بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(126)
عبارة الفصول التي نقلها الشيخ
وقد نقل الشيخ ((قدسه سره)) نص عبارة صاحب الفصول ((قدسه سره)) ثم أشكل عليه بإشكالات خمسة، ولكن المستظهر عدم تمامية عدد منها كما سيأتي.
قال: (وقد خالف في هذا التعميم فريقان:
أحدهما: من يرى([1]) أنّ مقدّمات دليل الإنسداد لا تثبت إلا اعتبار الظن وحجيته في كون الشيء طريقاً شرعياً مبرءاً للذمّة في نظر الشارع، ولا يثبت اعتباره في نفس الحكم الفرعي، زعماً منهم عدم نهوض المقدمات المذكورة لإثبات حجية الظن في نفس الأحكام الفرعية، إما مطلقاً أو بعد العلم الإجمالي بنصب الشارع طرقاً للأحكام الفرعية)([2]).
وبعد أن ذكر الشيخ رأي الفريق الثاني قال: (أما الطائفة الأولى، فقد ذكروا لذلك وجهين:
أحدهما - وهو الذي اقتصر عليه بعضهم([3]) - ما لفظه:
"إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفاً فعلياً بأحكام فرعية كثيرة، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقاً مخصوصة، وكلفنا تكليفاً فعلياً بالرجوع إليها في معرفتها.
ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث إنه لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع عن السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لأنه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه"([4]) ([5]).
الإشكال الأول للشيخ: لو نصب الشارع طرقاً لبان
وقد أشكل عليه الشيخ ((قدسه سره)) بوجوه، قال:
(وفيه: أولاً: إمكان منع نصب الشارع طرقاً خاصة للأحكام الواقعية، كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها، لاحتياج كل مكلف إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى مسألة صلواته الخمس)([6]).
المناقشة
أقول: قد مضى منّا بعض الكلام عن ذلك وذكرنا أن كلام الفصول يتضمن ثلاثة قطوع وليس قطعين، وثالثهما هو ما ذكره ضمن كلامه لكنه لم يدرجه ضمن القطوع وهو القطع بأنه: (لا سبيل لنا بحكم العيان و شهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع...)([7]).
نضيف: أنه يمكن أن يقال بأن إشكال الشيخ على صاحب الفصول يمكن دفعه بأحد وجهين طوليين:
الفصول لا يقصد النصب بل الإمضاء أو كلامه محتمل الوجهين
الأول: أن يقال أن صاحب الفصول لا يقصد من قوله (قد جعل لنا...) نصبَ الشارع طرقاً جديدة تأسيساً كما استفاده الشيخ، كي يرد عليه ما أورده الشيخ من إمكان منع النصب إذ لو كان لبان، بل يقصد الأعم من التأسيس والإمضاء أو يقصد الإمضاء خاصة وإن كان تعبيره موهماً للنصب أو حتى ظاهراً فيه، وذلك بقرينة سائر كلماته الظاهرة في الإمضاء قال: (وممّا يكشف عمّا ذكرناه: أنا كما نجد على الأحكام أماراتٍ نقطع بعدم اعتبار الشارع إياها طريقاً إلى معرفة الأحكام مطلقاً وإن أفاد الظّن الفعلي بها كالقياس، والاستحسان، والسّيرة الظنيّة، والرؤيا، وظن وجود الدليل، والقرعة، وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له، كذلك نجد عليها أمارات أخر نعلم بأنّ الشارع قد اعتبرها كلّاً أو بعضاً طريقاً إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعليّ بها ولو بمعارضة الأمارات السابقة.
وهذه أمارات محصورة؛ منها: الكتاب والسنة الغير القطعيّين، والإستصحاب، والإجماع المنقول، والإتفاق الغير الكاشف، والشهرة، وما أشبه ذلك؛ فإنّا نقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلة القطعية في حقّنا أمارات أخرى خارجة عن هذه الأمارات، ومستند قطعنا في المقامين الإجماع، مضافاً في بعضها إلى مساعدة الأخبار والآيات؛ حتى إنّ القائلين بحجية مطلق الظنّ كبعض متأخري المتأخرين لا تراهم يتعدون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظن فعلي بمؤداها)([8]).
