّ ذلك ـ أي حرمة الإضلال عن سبيل الله ـ يُعَدُّ من ضروريات الدين، وليس من ضروريات المذهب فقط، فإنه من أقبح المستنكرات، وهو محرم قطعاً، ومن كل ذلك يتبين أنّ التعليل تام والتعميم صحيح.
وهنا فائدة مهمة تعطي الإطار العام لكل ما ذكرناه، وهي: كلما كان التعليل في لسان الشارع بالمستقلات العقلية ـ مثل لأنه ظلم أو غيرها ـ أو كان بالضرويات المذهبية أو الإسلامية، فإنّ العلة عندئذ تكون معممة ومخصصة في حدود ما استقل به العقل، وفي حدود الضرورة.
والنتيجة هي: الظاهر أنّ التعليل تام على كلا المسلكين...  وبإيجاز نقول: إنّ حال هذه الآية ـ كما ذكرنا ـ هو كحال آية النبأ، فإنّ هذه الأخيرة وببركة التعليل تعمم وتخصص؛ لأنه ومن خلال مناسبات الحكم والموضوع، وخصوصية مادة الجهالة الآبية عن التخصيص يحصل التعميم؛ فإنّ إصابة القوم بجهالة قبيح ومحرم مطلقاً، ومما يأبى التخصيص.
ولو شكك في التعميم في آية النبأ [11]فلا مجال لهذا التشكيك قطعاً في موردنا ، وهو آية: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ  ) [12].

الفائدة العاشرة : إذا تعارض الحكم العقلي مع الظاهر القرآني صرفه عن ظهوره وتقدم علية.
هناك أطراً ترسم العلاقة بين الظاهر القرآني وبين التدقيقات العقلية، ومن هذه الأطر أن لا تصطدم الدقة العقلية - وكذا التشقيقات والتفريعات والاستنباطات، عقلية كانت أو فلسفية أو كلامية أو أصولية أو منطقية، أو حتى فيزيائية أو كيماوية أو غيرها- بالظاهر القرآني، هذا هو الإطار والشرط الأول، وهو أمر أساسي ورئيسي[13]، كما لا يخفى.
وهنا نوضح: إنّ تعبير (أن لا تصطدم الدقة العقلية) هو تعبير دقيق، فإننا قلنا: إنه يجب أن لا تصطدم الدقة العقلية بالظهور القرآني، ولم نقل:) أن لا يصطدم حكم العقل بالامتناع مع الظاهر القرآني)؛ وذلك لأنّ حكم العقل القطعي لو كان كذلك لتقدم على الظاهر القرآني دون شك، ولأتضح منه عدم إرادته ظاهراً، كما في قوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [14].
والحاصل: أنه تارة يحكم العقل بالامتناع، فيقدم حكمه على الظاهر القرآني، ويصرفه عن ظهوره دون ريب، وتارة أخرى لا يحكم العقل بالامتناع، وإنما يتوغل ويستنطق النصوص بتدقيقات مختلفة فهذا له صورتان، والجامع: أنّ ذلك مسموح به، بل وممدوح، ولكن بشروط منها ما ذكرناه من كون ذلك في إطار الظاهر وإلا فلا[15].

الفائدة الحادية عشر : كما أن مقدمة الواجب واجبة كذلك فإن مقدمة الحرام محرمة.
بحث تطبيقي:
عن عبد الملك بن أعين، قال: قلت لأبي عبد الله  (عليه السلام) : إني قد ابتليت بهذا العلم[16] فأريد الحاجة[17] فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها[18]، وإذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة؟ فقال لي (عليه السلام): تقضي؟ قلت: نعم، قال: أحرق كتبك[19].
ومن القواعد حكم العقل بأن مقدمة الحرام حرام، كما أن مقدمة الواجب واجبة عقلاً ـ وشرعاً أيضاً على المنصور ـ وهذه الرواية مطابقة لهذه القاعدة؛ إذ المستظهر أن الإمام (عليه السلام)  سأل الشخص عن المقدمة الموصلة عندما قال له: (تقضي) أي: بناءً على ما نظرت إليه من كتبك في النجوم، أي: هل نظرك فيها، وهذه الكتب التي هي عندك طريق مؤدِّي إلى أن تقضي ـ بإحدى الصور السابقة الموجبة للكفر أو للحرام القطعي ـ؟ فقال الشخص: نعم، فأجابه الإمام (عليه السلام) : أحرق كتبك، وهذا يدل على أن التحريم إنما هو لكونه مقدمة موصلة[20].

