بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(124)
تنبيهات الإنسداد
هل الظن بالحكم حجة أو الظن بالطريق أو الأعم؟
التنبيه الأول: أن نتيجة مقدمات الإنسداد هل هي حجية الظن بالحكم الفرعي الواقعي؟ أم هي حجية الظن بالحكم الفرعي الظاهري؟ أم هي أعم من ذلك كله؟
بعبارة أخرى: هل مقدمات الإنسداد تنتج حجية الظن في الحكم الفقهي الفرعي أو تنتج حجيته في الحكم الأصولي الكلي أو الأعم؟
بعبارة ثالثة: هل تنتج تلك المقدمات حجية الظن بالحكم أم حجية الظن بالطريق إلى الحكم أو الأعم؟.
ذهب إلى الأول جماعة من الأصوليين والفقهاء، ومنهم المحقق القمي وصاحب الرياض والشيخ البهائي (قدس سرهم) وذهب إلى الثاني جماعة آخرون، ومنهم الشيخ أسد الله التستري وتلميذاه صاحبا الفصول وهداية المسترشدين (قدس سرهم)، بينما اختار الشيخ (قدس سره) الرأي الثالث وهو الأعم، وعليه فنتيجة مقدمات الإنسداد بنظرِهِ مطلقة.
مختار الشيخ هو الأعم ودليله
قال الشيخ (قدس سره): (وينبغي التنبيه على أمور:
الأول أنك قد عرفت أن قضية المقدمات المذكورة وجوب الإمتثال الظني للأحكام المجهولة، فاعلم: أنه لا فرق في الإمتثال الظني بين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الواقعي - كأن يحصل من شهرة القدماء الظن بنجاسة العصير العنبي - وبين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الظاهري، كأن يحصل من أمارة الظن بحجية أمر لا يفيد الظن كالقرعة مثلا، فإذا ظن حجية القرعة حصل الإمتثال الظني في مورد القرعة وإن لم يحصل ظن بالحكم الواقعي، إلا أنه حصل ظن ببراءة ذمة المكلف في الواقعة الخاصة، وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرءا للذمة)([1]).
وفي الوصائل في شرح قوله (كالقرعة مثلاً): (كأن يظنّ المجتهد بحجّية القرعة، ثم أقرع بالنسبة إلى العصير العنبي، والقرعة أفادت نجاسة العصير العنبي بدون أن يظنّ المقترع بنجاسته)([2]).
أقول: ههنا تعليق ومناقشة:
تعليق: التمثيل بتقليد المجتهد لغيره، على الإنسداد
أما التعليق: فهو أن التمثيل بالقرعة لعله غريب، وإن قيل أنه لا مناقشة في الأمثال، لأن القرعة حجة في الموضوعات (التي عليها العمل) وليست حجة في الأحكام، نعم قد يقال أنها كذلك([3]) في الأحكام على الإنفتاح أما على الإنسداد فيمكن القول بحجيتها، لكن الظاهر حسب الناقص من التتبع أنه لم يقل أحد بإجراء القرعة في الأحكام حتى على الإنسداد، على أنه بعيد عن بناء العقلاء حتى لدى الإنسداد فتأمل.
وعلى أية حال فإنه (قدس سره) أراد التمثيل للتوضيح وهو أعم من التزام أحد به.
ويمكن التمثيل بمثال أقرب وهو: (نظر المجتهد الآخر بالنسبة للمجتهد الأول، على الإنسداد) فإن المشهور التزموا بعدم حجية رأي الفقيه على الفقيه الآخر لدى الإنفتاح، بناء على أنه من رجوع العالم للجاهل بنظره، وإن ناقشنا فيه بأن المجتهد بالملكة إذا لم يجتهد بالفعل في المسألة فإنه بالحمل الشائع الصناعي جاهل بالفعل وأما الآخر، المساوي له في العلم فرضاً فكيف إذا كان أعلم، فإنه إذا اجتهد في المسألة فإنه عرفاً وبالحمل الشائع عالم، فيكون من رجوع الجاهل للعالم لا العالم للجاهل حتى بنظر المجتهد الأول إذ غاية الأمر أنه يحتمل خطأه، لا أنه يراه جاهلاً وإنما يراه جاهلاً لو اجتهد بالفعل وأدى نظره إلى خلاف نظره، على أن لنا في هذا كلاماً أيضاً ذكرناه في بعض المباحث السابقة([4]).