فإن تعبيره بـ(اعتبرها) عبارة عرفية ظاهرة في الإعتبار الإمضائي أو محتملة له على الأقل، سلّمنا لكن تعداده للأمارات المعتبرة([9])، وهي كلها عقلائية شاهد على أنه لا يريد تأسيس الشارع للطرق وجعله له، بل إمضاءها فتأمل.
وقال: (واعلم أنّ العقل يستقلّ بكون العلم طريقاً إلى إثبات الحكم المخالف للأصل ولا يستقلّ بكون غيره طريقاً إليه ولو مع تعذّره حيث لا يعلم ببقاء التكليف معه، بل يستقل حينئذ لعدم كون غير العلم طريقاً في الظاهر، وبسقوط التكليف ما لم يقم على حجية غير العلم قاطع سمعي واقعي، أو ظاهري معتبر مطلقاً، أو عند انسداد باب العلم إلى الدليل مع حصوله [وأما الإعتداد بظن التكليف وتجويزه في وجوب الفحص عقلاً فليس من حجية الظن أو التجويز في ثبوت التكليف المظنون أو المحتمل وإلا لما وجب الفحص بل لعدم تعويل العقل على أصل البراءة إلا بعد الفحص وعدم العثور على الدليل المعتبر].
ثمّ إن دلّ الدليل السمعيّ بأحد أنواعه على حجية طريق مطلقاً كان في مرتبة العلم مطلقاً فيجوز التعويل عليه ولو مع إمكان تحصيل العلم في تلك الواقعة، وإن دلّ على حجيته عند تعذّر العلم لم يجز التعويل عليه، إلا عند تعذّره؛ فيقدّم العمل بالعلم وبما دلّ الدليل السّمعي على قيامه مقامه مطلقا مع تيسّره.
وأمّا إذا انتفى الجميع وعلم ببقاء التكليف معه، ثبت بحكم العقل وجوب العمل بالظنّ الذي لا دليل على عدم حجيته. ثم الأقرب إليه على ما مرّ، وهذه مرتبة ثالثة متوقفة على تعذّر المرتبتين المتقدمتين)([10]).
فلعل مجموع كلامه يفيد أنه يريد الإمضاء لا التأسيس خاصة بشهادة اعتباره وجوب العمل بالظن حكماً للعقل، أو لا أقل من كون كلامه محتملاً للوجهين. فتأمل
سلّمنا، لكن مطلوبه يتم إذا أراد إمضاء الشارع لطرق محددة
الثاني: سلّمنا أن مراد صاحب الفصول الجعل التأسيسي والنصب، لكن نقول: لا يتوقف إثبات مقصوده على ذلك بل يتم مقصوده على التفصيل المذكور في كلامه حتى إذا أبدل الجعل بالإمضاء بأن يقول (كذلك نقطع بأن الشارع قد أمضى طرقاً مخصوصة من الطرق العقلائية إلى تلك الأحكام) إذ مع إمضاء الشارع لطرق مخصوصة عقلائية، كالخبر الصحيح الأعلائي مثلاً، فإنه إذا لم يمكننا نيله بالعلم فإن الوظيفة بحكم العقل نيله بالظن أي ما نظن أنه كان خبراً صحيحاً أعلائياً.. وسيأتي مزيد إيضاح لهذا لاحقاً فانتظر.
وعلى أية حال فإنه قد يجاب عن ذلك([11]) بأن الشارع إذا أمضى الطرق العقلائية أو أمضى طرقاً منها دون غيرها، دل على أن تمام المقصود لديه الحكم والمؤدى لا الطريق، فإن الأمر عند العقلاء كذلك فيكون مناقضاً لمطلوب الفصول من دعوى حجية الظن بالطريق خاصة، دون الظن بالحكم نفسه والمؤدى، نعم غاية الأمر عدم حجية ما نهى الشارع عنه من الطرق لا عدم حجية الظن بالمؤدى والحكم مطلقاً إلا عبر الطريق الذي أمضاءه، لوضوح أن الأقسام على هذا ثلاثة.