الفائدة الثانية عشر : ملاك الوجوب العقلي، إما لدفع ضرر بالغ وإن كان محتملاً، وإما لشكر نعم جسيمة، وإما لجلب منفعة جسيمة، وإما لاستحقاق، ثم إن رابع هذه الملاكات  ذاتي ، والبقية آلية وطريقية .
إن الوجوب العقلي يكون ملاكه أحد أمور أربعة على سبيل منع الخلو لا مانعة جمع ؛ فالمنفصلة ليست حقيقية  ؛ وعلى هذا فإن ملاك الوجوب العقلي لا يخلو  من أحدهما ، وقد يجتمع منها اثنان أو ثلاثة أو أربعة  ؛ وهذه  الملاكات الأربع هي :
الملاك الأول : دفع الضرر البالغ وإن كان محتملاً ؛ وإنما قيدناه بالبالغ ؛ لأن دفع الضرر اليسير لا يحكم العقل بوجوب دفعه وإن كان مقطوعاً به فضلاً عن احتماله ، نعم يحسن دفعه فقط. 
الملاك الثاني : شكر المنعم عل نعمة الجسيمة ، وإنما قيدناه بالجسيمة  ؛ لأن النعمة  اليسيرة لا يحكم العقل بوجوب شكرها، نعم يحسن ذلك .
ومما ذكرناه - ومما سيأتي -  سيتضح وجه التأمل فيما ذهب إليه العديد من علماء الكلام وارتضاه السيد الوالد (قدس سره) ،  من أن ملاك الوجوب العقلي هو أحد هذين  القسمين فقط ،حيث قال: (( ملاك الوجوب مستنده القريب هو شكر المنعم،  ومستنده البعيد هو حكم العقل بوجوب دفع الضرر ))  وفي موضع آخر قد أرجع أحدهما للآخر ، حينما  قال :  (( وجه وجوب شكر المنعم ؛ لأنك أن لم تشكر النعمة أُحتمل انقطاعها وانقطاعها ضرر)) فأرجع شكر النعمة إلى دفع الضرر ؛ هذا الكلام قد يتأمل فيه  ؛ لعدم صحة إرجاع أحدهما للآخر ؛  بل العقل يستقل بوجوب شكر النعمة الجسيمة مع قطع النظر عن خوف الضرر المترتب على ترك شكر النعمة  ، وهناك مستقل عقلي آخر منفصل عنه،  وهو وجوب دفع الضرر وإن تعقبه في بعض الأحيان وأغلبها ،  بل حتى مع فرض الاستغراق.
الملاك الثالث : جلب المنفعة الجسيمة، وهو حسن ولكن في وجوبه تأمل، وقد يُفصل بين المنفعة العائدة للمجتمع فتجب مطلقاً وإن لم تكن جسمية ،  وبين العائدة للنفس فلا تجب ،  وقد يفصل بين المنفعة الجسيمة وغيرها.
الملاك الرابع : الاستحقاق  [21] ؛ لأن من كان  في حد ذاته[22]مستحقاً [23] بأن يُعبد وُتطاع أوامره [24] فالعقل يحكم بوجوب طاعته [25]، ويرشدنا إلى ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : ((ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك  ، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك )) [26] فلو وجد العبد أن الخالق مستحق للعبادة فلم يعبده لكان عاصياً بحكم العقل، وإذ وصل السؤال للاستحقاق انقطعت السلسلة ؛  لكونه تعليلاً بالذاتي ،  والذاتي لا يُعلل ، فمثلاً : إذا سُألت لماذا تحب الورد ؟ قلت : لأنه رائع وجميل أخاذ ، فإذا سُألت ثانية : ولماذا هو جميل أخاذ ؟ فيأتي الجواب : أن الذاتي لا يُعلل[27].
