بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(148)
5- مرجع الإحتياط في الطرق إلى الإحتياط في الحكم، فحكمه حكمه
الإشكال الخامس: ما اعترض به المحقق النائيني ((قدس سره) على الإحتياط في الطرق الذي التزم الشيخ بوجوبه، بديلاً عن الظن، بما ملخصه مع إضافة: إن الإحتياط في الطرق يرجع إلى الإحتياط في الأحكام فحكمه حكمه وحيث لم يجب لم يجب([1])، وبعبارة أخرى: إن اعتبار الإحتياط في الطرق إنما هو لأجل اعتبار مؤدياتها وهي الأحكام أو إنما هو لاعتبار الإحتياط في الأحكام، لأنه طريق إليه([2])، وبعبارة ثالثة: الإحتياطان متلازمان، فهذه تعبيرات ثلاثة استخدمها النائيني وفرّع عليها أن الإحتياط في الأحكام والمؤديات حيث لم يكن واجباً (أو لم يكن جائزاً)؛ لاستلزامه العسر والحرج أو لمخالفته للإجماع، فإن الإحتياط في الطرق إلى تلك الأحكام ليس بواجب قطعاً إذ كيف يزيد الفرع على الأصل؟ أو فقل: إذا لم يكن ذو المقدمة([3]) واجباً فكيف تكون المقدمة([4]) واجبة؟.
قال: (وأمّا ما أفاده بقوله: «ورابعاً: سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن، لكنّ اللازم من ذلك وجوب الإحتياط، لأنه مقدّم على العمل بالظن إلخ» ففيه: أنّ الإحتياط في الطرق- مع أنّه لا يمكن لمعارضة بعضها مع بعض وغير المعارض منها قليل لا يفي بالأحكام - يرجع إلى الإحتياط في الأحكام، فانّ الإحتياط بالطريق إنّما يكون باعتبار المؤدّى، والطرق إنّما تؤدّى إلى الأحكام، فالإحتياط فيها يلازم الإحتياط في الأحكام، بل هو هو، والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه. وهذا بخلاف الظن بطريقية الطريق، فانّه لا يلازم الظن بالحكم حتى يتوهّم: أنّ اعتبار الظن بالطريق يرجع إلى اعتبار الظن بالحكم.
فالإنصاف: أنّ هذه الوجوه الأربعة قابلة للدفع عن «صاحب الفصول»)([5]).
أقول: يمكن أن يناقش مجمل كلامه ((قدس سره) بست وجوه:
مناقشات ثلاثة مع المحقق النائيني
أما قوله: (ففيه: أنّ الإحتياط في الطرق- مع أنّه لا يمكن لمعارضة بعضها مع بعض وغير المعارض منها قليل لا يفي بالأحكام) فترد عليه وجوه ثلاثة:
الطرق المتعارضة قليلة
أولاً، صغرىً، بأن الطرق المتعارضة قليلة، لا العكس، إذ ما أقل انقلاب الشهرة مثلاً، لتكون من الطرق المتعارضة([6]) وما أقل الإجماعات المنقولة المتعارضة، بالقياس إلى عشرات الألوف من مسائل الفقه، بل حتى الأخبار فإن المتعارض منها تعارضاً مستقراً، في شتى المسائل، لا يعلم حتى كون نسبته 10% من مجموع الأخبار المتكفلة بكل المسائل، وعلى مدعي الكثرة في هذا الطرف والقلة في ذاك الطرف، الإثبات، بل قد يعجز حتى عن إثبات ان 20% أو حتى 10% من الاخبار متعارضة.
التعارض نوعان
ثانياً: كبرىً، بأن مطلق التعارض لا يستلزم عدم إمكان الإحتياط، إذ التعارض يكون تارة بالتخالف وأخرى بالتباين، والأخير هو الذي لا يمكن الجمع بين أطرافه بالإحتياط، والتعارض بالتباين كالوجوب والحرمة في صلاة الجمعة زمن الغيبة، والتعارض بالتخالف كدلالة أحد الخبرين على وجوب جلسة الاستراحة مثلاً ودلالة الآخر على استحبابه ومطلق دلالة أحد الخبرين على حكم لا إقتضائي سواء أكان الآخر إقتضائياً أم لا إقتضائياً أيضاً.
والظاهر أن التعارض بالتباين هو الأقل من موارد التعارض، فهو الأقل من الأقل لأن أصل تعارض الأخبار كما سبق أقل بكثير من الأخبار غير المتعارضة.
وللشيخ أن يلتزم بالإحتياط فالظن
ثالثاً: سلّمنا، لكن ذلك لا يشكّل ردّاً على احتياط الشيخ بل غاية الأمر يكون تتميماً له، فإن الشيخ يقول بحسب جوابه الرابع بوجوب الإحتياط في الطرق لدى الإنسداد فيتمّم بأن ذلك إنما يصح في صورة عدم تعارض الطرق (بالتباين) فإن تعارضت فالمرجع الظن في تعيين المرجع منها، وبذلك يختلف عن الظن الفصولي لأنه رآه المرجع لدى الإنسداد، أولاً ومنذ البدء، أما الشيخ فيراه مرجعاً بعد عدم إمكان الإحتياط أي يرى الإحتياط هو اللازم فان لم يمكن لتعارض الطرق بالتباين فإنه يعمل بما يورث منها الظن.
