بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرنا أن الفقه استدل بروايات المعرفة الكثيرة المتنوعة على "وجوب الاجتهاد في اصول الدين" واضفنا: وقد يستدل بها على "عدم كفاية الظن وإن كان ناشئاً عن الاجتهاد" و لكن الاستدلال بهذه الروايات متوقف بيان المراد من (المعرفة)، وتحديد التعريف الصحيح للمعرفة، وقد ذكرنا ثلاثة تعريفات مضت.
4: المعرفة هي ادراك الجزئي
التعريف الرابع : المعرفة هي: "إدراك الجزئي مطلقا" أي سواء أكان عن استدلال ونظر أم لا، وسواءً أكان الجزئي مفهوما أم أكان حكما، وفي مقابله إدراك الكلي فان إدراك الكلي لا يسمى – حسب هذا القول - معرفةً بل هو علمٌ، وذلك مثل إدراك "الإنسان نوع" أو "الإنسان حيوان ناطق" أو "ان الشكل الأول شروط انتاجه كذا وكذا" فانها كليات ليست من مقولة "المعرفة" بل هي من مقولة "العلم".
و يتفرع عليه – اي: اختصاص المعرفة بالجزئيات -أن قوله (عليه السلام): (أول الدين معرفته) و(اول عبادة الله معرفته) يدل على "وجوب المعرفة المصداقية، الشخصية، الجزئية" فلا تكفي المعرفة الكلية
فلا يكفي الاعتقاد بوجود إله وخالق للكون بنحو كلي بل يجب ان تكون المعرفة بما يشير إليه بشخصه، كما لا يكفي اعتقاد خلق الكون من ذرة أولى – وان أوجب لها صفات الواجب فرضاً – كما انه لا يكفي العلم بأصل إمامة أئمة اثني عشر نصبهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعده واحداً إثر الآخر؛ لأن هذه معرفةٌ كليةٌ ،قابلة للانطباق على كثيرين ، وإنما اللازم أن يعرفهم بأعيانهم و بما يشير إلى أشخاصهم وذواتهم .
5: ادراك الجزئي عن دليل
التعريف الخامس: -وهو أخص من الرابع- المعرفة: "هي إدراك الجزئي عن دليل" و هذا ينفع (الفقه) وسائر المستدلين على وجوب الاجتهاد في أصول الدين، وتبقى المناقشه في تمامية هذا التعريف وانه هل "المعرفة أعم منه أم مساوية له"، ستأتي لاحقاً إنشاء الله.
6:الادراك المسبوق بالعدم
القول السادس: "المعرفة هي خصوص الإدراك المسبوق بالعدم" فالمسبوقية بالعدم جزء مقوم، فالإدراك اذا سبقه العدم فيقال :"عرف ويعرف وعارف، وسائر التصريفات"، أما إذا لم تلاحظ مسبوقية هذه المعلومة بالعدم فهي علم، فالعلم أعم ، فهل معرفة أصول الدين من هذا القبيل ؟ هذا بحث صغروي سنشير إليه بإيجاز، والتفصيل في محله.
7:الادراك المسبوق بالعدم والادراك
التعريف السابع: -وهو أخص من السادس- "المعرفة هي خصوص الإدراك المسبوق بالعدم المسبوق بالإدراك" وبتعبير آخر: "إدراكان وعدم في البين"، فالمعرفة هي خصوص هذا الإدراك الثاني المسبوق بعدمٍ المسبوق -ذلك العدم- بإدراك سابق، ولعله تشهد لهذا المعنى بعض الآيات الشريفة كما سيأتي، وهذا التعريف دقيق ومحوري في الآيات والروايات.
هل هذان التعريفان –السادس و السابع -مطابقان للمعرفة أو أخص مطلقاً من المعرفة؟ سياتي بيانه ان شاء الله تعالى.
