بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(97)
الإستدلال بالانسداد الصغير على حجية خصوص الكتاب والسنة
فرغنا من الكلام عن مقتضى الأصل في حجية الظن وأن الأصل الحجية في صُوَرٍ معينة دون غيرها، ووصلنا إلى الأدلة العامة على حجية بعض الظنون بناء على الانسداد الصغير، وقد تبنى هذا الرأي المحقق الشيخ محمد تقي الرازي النجفي في هداية المسترشدين وتبعه من الفحول صاحب الفصول والشيخ محمد التقي الهروي الحائري، وقد أقام عليه الشيخ الرازي خمسة أدلة قرّرها تلميذه الهروي ببيان أكثر اختصاراً، وقد ذكرنا الوجه الأول مع مناقشات أربعة، وقبل أن نتطرق للوجه الثاني لابد أن نمهد بمقدمتين لايضاح موطن البحث ومبنى الأدلة فنقول:
العلم إما علم بالواقع أو علم بالطريق
المقدمة الأولى: إن العلم تارة يكون علماً بالحكم الواقعي أو بموضوعه، وأخرى يكون علماً بالطريق إلى الحكم أو الموضوع، وكذلك حال الظن المطلق والخاص فإنه قد يكون ظناً بالحكم وقد يكون ظناً بالطريق، وبعبارة أشمل: الحجة قد تكون على الواقع وقد تكون على الطريق إليه.
والمراد بالطريق إلى الحكم: الخبر المتواتر والمستفيض وخبر الثقة والنصوص والظواهر وأشباهها مما اعتبره الشارع، تأسيساً أو امضاءً، طريقاً إلى أحكامه، فقد أعلمُ بخبر الثقة وقد أظن به وقد أعلم بوجود خبر متواتر وقد أظن به ظناً خاصاً أو مطلقاً.
والمراد بالطريق إلى موضوع الحكم: البينة والاقرار واليمين وسوق المسلمين وأصالة الصحة وشبه ذلك، فقد أعلم بوجود البينة وعدالتها وقد أظن بذلك.
النسبة بين العلم بالحكم والعلم بالواقع
ثم إن النسبة بين العلم (أو الظن) بالحكم والعلم (أو الظن) بالطريق هي العموم من وجه، إذ قد يعلم بالطريق، كوجود خبرِ ثقةٍ في المسألة، صغرىً وأنه حجة قطعاً، لكنه لا يعلم بكون مؤداه هو الحكم الواقعي، لاحتمال التقية أو النسخ أو التقييد والتخصيص أو حتى السهو والنسيان فإن خبر الثقة الضابط حجة قطعاً ولكن لا يستلزم العلمُ بحجية الطريق، العلمَ بمطابقته للواقع لاحتمال الخطأ أو تفكيك الإرادة الجدية عن الاستعمالية.
كما قد يعلم بالحكم الواقعي من دون علم بالطريق أي الطريق المقرر أو الممضى من الشارع، وذلك كما لو علم بالحكم عبر الجفر أو الرمل والاسطرلاب أو عبر الأحلام أو عبر الطرق العلمية الحديثة كحساب الاحتمالات، أو حتى عبر القياس مما علم ردع الشارع عنه، لكنه، على الفرض، حصل له العلم منه، والقطع، على المشهور، حجة ذاتية وإن ناقشنا في ذلك في كتاب (فقه الرؤى) وغيره وكذا لو حصل له القطع بالموضوع، ككون هذا سارقاً، لا من البينة والإقرار وشبهه بل من علم الفراسة أو قواعد علم الجريمة، أو علم أنه ابنه لا للفراش بل من فحص الحمض النووي مثلاً، أو علم بأي موضوع عبر الاستبيان والاستطلاع.
ومن ذلك ما بنى عليه المشهور من جواز قضاء القاضي بعلمه وإن لم يكن عبر الطرق الشرعية المعهودة كالبينة واليمين والإقرار وشبه ذلك، وإن كنا ناقشنا فيه في محله.
الانسداد الكبير والصغير والثمرة بينهما
المقدمة الثانية: إن الانسداد إما صغير وإما كبير، والانسداد الكبير يتحقق فيما لو انسد باب العلم بالواقع، والصغير يتحقق فيما لو انسد باب العلم بالطريق، ووجه تسميتهما في المقام بالصغير والكبير([1]) هو الثمرة، وذلك لأنّ:
أ- باب العلم (أو الظن) بالحكم الواقعي لو انسد، أنتج حجية الظن بالواقع ولو كان عن غير الطرق الشرعية المقررة كالشهرة والإجماع المنقول بناء على عدم حجيتهما، أو كان عبر الطرق المنهي عنها كالقياس، لذا يسمى بالانسداد الكبير بلحاظ ثمرته.
ب- وباب العلم بالطريق لو انسد، ينتج حجية الظن بالطريق، ولا ينتج بحسب صاحب هداية المسترشدين، حجة الظن بالواقع، كما سيأتي.
والحاصل: أنه (قدس سره)يريد تخصيص الحجية بالكتاب والسنة، على الانسداد؛ فيقرره انسداداً صغيراً كما يريد نفي حجية مطلق الظن بالحكم الواقعي من أي طريق حصل ولذا ينفي كونه انسداداً كبيراً.
إذا اتضح ذلك فلنقتطف رؤوس نقاط كلامه بحسب تلخيص المحقق الهروي له:
قال: (المسلك الثاني: أن اللازم على المكلفين هو العلم بالأحكام الشرعية من الطرق التي قررها الشارع لأجل معرفتها، وأوجب الأخذ منها.