ثاني إشكالي الشيخ: سلّمنا النصب لكن بقاء الطريق غير معلوم
وقال الشيخ ((قدسه سره)): (وثانياً: سلّمنا نصب الطريق، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم.
بيان ذلك: أن ما حكم بطريقيته لعله قسمٌ من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للإطمئنان الفعلي بالصدور - الذي كان كثيراً في الزمان السابق لكثرة القرائن - ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان، أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبينة الشرعية أو الشياع مع إفادته الظن الفعلي بالحكم.
ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان، إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجالية محكي التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشي والنجاشي وغيرهما. ومن المعلوم أن مثل هذا لا تعد بينة شرعية، ولهذا لا يعمل بمثله في الحقوق)([12]).
الفرق بين الماضي والحدث المعاصر
وتوضيحه: أن الأخبار المنقولة عن المعاصرين من الأحياء يمكن الوصول إليها غالباً عن طريق القطع؛ ألا ترى أنه لو نُقِلَت فتوى عن مرجع حي أو نقل عنه موقف أو رأي غريب أو غير غريب، أمكن للسامع أن يحصل على واقع الحال بالقطع، عبر سؤال الحاشية والمكتب والوكلاء والزائرين له وهكذا أو عبر الشياع المفيد للعلم أو تعاضد القرائن أو حتى السؤال منه مباشرة، لكنّ هذا الخبر لو نقل عن الشيخ الطوسي أو العلامة الحلي أو الشيخ الانصاري، لما أمكن عادة الوصول إليه عبر القطع إذا انقرض وكلاؤه وماتت حواشيه ولا يمكن لأحد زيارته كما خفيت القرائن عبر الزمن لذا فإن لا يبقى لنا إلا الظن بصدق النقل.
وكذلك حالنا بالنسبة للروايات وحال معاصري المعصومين ((عليهم السلام)) فإنهم لوجودهم في زمنهم ((عليهم السلام)) أو قربهم منه جداً يمكنهم تحصيل التواتر، أو الشياع، أو القرائن القطعية على صحة الرواية أو على صدق الراوي (وعدالته أو وثاقته) ألا ترى أن المعاصر له ألف طريق وطريق لمعرفة حال معاصره ووثاقته من عدمها بأن يحقق من خمس طوائف: تلامذته وزملائه وأعوانه ومنافسيه وزواره حتى يجمع ما يفيد القطع عكس المتقدمين عليه بقرون وأحقاب، وأقل الطرق أن يحصل على بيّنة تشهد بعدالته أو بفسقه أو وثاقته وعدمها.
البيّنة على الأحداث الماضية([13]) ليست حجة
لا يقال: كذلك من هو في زماننا بالنسبة إلى الرواة عن المعصومين ((عليهم السلام)) رغم بُعد الزمن فإنه يمكنه تحصيل البيّنة على عدالة / وثاقة الرواة وذلك في الكثير من الرواة الذين تطابقت على عدالتهم أو وثاقتهم، أو العكس، أقوال رِجالِيَّين عادلَين أو أكثر، كما لو تطابق توثيق النجاشي مع توثيق الطوسي لراوٍ من الرواة، فيندرج تعديلهم أو توثيقهم له في الشهادة والبيّنة وما أكثر ما يتطابق قول رجالِيَّين في شأن أحد الرواة.
إذ يقال : البيّنة لا حجية لها إذا شهدت على الأحداث الماضية التي لم تشهدها، والسرّ أن وجه حجية البيّنة استنادها إلى الحس فإذا استندت إلى الحدس لم تكن حجة، فإذا رأى العادلان زيداً يسرق قبلت شهادتهما، أما إذا حدسا بكونه السارق فلا، والحاصل: أن أدلة الشهادة ظاهرة في الشهادة عن حس لا عن حدس، لانصراف لفظ الشهادة إليه بل مسلمية ذلك عند العرف العارف باللسان وقد روي عن النبي ((صلى الله عليه وسلم)) انه ((سُئِلَ عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ تَرَى الشَّمْسَ عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ))([14]) الظاهر في الشهادة عن حس.