وعلى أية حال فإن ذلك كله في حال الإنفتاح وأما في حال الإنسداد، بأن إنسد على الفقيه باب العلم والعلمي، فإنه لا بأس حينئذٍ من القول بحجية نظر المجتهد الآخر بالنسبة له فيما اجتهد فيه دونه، كما ان كلام المشهور النافين للحجية، ليس ناظراً إلى باب الإنسداد، وعليه: فإنه لو ظن، لدى الإنسداد، بحجية رأي الفقيه الآخر المجتهد بالفعل ولكن لم يحصل له من نظره الظن بالحكم الواقعي، كان ذلك مثالاً لما قصده الشيخ بديلاً عن تمثيله بالقرعة، لكن هذا فيما لو لم يحصل له من نظر الآخر الظن بالحكم الفرعي، كما لو علم إجمالاً اختلاف مبانيهما ولم يعلم أن هذا المورد من صغريات اختلافهما أو من مفردات تطابقهما فإنه وجداناً لا يظن بالحكم حينئذٍ كما لا يظن بخلافه.
المناقشة: المطلوب أولاً: الواقع بما هو واقع، وإبراء الذمة لاحقٌ
أما المناقشة: فهي في قوله: (وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرءا للذمة)؛ إذ الظاهر الذي عليه الدليل أن الواقع بما هو واقع هو المقصود للمكلَّف وللمكلِّف أولاً وبالذات وأن براءة الذمة أمر لاحق يلزمه، فالمطلوب أولاً وبالذات، للمولى ثم للعبد، امتثال أمر المولى والوصول للواقع ويلزمه براءة الذمة، وتدل على ذلك الآيات وكذا الروايات إضافة إلى بناء العقلاء:
أما الآيات: فإن ظاهر قوله تعالى: ((أَقيمُوا الصَّلاةَ))([5]) هو أن إقامة الصلاة مطلوبة أولاً وبالذات وهي المأمور بها، لا براءة الذمة وإن لزمتها وإلا لكان ينبغي أن يقال: (أبرئوا ذمتكم بإقامة الصلاة أو بفعل ما يبرؤها) وكذلك ظاهر قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ))([6]) إذ لم يَرِد (لله على الناس إبراء ذمتهم من الحكم بحج البيت) فإنه لازم، ويشهد له أمثال قوله ((لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ))([7]) في تعليل الأمر بالحج فإنه دليل على أن الواقع مطلوب مقصود أولاً بالذات لأنه الحامل للمنافع، وبراءة الذمة أمر لاحق، وكذا قوله تعالى: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري))([8]) لا لبراءة ذمتك و((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))([9]) فالتقوى هي المطلوبة وهي الغاية من كتابة الصيام أولاً وبالذات لا براءة الذمة وإن لزمت وكانت مطلوبة تَبَعاً.
وبوجه آخر: الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات، والحامل للمصلحة والمفسدة هو الواقع بما هو واقع (أي أن الصلاة والصوم هما الحامل للمصلحة وشرب الخمر والزنا هما الحامل للمفسدة) فالمطلوب والمقصود للمكلِّف والمكلَّف هو الواقع بما هو واقع، غاية الأمر أنه يلزمه براءة الذمة.
بعبارة أخرى: كفاية براءة الذمة عن الواقع فيما لو يُصِب، وجود تنزيلي متنزّل عن المطلوب الأصلي، فلا يحل محله ولا يكون، لمجرد ذلك([10]) هو المقصود والمطلوب، بل المطلوب هو الواقع لكن الشارع من لطفه اكتفى في براءة الذمة لدى الخطأ، باتباع الحجة المعذّرة، تخفيفاً على العباد إذ لم يوجب الإحتياط، لا لأنها مطلوبة لذاتها، فقوله (قدس سره): (وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرءا للذمة) غير تام ظاهراً.
صلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((مَا أَحْسَنَ توَاضُعَ الأَغْنِيَاءِ للْفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ اتِّكَالًا عَلَى اللَّه ))(نهج البلاغة: الحكمة 406).
------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص437.
([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصائل الى الرسائل، مؤسسة عاشوراء ـ قم: ج5 ص68-69.
([3]) أي ليست حجة.
([4]) وإجماله أن مقتضى القاعدة التخيير بين النظرين لأن أدلة الحجية شملتهما بوِزان واحد على نحو القضية الحقيقية فراجع تفصيله في آخر كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية).
([5]) سورة البقرة: الآية 43.
([6]) سورة آل عمران: الآية 97.
([7]) سورة الحج: الآية 28.
([8]) سورة طه: الآية 14.
([9]) سورة البقرة: الآية 183.
([10]) الكفاية.