وقد يستدل للاستحقاق بالبرهان الأني ،  فإنا نرى الكثير من الحيوانات تدافع عن أبنائها حتى الموت ، وما ذلك إلا للأمر الرابع [28] ،  وإلا فأي ضرر محتمل أشد من تعريض ذلك الحيوان نفسه للقتل مع أنه قادر على التخلص بعدم الدفاع عن ولده ؛ فلا يكون ذلك لأجل شكر النعمة ،  إذ أية نعمة من صغيره ينتظرها هي أكبر من أصل حفظ وجوده [29] ؟ وكذلك أية منفعة من صغيره يرتجيها ؟ فيتعين حينئذ الأمر الرابع وهو الاستحقاق [30] ؛ وذلك لأمر قد غرسه الله في نفسه.
 ثم إن الملاكات الثلاث هي آلية وطريقية ، بينما أن الرابع فهو ذاتي  ، هذا و قد التزم المشهور بوجوب شكر النعمة كملاك للوجوب العقلي.
بحث تطبيقي:
وهنا نسأل هل أن هذه الملاكات الأربع تصلح دليلاً للقول بوجوب الاجتهاد والتقليد عقلاً ؟
الجواب: أن مقدمات الانسداد يتفق عليها المجتهد الانفتاحي مع المجتهد الانسدادي ، والاختلاف إنما يكون في المقدمة السادسة   [31] التي تقول : (( إن باب العلم والعلمي منسد )) ،وهنا المجتهد الانسدادي يقول : قد انسد باب العلم فمطلق الظن حجة [32] .
ونحن نقول : بانفتاح باب العلم والعلمي ، وبموجب هذه المقدمات ، فإنه يُعلم بوجود تكاليف الزامية  لم ترفع اليد عنها من قبل المولى تعالى،  ولا مخرج للمكلف عن عهدتها  إلا بأدائها ،والطريق إليها إما أن يكون بالاجتهاد أو التقليد  أو الاحتياط ؛ فيثبت الوجوب البدلي لأحد هذه الثلاثة عقلاً سواء قلنا بالانفتاح أم الانسداد [33] .

الفائدة الثالثة عشر  : ما كان ملاكاً للوجوب العقلي فهو ملاك للوجوب الفطري.
ونحن نرى – خلافاً لجمع من الأعلام - أن ملاك الوجوب الفطري أحد الأمور الأربع أيضاً[34]، والفارق بين الوجوبين ـ على هذا ـ  ليس الملاك  ، وإنما هو الحاكم أو المدرك على المبنيين، والسؤال هنا : ما هو البرهان على الوجوب الفطري في عالم الاثبات؟
والجواب: أن البرهان عليه في عالم الاثبات أمور  :
الأمر الأول: ملاحظة حال الحيوان ، فإذا وجدنا الحيوان  ـ وهو مما لا عقل له ـ  يلزم نفسه بأمر [35]؛ فعندها نعرف أن هذا وجوب فطري .
الأمر الثاني : ملاحظة حال الأطفال الصغار جداً [36].
الأمر الثالث: ملاحظة حال بعض المجانين  [37] ،  على تأمل في الثاني والثالث [38] ، باعتبار أن لهما عقلاً ، ولكنه إما أنه لم يكتمل  أو عليه حجاب [39]، بينما المتصفح لحال الحيوان يجد الملاكات الأربعة واضحة ، ومثال ذلك  إذا شاهد الحيوان صياداً أو سُبعاً فإنه يفر  منه ،  ويلزم نفسه بالفرار بملاك دفع الضرر المحتمل ، وأما شكر النعمة فإنا نشاهد الكلب[40] إذا أحسنت إليه فإنه يجد نفسه ملزماً بردّ  ذلك الجميل وأكثر ، بل أنه  يصل إلى الدفاع عنك حتى الموت وما ذلك إلا شكراً لتلك  النعمة .
قول ومناقشته:
ولكن قد يقال: إن ذلك ما هو إلا دفعاً للضرر ، إذ أنه يدافع عنك خوفاً من أن تقطع نعمتك عنه.
فإنه يقال: إنك لو قطعت نعمتك عنه فإنه  سوف يستمر على دأبه كما هو المشاهد ، هذ أولاً.
وثانياً: هناك تناسب بين مقدار النعمة وشكرها و بين مقدار الضرر المحتمل ودفعه ؛ فالنعمة اليسيرة تقابل بشكر يسير ، وما يعمل به لدفع الضرر المحتمل لا يعقل أن يزيد عليه بدرجات ، بل ربما لا قياس بينهما ؛ فالكلب قد يدافع عنك حتى الموت مقابل كسرة خبز أعطيتها له ؛ ومنه يعلم  أن ذلك ليس دفعاً للضرر.