فاللازم عليهم هو العلم بتلك الطرق، وبعد الانسداد يقوم الظن بالطرق مقام العلم بها، ويلزم أخذ الأحكام من الطرق الظنية، وأين هو من حجية الظن بالواقع مطلقاً؟!)([2]).
الأدلة الأربعة على وجوب العلم بالطريق لا المؤدى
وقد استدل (قدس سره) على ذلك بأربعة أدلة، أي إنه استدل على أن الواجب العلم بالطريق لا بالمؤدى وأن المبرئ للذمة هو الأول، ولا يتوقف التنجيز والإعذار على الثاني (وإن كان قد يقرّر بأنهما لا يتمّان على الثاني ، كما سيأتي).
الأول: دليل العقل، قال: (والدليل على ما ذكرناه أن ما يدل على وجوب تحصيل العلم من العقل والنقل لا يدلّ على أزيد من ذلك)([3]).
الثاني: ما نعلمه من بناء الشارع في الأحكام الشرعية على الاكتفاء بالعلم بالطريق دون العلم بالمؤدى، قال: (فإذا حصل القطع بما هو المكلف به من الطريق المقرر من الشارع وعلم أن العمل على النحو الفلاني مما يحكم الشارع معه ببراءة ذمتنا، ويرضى به عنا، فلا شبهة أن الإتيان بذلك العمل على ذلك النحو يكون مبرءً للذمة، ولا يجب علينا غيره سواء علمنا بأنه المطابق للواقع ونفس الأمر، أو لا، وعلى فرض مخالفته للواقع فليس للشارع أن يعاقبنا عليه إذا لم نعلم بالمخالفة.
ألا ترى أن الصلاة مشروطة بالطهارة الواقعية مع أن من تطهر بالماء المظنون النجاسة تكون طهارته هذه صحيحة، وإن أمكن له التطهر بالماء المعلوم الطهارة، وكذا لو صلى بهذه الطهارة أو بالطهارة المستصحبة مع شكه في حدوث الحدث، بل ومع ظنه أيضاً تكون صلاته هذه صحيحة قطعاً مبرئة لذمته جزماً ما لم ينكشف خلافه، مع أن مظنونه عدم الطهارة الواقعية)([4]).
الثالث: طريقة الشارع في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، قال: (ويدل على ما ذكرناه أيضاً: ما هو المعلوم من طريقة النبي والأئمة (عليهم السلام) حيث أنهم لم يوجبوا العلم بالحكم الواقعي لمن في بلدهم من الرجال والنسوان، بل كانوا يكتفون عنهم بما وصل إليهم من أخبار الثقات، مع أن خبر الثقة لا يوجب القطع بالحكم الواقعي، لاحتمال السهو والنقصان، بل كل حكم من الأحكام كان محتملاً للنسخ في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) في كل آنٍ، ولم يوجب النبي (صلى الله عليه وآله) على أحد التفحص والتجسس عن نسخ الحكم آناً بعد آن، بل كان الناس في ذلك العصر يعملون بمقتضى ما وصل إليهم من الأحكام من غير تفحص عن نسخه، أو تخصيصه، و تقييده إلى أن يصل إليهم ما يدل على خلافه.
هذا هو حال من في بلد النبي والإمام (عليهم السلام)، وأما حال النائين عن بلد الحضور، فأظهر، إذ لم يمكن لهم القطع بالواقع في كل واحد من الأحكام، لا سيما بعد كثرة الكذابة على النبي والأئمة (عليهم السلام) وقيام احتمال النسخ والتخصيص والتقييد في غالب الأحكام، واحتمال الغفلة والاشتباه والسهو، وسوء الفهم في الرواة، وإن كانوا عدولاً ثقات.
ومع هذا كله لم يأمرهم النبي والأئمة (عليهم السلام) بالمهاجرة إلى بلد الحضور، ولا بأخذ الأحكام بطريق القطع واليقين، بل كانوا يكتفون منهم بأخذ الأحكام من الثقات، كما هو حال العوام في هذه الأعصار في رجوعهم إلى المجتهد، فإنه يجوز لهم أخذ الأحكام عن المجتهد بتوسط العدول، وإن كانوا متمكنين من العلم كما صرحوا به)([5]).
وبعبارة أخرى: لم يكونوا مكلفين بالفحص والبحث، بل كانوا مكلفين بالعمل بما وصل إليهم والانتظار فقط، فكانوا، بعبارة عرفية، منفعلين منتظرين لا فاعلين مبادرين.
وسيأتي بعض الإيضاح لكلامه، مع تتمته، ثم مناقشاته بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدْعُو وَيَسْتَبْطِئُ الْإِجَابَةَ وَقَدْ سَدَّ طَرِيقَهَا بِالْمَعَاصِي))
(بحار الأنوار: ج75 ص72).
-------------------
([1]) إذ قد يسمى الانسداد بالكبير بلحاظ شموله لكافة أبواب الفقه، وبالصغير لاختصاصه بباب دون باب أو كتاب دون كتاب.
([2]) رسالة في نفي حجية مطلق الظن: الشيخ محمد تقي الهروي الحائري ص151.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدْعُو وَيَسْتَبْطِئُ الْإِجَابَةَ وَقَدْ سَدَّ طَرِيقَهَا بِالْمَعَاصِي))
-------------------
([1]) إذ قد يسمى الانسداد بالكبير بلحاظ شموله لكافة أبواب الفقه، وبالصغير لاختصاصه بباب دون باب أو كتاب دون كتاب.