وأما لو شهدت البيّنة بأن هذه الدار كانت قبل مأتي سنة للجد الأعلى لزيد، لم تقبل إذ لا شك حينئذٍ أنهما لم يشهدا ذلك عن حس مباشر، فيُسألان عن الواسطة فإن ذكرا أنهما سمعا بيّنة عن بيّنة عن بيّنة وهكذا حقّقنا عن حال كافة البينات الوسيطة فإن علمناها بالعدالة قبلت الشهادة، لكن كل بيّنة إنما تثبت كلام البيّنة التي سبقتها لا أكثر.
وفي المقام: النجاشي والكشي لو اعتبرنا قولهما من باب الشهادة لم يكن حجة، إذ لا شك أنهما لم يريا ولم يعاشرا الراوي المعاصر للإمامين الباقرين ((عليهما السلام))، ليعرفا حاله عن حس أو عن حدس قريب إلى الحس، بل إنما نقلا عمّن نقل عمّن نقل.. وحيث لم ينقلا لنا الوسائط ولم يصرحا بوجود بينات طولية متسلسلة ولم يذكراها، فكلامهما إذا عدّ من باب الشهادة لم يكن حجة أبداً.
بعبارة أخرى: جرحهما وتعديلهما من المراسيل وليست المراسيل حجة في باب الشهادة بل في باب الخبر أيضاً على المشهور، فهذا تقرير لكلام الشيخ ((قدسه سره))، وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
صلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((إِيَّاكَ وَالِاتِّكَالَ عَلَى الْأَمَانِيِّ، فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى([15]) وَتَثْبِيطٌ عَنِ الْآخِرَةِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج4 ص385).
--------------------------------
([1]) منهم: الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين وأخوه صاحب الفصول، كما سيأتي.
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص437-438.
([3]) وهو صاحب الفصول.
([4]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص277.
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص438-439.
([6]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص439.
([7]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص277.
([8]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص278.
([9]) التي عبّر عنها بالأمارات المحصورة.
([10]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص278.
([11]) المذكور في سلّمنا.
([12]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص443-444.
([13]) التي لم تصل إليها عن حس.
([14]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء ((عليه السلام)) ـ قم: ج3 ص528.
([15]) النَّوكى: الحمقى.
(126)
وقد نقل الشيخ ((قدسه سره)) نص عبارة صاحب الفصول ((قدسه سره)) ثم أشكل عليه بإشكالات خمسة، ولكن المستظهر عدم تمامية عدد منها كما سيأتي.
قال: (وقد خالف في هذا التعميم فريقان:
أحدهما: من يرى([1]) أنّ مقدّمات دليل الإنسداد لا تثبت إلا اعتبار الظن وحجيته في كون الشيء طريقاً شرعياً مبرءاً للذمّة في نظر الشارع، ولا يثبت اعتباره في نفس الحكم الفرعي، زعماً منهم عدم نهوض المقدمات المذكورة لإثبات حجية الظن في نفس الأحكام الفرعية، إما مطلقاً أو بعد العلم الإجمالي بنصب الشارع طرقاً للأحكام الفرعية)([2]).
وبعد أن ذكر الشيخ رأي الفريق الثاني قال: (أما الطائفة الأولى، فقد ذكروا لذلك وجهين:
أحدهما - وهو الذي اقتصر عليه بعضهم([3]) - ما لفظه:
"إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفاً فعلياً بأحكام فرعية كثيرة، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقاً مخصوصة، وكلفنا تكليفاً فعلياً بالرجوع إليها في معرفتها.
ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث إنه لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع عن السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لأنه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه"([4]) ([5]).
الإشكال الأول للشيخ: لو نصب الشارع طرقاً لبان
وقد أشكل عليه الشيخ ((قدسه سره)) بوجوه، قال:
(وفيه: أولاً: إمكان منع نصب الشارع طرقاً خاصة للأحكام الواقعية، كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها، لاحتياج كل مكلف إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى مسألة صلواته الخمس)([6]).
المناقشة
أقول: قد مضى منّا بعض الكلام عن ذلك وذكرنا أن كلام الفصول يتضمن ثلاثة قطوع وليس قطعين، وثالثهما هو ما ذكره ضمن كلامه لكنه لم يدرجه ضمن القطوع وهو القطع بأنه: (لا سبيل لنا بحكم العيان و شهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع...)([7]).