استطراد في دفع التعارض بين روايات المعرفة
بلحاظ هذين التعريفين يندفع توهم تناقض -اضطرب فيه البعض في روايات المعرفة – اذ طائفة من الروايات "تأمر بالمعرفة" وتعتبرها واجباً وفريضة على الانسان مثل: (أول الدين معرفته) (أول عبادة الله معرفته) -والعبادة اختيارية- وفي بعض الروايات انها "فرض" او "واجب" – ببعض تصريفاتها -، إذن مجموعة من الروايات تصرح بوجوب المعرفة أو تستبطن اختياريتها، وفي المقابل هناك طائفة اخرى من الروايات "تنفي كونها من صنع العبد" وتصرح بـ"أن المعرفة من فعل الله سبحانه وتعالى ليس للعباد فيها صنيع " نشير إلى روايتين من هذه الروايات، الاولى: في الكافي الشريف في باب "البيان والتعريف ولزوم الحجة " (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة من صنع من هي؟ قال: هي من صنع الله ليس للعباد فيها صنع) فإذا كانت من صنع الله وليس للعباد فيها صنع، فكيف وجبت وفرضت على العباد؟ كما هو منطوق ومفاد الروايات الأولى!
الثانية: عن الامام الصادق:(... فهل كلفوا المعرفة ؟ قال: لا، على الله البيان..) فالمعرفة على الله ومن الله، وليست على العباد.
الإجابة عن هذا التناقض المتوهم: هناك عدة إجابات تطرح في علم الكلام لكن هذا الإجابة –لعلها-جديدة ومفيدة وعليها شواهد كثيرة، وإجمالها: ان هذين التعريفين – اللذين نرى صحة كليهما بمعنى كونهما مصداقين للمعرفة – يتكفلان بمجموعها بالإجابة عن هذه الشبهة اذ الطائفة الثانية من الروايات التي تقول "المعرفة هي صنع الله وليس فيها للعباد صنع" تشير إلى المعرفة الأولى الابتدائية اي تشير إلى "فطرة الله التي فطر الناس عليها" فان الله غرسها في داخل الانسان، وبتعبير آخر: الأوليات و الفطريات، ومطلق البديهيات التي هي الاساس لكل المعارف وليس لأصول الدين فقط والتي لولاها لما حصل لنا (علم) قط بأي شيء إذ يلزم تسلسل النظريات، من دون ان تنتهي النظريات إلى الضروريات فلا نصل إلى علم أبداً. والحاصل ان الضروريات غرسها الله في أنفسنا، وهذا هو المنسجم مع المعنى السادس أي انه هو المراد من الطائفة الثانية لاختيارية المعرفة، اما الطائفة الاولى من الروايات التي تعتبر "المعرفة واجبة" فانها تشير إلى: "المعرفة الثانية المسبوقة بالعدم المسبوق بالوجود "، وذلك بمجمله يعني: حيث أن الله قد غرس فيك المعرفة الفطرية فأثِر دفائن العقول واستخرجها وتذكّر، فالطائفة الثانية تشير إلى لزوم أن يتذكر الإنسان ما غرسه الله في عقل الإنسان، عبر السير في الآفاق وفي الأنفس (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) أو بالتدبر والتفكر والتأمل، وهذا هو المنسجم مع المعنى السابع، أي انه هو المراد من الطائفة الآمرة بالمعرفة.
8:الفعل العقلي ....
التعريف الثامن : "الفعل العقلي الذي به يتم النفوذ إلى جوهر الموضوع لتفهم حقيقته بحيث تكون المعرفة الكاملة بالشيء خالية ذاتياً عن كل غموض وإلتباس أو محيطة موضوعية بكل ما هو موجود للشيء في الواقع"
ويرد عليه إشكالان: الأول: هو قوله "الفعل العقلي" مع ان المعرفة هي نتيجة "الفعل العقلي" وليست "نفس الفعل العقلي" فان الفعل العقلي يطلق عليه التفكر، فقد حدث خلط بين المعرفة وبين التفكر والفكر، الذي هو العلة المعدة للمعرفة فان: "الفكر حَرْكُة إلى المبادئ ومن مباديَ إلى المراد" إذن التفكير هو فعل عقلي أما المعرفة فهي ناتجة عن الفعل العقلي، وقد تنتج عن غيره كإلهام من الله سبحانه وتعالى وما اشبه .
ثانياً: هناك خلط في التعريف بين المعرفة المتعلقة "بالانيّة" والمعرفة المتعلقة "بالماهية" وسيأتي توضيح ذلك لاحقاً إنشاء الله. وصلى الله هل على محمد وآله الطاهرين.