بل نقول :إن هذا  ليس شكراً للنعمة؛ بل أن هذا من باب الاستحقاق، فهو يراك أهلاً للدفاع عنه حتى الموت، وما النعمة إلا علة محدثة لا مبقية ،فتأمل .  
إذن الفطرة ملاك للوجوب، ولذا نجد في قوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) [41] حيث إن جملة  (( فطرة الله )) واقعة موقع التعليل للأمر الإلهي ؛ لأن جملة :  (( فأقم وجهك للدين ))  تعلل هذا القيام بفطرة الله ؛  فعلل الحكم التشريعي [42] بأمر تكويني[43] ، بل أن ذلك يكشف عن ملاك الاستحقاق - الذي  تقدم - في قول  أمير المؤمنين (عليه السلام) : (( بل وجدتك أهل للعبادة ))  ، لذا فإنه تعالى لم يقل : ((فأقم وجهك))  لأجل دفع الضرر   ؛ وهو للنجاة من عذابي ، ولا لشكر النعمة  ؛  وهو لأني خلقتك ، ولا لجلب منفعة ؛  وهو  لأدخلك جنتي  ؛  بل هو للاستحقاق  بحكم فطرة الله ، فتأمل [44] .
وإذا وصل الأمر إلى الذات والذاتيات أنقطع التعليل ، (( فما جعل الله المشمش مشمشاً  ، بل أوجده  )) [45] ، وأوجد الانسان ، وكل الجواهر بمفاد هل البسيطة ،  وبمفاد كان التامة  ، ولم يجعلها بالجعل التأليفي[46] ،  ومفاد كان الناقصة ؛  وإلا استلزم انفكاك الذات عن الذاتي ،  فقول ابن سينا : ((ما جعل الله المشمش مشمشاً ))  ؛ فهذا النفي ليس نفياً لهل البسيطة[47]، بل هو نفي لهل المركبة [48] ،  فيلزم من ذلك  أنه قبل أن يثبت له المشمشية كان غير مشمش ؛  فيلزم سلب الشيء عن نفسه .
والحاصل: أن الله سبحانه أوجد الجواهر كلها بالجعل البسيط [49]  ، وهذا البحث مبرهن عليه في محله [50].

----------------
[1] معاني الأخبار: 131.
[2]  كما فصلناه في (حجية مراسيل الثقات المعتمدة).
[3] المعاريض والتورية :ص175.
[4] الكافي :ج 3: ص  32.
[5] إطلاقات التقية، فإن هذه الثلاثة وإن كانت أخص مطلقاً، إلا أن لسان روايات التقية ـ بترك أو فعل المهم لحفظ الأهم ـ آبٍ عن التخصيص.
[6] المعاريض والتورية:ص323.
[7] وقد ذكر (دام ظله) عشرة احتمالات في  كتاب: المعاريض.
[8] المعاريض والتورية: ص 347.
[9] لقمان: 6.
[10] سورة لقمان: 6.
[11] ولا مجال لهذا التشكيك ظاهراً .
[12] حفظ كتب الضلال :ص 69.
[13] وهناك شروط أخرى.
[14] الفتح: 10.
[15] حفظ كتب الضلال:ص233.
[16]  أي: علم التنجيم.
[17]  أي: كالسفر أو الزواج أو غيرهما.
[18]  أي: في الحاجة.
[19] من لا يحضره الفقيه: ج2ص267.
[20] حفظ كتب الضلال:
[21] وهو مما خطر بالبال.
[22] أو لفعل من أفعاله0 إذ يعود إلى شكر النعم ، وفيه أنه أعم ، فتأمل.