نضيف: أنه يمكن أن يقال بأن إشكال الشيخ على صاحب الفصول يمكن دفعه بأحد وجهين طوليين:
الفصول لا يقصد النصب بل الإمضاء أو كلامه محتمل الوجهين
الأول: أن يقال أن صاحب الفصول لا يقصد من قوله (قد جعل لنا...) نصبَ الشارع طرقاً جديدة تأسيساً كما استفاده الشيخ، كي يرد عليه ما أورده الشيخ من إمكان منع النصب إذ لو كان لبان، بل يقصد الأعم من التأسيس والإمضاء أو يقصد الإمضاء خاصة وإن كان تعبيره موهماً للنصب أو حتى ظاهراً فيه، وذلك بقرينة سائر كلماته الظاهرة في الإمضاء قال: (وممّا يكشف عمّا ذكرناه: أنا كما نجد على الأحكام أماراتٍ نقطع بعدم اعتبار الشارع إياها طريقاً إلى معرفة الأحكام مطلقاً وإن أفاد الظّن الفعلي بها كالقياس، والاستحسان، والسّيرة الظنيّة، والرؤيا، وظن وجود الدليل، والقرعة، وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له، كذلك نجد عليها أمارات أخر نعلم بأنّ الشارع قد اعتبرها كلّاً أو بعضاً طريقاً إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعليّ بها ولو بمعارضة الأمارات السابقة.
وهذه أمارات محصورة؛ منها: الكتاب والسنة الغير القطعيّين، والإستصحاب، والإجماع المنقول، والإتفاق الغير الكاشف، والشهرة، وما أشبه ذلك؛ فإنّا نقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلة القطعية في حقّنا أمارات أخرى خارجة عن هذه الأمارات، ومستند قطعنا في المقامين الإجماع، مضافاً في بعضها إلى مساعدة الأخبار والآيات؛ حتى إنّ القائلين بحجية مطلق الظنّ كبعض متأخري المتأخرين لا تراهم يتعدون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظن فعلي بمؤداها)([8]).
فإن تعبيره بـ(اعتبرها) عبارة عرفية ظاهرة في الإعتبار الإمضائي أو محتملة له على الأقل، سلّمنا لكن تعداده للأمارات المعتبرة([9])، وهي كلها عقلائية شاهد على أنه لا يريد تأسيس الشارع للطرق وجعله له، بل إمضاءها فتأمل.
وقال: (واعلم أنّ العقل يستقلّ بكون العلم طريقاً إلى إثبات الحكم المخالف للأصل ولا يستقلّ بكون غيره طريقاً إليه ولو مع تعذّره حيث لا يعلم ببقاء التكليف معه، بل يستقل حينئذ لعدم كون غير العلم طريقاً في الظاهر، وبسقوط التكليف ما لم يقم على حجية غير العلم قاطع سمعي واقعي، أو ظاهري معتبر مطلقاً، أو عند انسداد باب العلم إلى الدليل مع حصوله [وأما الإعتداد بظن التكليف وتجويزه في وجوب الفحص عقلاً فليس من حجية الظن أو التجويز في ثبوت التكليف المظنون أو المحتمل وإلا لما وجب الفحص بل لعدم تعويل العقل على أصل البراءة إلا بعد الفحص وعدم العثور على الدليل المعتبر].
ثمّ إن دلّ الدليل السمعيّ بأحد أنواعه على حجية طريق مطلقاً كان في مرتبة العلم مطلقاً فيجوز التعويل عليه ولو مع إمكان تحصيل العلم في تلك الواقعة، وإن دلّ على حجيته عند تعذّر العلم لم يجز التعويل عليه، إلا عند تعذّره؛ فيقدّم العمل بالعلم وبما دلّ الدليل السّمعي على قيامه مقامه مطلقا مع تيسّره.
وأمّا إذا انتفى الجميع وعلم ببقاء التكليف معه، ثبت بحكم العقل وجوب العمل بالظنّ الذي لا دليل على عدم حجيته. ثم الأقرب إليه على ما مرّ، وهذه مرتبة ثالثة متوقفة على تعذّر المرتبتين المتقدمتين)([10]).
فلعل مجموع كلامه يفيد أنه يريد الإمضاء لا التأسيس خاصة بشهادة اعتباره وجوب العمل بالظن حكماً للعقل، أو لا أقل من كون كلامه محتملاً للوجهين. فتأمل
سلّمنا، لكن مطلوبه يتم إذا أراد إمضاء الشارع لطرق محددة
الثاني: سلّمنا أن مراد صاحب الفصول الجعل التأسيسي والنصب، لكن نقول: لا يتوقف إثبات مقصوده على ذلك بل يتم مقصوده على التفصيل المذكور في كلامه حتى إذا أبدل الجعل بالإمضاء بأن يقول (كذلك نقطع بأن الشارع قد أمضى طرقاً مخصوصة من الطرق العقلائية إلى تلك الأحكام) إذ مع إمضاء الشارع لطرق مخصوصة عقلائية، كالخبر الصحيح الأعلائي مثلاً، فإنه إذا لم يمكننا نيله بالعلم فإن الوظيفة بحكم العقل نيله بالظن أي ما نظن أنه كان خبراً صحيحاً أعلائياً.. وسيأتي مزيد إيضاح لهذا لاحقاً فانتظر.
وعلى أية حال فإنه قد يجاب عن ذلك([11]) بأن الشارع إذا أمضى الطرق العقلائية أو أمضى طرقاً منها دون غيرها، دل على أن تمام المقصود لديه الحكم والمؤدى لا الطريق، فإن الأمر عند العقلاء كذلك فيكون مناقضاً لمطلوب الفصول من دعوى حجية الظن بالطريق خاصة، دون الظن بالحكم نفسه والمؤدى، نعم غاية الأمر عدم حجية ما نهى الشارع عنه من الطرق لا عدم حجية الظن بالمؤدى والحكم مطلقاً إلا عبر الطريق الذي أمضاءه، لوضوح أن الأقسام على هذا ثلاثة.
ثاني إشكالي الشيخ: سلّمنا النصب لكن بقاء الطريق غير معلوم
وقال الشيخ ((قدسه سره)): (وثانياً: سلّمنا نصب الطريق، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم.
بيان ذلك: أن ما حكم بطريقيته لعله قسمٌ من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للإطمئنان الفعلي بالصدور - الذي كان كثيراً في الزمان السابق لكثرة القرائن - ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان، أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبينة الشرعية أو الشياع مع إفادته الظن الفعلي بالحكم.
ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان، إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجالية محكي التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشي والنجاشي وغيرهما. ومن المعلوم أن مثل هذا لا تعد بينة شرعية، ولهذا لا يعمل بمثله في الحقوق)([12]).
الفرق بين الماضي والحدث المعاصر
وتوضيحه: أن الأخبار المنقولة عن المعاصرين من الأحياء يمكن الوصول إليها غالباً عن طريق القطع؛ ألا ترى أنه لو نُقِلَت فتوى عن مرجع حي أو نقل عنه موقف أو رأي غريب أو غير غريب، أمكن للسامع أن يحصل على واقع الحال بالقطع، عبر سؤال الحاشية والمكتب والوكلاء والزائرين له وهكذا أو عبر الشياع المفيد للعلم أو تعاضد القرائن أو حتى السؤال منه مباشرة، لكنّ هذا الخبر لو نقل عن الشيخ الطوسي أو العلامة الحلي أو الشيخ الانصاري، لما أمكن عادة الوصول إليه عبر القطع إذا انقرض وكلاؤه وماتت حواشيه ولا يمكن لأحد زيارته كما خفيت القرائن عبر الزمن لذا فإن لا يبقى لنا إلا الظن بصدق النقل.