[23] أقول : وهذا الملاك  أبوابه واسعة ، وآثاره باقية ، وثماره دائمة ؛ لأن الباعث إليه هو العقل والفطرة  ؛ والاستحقاق  يتضح حينما  يسأل الإنسان نفسه : أن من أقررت له بأنه  رب العالمين ، وأنه مالك يوم الدين ، كيف لا أقول له: ( إياك نعبد وإياك نستعين)  بحكم الاستحقاق ؟ وقس على ذلك كثير من الأسئلة يظهر لك سعة باب الاستحقاق وثماره  ، ثم إن العلامة المجلسي (قدس سره)  نقل في بحار الأنوار: ج75 ص 178 عن بعضهم  كلام لطيف  في هذا المعنى  ؛ هذا نصه  : قال بعض العارفين ; خلق الله الخلق ليوحدوه فأنطقهم بالتسبيح والثناء عليه والسجود ،  فقال : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) وقال أيضا ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في  الأرض والشمس والقمر ... ) ، وخاطب بهاتين الآيتين نبيه الذي أشهده ذلك ورآه فقال " ألم تر " ولم يقل " ألم تروا " فإنا ما رأيناه ، فهو لنا إيمان ، و لمحمد (صلى الله عليه واله) عيان ، فأشهده سجود كل شئ وتواضعه لله ، وكل من أشهده الله ذلك ورآه دخل تحت . هذا الخطاب . وهذا تسبيح فطري وسجود ذاتي عن تجل تجلى لهم فأحبوه فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف بل اقتضاء ذاتي ، وهذه هي العبادة الذاتية التي أقامهم الله فيها بحكم الاستحقاق الذي يستحقه .
[24] وهو الباري جل وعلا.
[25] سيأتي لاحقاً ذكر ملاك خامس للوجوب.
[26] عوالي اللئالي : ج1 ص  404.
[27] لأنه من الاستحالة  أن يفكك بين الشيء ونفسه أو ذاته ، لذا قال الملا هادي السبزواري (قدس سره) في منظومته : وعندنا الحدوث ذاتي ولا * شيء من الذاتي جاء معللاً .
[28] الذي هو ملاك الاستحقاق .
[29] أي حفظ هذا الأب أو الأم المدافع عن ولده.
[30] وهذا ما هو متناول أيضاً  في اللهجة العامية في معاملاتهم عند قولهم : ( تستاهل ) أي تستحق هذا الشيء ، بل أن هذا متناول  حتى في فصيح اللغة العربية والمباحث العلمية ولكن بكلمة : ( تستأهل ).
[31] أما المقدمات الخمس الأخرى فهي  أولها: إنا نعلم إجمالاً بوجود أحكام الزامية لله تعالى، بل نقول : يكفينا احتمال الوجود، وثانيها: أن العمل بالبراءة الشرعية أو العقلية  يستلزم الخروج من الدين ،  وثالثها: العمل بالأصول العملية في كافة موارد الشك خلاف الضرورة ، ويستلزم الخروج من الدين ، ورابعها: العمل بالقرعة لا دليل عليه بأطلاقه ، كما أنه يستلزم الخروج من الدين، وخامسها: العمل بالاحتياط تعييناً ، أو القول بوجوب الاحتياط ،  مستلزم للعسر والحرج الشديدين.
[32] والاجتهاد منه ،  لكنه من باب الظن المطلق ،  لا الظن الخاص. 
[33] لكن بعد تمامية المقدمات الخمسة.
[34] المتقدمة ، وهي : دفع الضرر البالغ وإن كان محتملاً ، وشكر المنعم عل نعمة الجسيمة ، وجلب المنفعة الجسيمة  ، و الاستحقاق.
[35] ومن تلك الأمور ما جاء في قوله تعالى : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) . سورة النحل : 68.
[36] وفي ذلك قد وردت روايات ، منها  ما جاء في الكافي : ج1 ص 12  عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام  قال : سألته عن قول الله عز وجل : (حنفاء لله غير مشركين به  ) ؟ قال : الحنيفية من الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، قال : فطرهم على المعرفة به ، قال زرارة : وسألته عن قول الله عز وجل :  ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى - الآية  - )  ؟ قال : أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك يعرف أحد ربه ،  وقال : قال رسول الله  (صلى الله عليه واله)  كل مولود يولد على الفطرة ، يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه ، كذلك قوله : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ).           
[37] إذ لا عقل لهم .
[38]  وهما : جلب المنفعة الجسيمة  ، وشكر المنعم عل نعمة الجسيمة.