وكذلك حالنا بالنسبة للروايات وحال معاصري المعصومين ((عليهم السلام)) فإنهم لوجودهم في زمنهم ((عليهم السلام)) أو قربهم منه جداً يمكنهم تحصيل التواتر، أو الشياع، أو القرائن القطعية على صحة الرواية أو على صدق الراوي (وعدالته أو وثاقته) ألا ترى أن المعاصر له ألف طريق وطريق لمعرفة حال معاصره ووثاقته من عدمها بأن يحقق من خمس طوائف: تلامذته وزملائه وأعوانه ومنافسيه وزواره حتى يجمع ما يفيد القطع عكس المتقدمين عليه بقرون وأحقاب، وأقل الطرق أن يحصل على بيّنة تشهد بعدالته أو بفسقه أو وثاقته وعدمها.
البيّنة على الأحداث الماضية([13]) ليست حجة
لا يقال: كذلك من هو في زماننا بالنسبة إلى الرواة عن المعصومين ((عليهم السلام)) رغم بُعد الزمن فإنه يمكنه تحصيل البيّنة على عدالة / وثاقة الرواة وذلك في الكثير من الرواة الذين تطابقت على عدالتهم أو وثاقتهم، أو العكس، أقوال رِجالِيَّين عادلَين أو أكثر، كما لو تطابق توثيق النجاشي مع توثيق الطوسي لراوٍ من الرواة، فيندرج تعديلهم أو توثيقهم له في الشهادة والبيّنة وما أكثر ما يتطابق قول رجالِيَّين في شأن أحد الرواة.
إذ يقال : البيّنة لا حجية لها إذا شهدت على الأحداث الماضية التي لم تشهدها، والسرّ أن وجه حجية البيّنة استنادها إلى الحس فإذا استندت إلى الحدس لم تكن حجة، فإذا رأى العادلان زيداً يسرق قبلت شهادتهما، أما إذا حدسا بكونه السارق فلا، والحاصل: أن أدلة الشهادة ظاهرة في الشهادة عن حس لا عن حدس، لانصراف لفظ الشهادة إليه بل مسلمية ذلك عند العرف العارف باللسان وقد روي عن النبي ((صلى الله عليه وسلم)) انه ((سُئِلَ عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ تَرَى الشَّمْسَ عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ))([14]) الظاهر في الشهادة عن حس.
وأما لو شهدت البيّنة بأن هذه الدار كانت قبل مأتي سنة للجد الأعلى لزيد، لم تقبل إذ لا شك حينئذٍ أنهما لم يشهدا ذلك عن حس مباشر، فيُسألان عن الواسطة فإن ذكرا أنهما سمعا بيّنة عن بيّنة عن بيّنة وهكذا حقّقنا عن حال كافة البينات الوسيطة فإن علمناها بالعدالة قبلت الشهادة، لكن كل بيّنة إنما تثبت كلام البيّنة التي سبقتها لا أكثر.
وفي المقام: النجاشي والكشي لو اعتبرنا قولهما من باب الشهادة لم يكن حجة، إذ لا شك أنهما لم يريا ولم يعاشرا الراوي المعاصر للإمامين الباقرين ((عليهما السلام))، ليعرفا حاله عن حس أو عن حدس قريب إلى الحس، بل إنما نقلا عمّن نقل عمّن نقل.. وحيث لم ينقلا لنا الوسائط ولم يصرحا بوجود بينات طولية متسلسلة ولم يذكراها، فكلامهما إذا عدّ من باب الشهادة لم يكن حجة أبداً.
بعبارة أخرى: جرحهما وتعديلهما من المراسيل وليست المراسيل حجة في باب الشهادة بل في باب الخبر أيضاً على المشهور، فهذا تقرير لكلام الشيخ ((قدسه سره))، وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((إِيَّاكَ وَالِاتِّكَالَ عَلَى الْأَمَانِيِّ، فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى([15]) وَتَثْبِيطٌ عَنِ الْآخِرَةِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج4 ص385).
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص437-438.
([3]) وهو صاحب الفصول.
([4]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص277.
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص438-439.
([6]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص439.
([7]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص277.
([8]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص278.
([9]) التي عبّر عنها بالأمارات المحصورة.
([10]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص278.
([11]) المذكور في سلّمنا.
([12]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص443-444.
([13]) التي لم تصل إليها عن حس.
([14]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء ((عليه السلام)) ـ قم: ج3 ص528.
([15]) النَّوكى: الحمقى.