[39] وهذا الحجاب قد يرتفع برفع مؤثره ، وهناك أمثلة كثيرة لهذه الحالة في الحياة البشرية ، ومن لطيف ما حدثنا التاريخ  ما جاء عن مجنون ليلي ؛  حيث إنه بعد ما جُن بسبب فراق  تلك المرأة  ، ولكن إذا ذُكرت عنده  اعتدل سلوكه و رجع إليه عقله ، وهذا  ما نقله الصفدي كتاب الوافي بالوفيات ج 24  ص 224 بقوله : أنه لما تولى الصدقات على قبيلة قيس  نوفل بن مساحق رأى المجنون يلعب بالتراب عرياناً ، وحُكي له ما هو فيه ، فأراد أن يكلمه ، فقيل له ما يكلمك إلا إن ذكرت له ليلى وحديثها ،  فذكرها فأقبل يحدثه بحديثها وينشده شعره فيها فرق له نوفل  ، وقال له أتحب أن أزوجكها قال نعم ، وهل لي إلى ذلك سبيل ، فدعا له بثياب فألبسه إياها ،  وراح معه كأصح ما يكون يحدثه وينشده  ، فبلغ ذلك رهط ليلى فتلقوه في السلاح وقالوا له : لا والله يا ابن مساحق لا يدخل المجنون منازلنا أبداً وقد أهدر السلطان دمه ،  فأقبل بهم وأدبر فأبوا ،  فقال للمجنون إن انصرافك أهون من سفك الدماء فانصرف ، وهو يقول :
أيا ويح من أمسى يخلس عقله * فأصبح مذهوباً به كل مذهب
خليا من الخلان إلا معذرا * يضاحكني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت * روائع عقلي من هوى متشعب
وقالوا صحيح ما به طيف جنة * ولا الهم إلا بافتراء التكذب . 

[40] وفي وفاءه جاءت قصص كثيرة  حتى أن بعضهم  كتب كتابا أسماه : فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب  ، ونقل الدميري في حياة الحياة الحيوان الكبرى  :  ج2 ص  280 ،  قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كلب أمين خير من صاحب خؤون ، قال: وكان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما ، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين ، فعرف الأمر فأنشأ يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني * ويحفظ عرسي والخليل يخون
فيا عجباً للخل يهتك حرمتي    *  و يا عجبا للكلب كيف يصون .   

[41] سورة الروم :  30.
[42] وهو قوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ).
[43] وهو قوله تعالى  : (فِطْرَةَ اللَّهِ ) . 
[44] إذ قد يقال : إن فطرة الله   تكشف عن ملاك خاص هو : اقتضاء الذات والطبع -  أي  أمر ما - و لا تكشف عن الاستحقاق ، إنما هي أعم من تلك الملاكات الأربعة ، فتأمل جيداً.
[45] وهذا القول ينسب للشيخ الرئيس.
[46] تذكرة :  قال الملا هادي السبزواري (قدس سره) في شرح الأسماء الحسنى  ، ج1 ص 94:( والجعل إما بسيط أو مركب ، وإما بالذات أو بالعرض ؛ فالجعل البسيط جعل الشيء، والجعل المركب جعل الشيء شيئاً .
 وبعبارة أخرى : على لسان السيد الحكيم قس سره في حقائق الأصول ، ج2 ص 7 : الجعل التأليفي هو المتعلق بنحو مفاد كان الناقصة ، والبسيط المتعلق بنحو مفاد كان التامة ؛ فالثاني مثل : جعل زيداً ، والأول مثل : جعله عالماً .

[47] أي لإيجاده تعالى المشمش.
[48] إذ القول : إن الله تعالى جعل المشمش مشمشاً ،  يعني :  إنه  جعله وأوجده ، ثم بعد ذلك اثبت له المشمشية.
[49] الذي هو مفاد كان التامة ،  أي كونه موجوداً فقط  ، إذن  فالجعل البسيط هو إفاضة الوجود على الماهية وجعلها  موجودة .
[50] ولا يخفى أن هذا البحث من المباحث الفلسفية ، حيث بحث هناك عن الجعل الذي قسموه إلى جعل بسيط وجعل مركب وجعل تأليفي ، وقد أدخله الأصوليون في  مباحثهم كما أدخلوا غيره  فيها ، وللمزيد انظر: الأسفار الأربعة : ج2 ص 297.، و أما في كتب الأصول : فانظر : كفاية الأصول  :  ص   125 .  

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : ١٠ شوال ١٤٣٨ هـ  ||  القرّاء : 11136



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net