مناقشات ثلاثة أخرى معه ((قدس سره)
وأما قوله: (إن الإحتياط في الطرق... يرجع إلى الإحتياط في الأحكام، فإنّ الإحتياط بالطريق إنّما يكون باعتبار المؤدّى، والطرق إنّما تؤدّى إلى الأحكام، فالإحتياط فيها يلازم الإحتياط في الأحكام، بل هو هو، والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه) فترد عليه وجوه ثلاثة أخرى:
لا كلية لرجوع الإحتياط في الطرق للإحتياط في الأحكام
أولاً: إنّ الإحتياط في الطرق لا يرجع بالضرورة إلى الإحتياط في الأحكام وليس الإحتياط في الطريق مما لا يكون إلا باعتبار المؤديات، وذلك لأن الشيخ يقول بالمصلحة السلوكية، فلا يرد هذا الإعتراض عليه وإن ورد على غيره ممن لا يقول بها، بيانه: أن للشيخ أن يقول بأن الإحتياط في الأحكام إنما هو لإحراز المصالح الثبوتية أما الإحتياط في الطرق فلمصلحة سلوكية فيها، نظير المصلحة السلوكية في تقليد المجتهد العادل وإن كان الفاسق فرضاً أعلم منه، بوجه آخر: الإحتياط في الطرق يتنوّع بين ما يحمل المصلحة السلوكية وذلك فيما لو لم يؤد الإحتياط إلى الواقع كما لو قامت الأمارة على نفي الحكم وكان ثابتاً في الواقع، وبين ما يحمل المصلحة الواقعية وذلك فيما لو أدى إليه.
ولا تلازم بينهما
ثانياً: إنّ الإحتياط في الطرق لا يلازم الإحتياط في الأحكام، وذلك كما في الإحتياط بالعمل بالأمارات النافية (المطابقة لأصل البراءة أو لاستصحاب العدم) فإنه يخالف الإحتياط في الأحكام، وسيجيء مزيد بيان لهذا.
فرق الإحتياط في الأحكام عن الإحتياط في الطرق
ثالثاً: وهو العمدة، إن الظاهر أنه ((قدس سره) غفل عن النكتة الدقيقة في كلام الشيخ حيث التزم في الجواب الرابع بوجوب الإحتياط في الطرق، فأشكل المحقق النائيني عليه برجوعه إلى الإحتياط في الأحكام وحيث أن الأخير غير واجب أو غير جائز، كما قرر في المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد فالأول مثله.
والنكتة الدقيقة: هي أن كلام الشيخ، كالفصول، كله مبني على تسليم المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد وهي أن وجوب الإحتياط في الأحكام مستلزم للعسر والحرج، فانتقل الشيخ منه بعد تسليمه، في الجواب الرابع إلى وجوب الإحتياط في الطرق وهذا لا يستلزم العسر والحرج، والحاصل: أن عدم وجوب الإحتياط في الأحكام للزوم العسر والحرج منه لا يلزم منه عدم وجوب الإحتياط في الطرق حيث لا يلزم منه العسر والحرج، وقد سبق بيان ذلك: (وبعبارة أخرى: فرق بين الإحتياطين: الإحتياط الذي اعتبره الشيخ، كغيره، مستلزماً للعسر والحرج، وهو المذكور ضمن المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد، والإحتياط الذي اعتبره الشيخ هنا هو المرجع لدى الإنسداد، فذاك الإحتياط المرفوض هو الإحتياط في الأحكام الواقعية والإحتياط هنا هو الإحتياط بين الطرق إليها، ومن المعلوم كون الأول أوسع دائرة جداً من الثاني إذ الأحكام الواقعية المحتملة كثيرة جداً، ويحتمل ضياع كثير منها بطرقها، بضياع كتب ككتاب مدينة العلم وغيره، أما الطرق الموجودة بأيدينا، كالشهرة والإجماع المنقول والإستقراء، فإن الأحكام التي تضمنتها محدودة جداً فلا يلزم من الإحتياط بالعمل بكل ما في الطرق عسر وحرج)([7]).
ونضيف: إن مقتضى القاعدة، حسب المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد، أن لا يجب الإحتياط التام، فإذا لم يجب وجب الإحتياط الناقص (إذ لا ننتقل من عدم وجوب التام إلى لزوم العمل بالظن بل إذا تعذر الإحتياط التام أو تعسر بقي الإحتياط في الباقي مما لا يستلزم العسر، واجباً)؛ والإحتياط التام هو الإحتياط في كل الأحكام، أما الإحتياط الناقص فهو الإحتياط في خصوص الطرق إليها (وهو مدعى الشيخ ((قدس سره) في الجواب الرابع) ودائرة هذا الإحتياط صغيرة جداً بالقياس إلى الإحتياط التام الذي دائرته كبيرة جداً، فالإحتياط في الطرق وإن رجع إلى الإحتياط في الأحكام، لكن عدم وجوب الأخير إنما كان للزوم العسر والحرج، فيبقى الأول (الصغير) واجباً حيث لا يلزم منه العسر والحرج.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الحسين ((عليه السلام)): ((مِنْ دَلَائِلِ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ: الْجُلُوسُ إِلَى أَهْلِ الْعُقُولِ، وَمِنْ عَلَامَاتِ أَسْبَابِ الْجَهْلِ الْمُمَارَاةُ لِغَيْرِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَمِنْ دَلَائِلِ الْعَالِمِ انْتِقَادُهُ لِحَدِيثِهِ وَعِلْمُهُ بِحَقَائِقِ فُنُونِ النَّظَرِ))(تحف العقول: ص247).
----------------------------------------
([1]) حيث لم يجب الإحتياط في الأحكام، لم يجب الإحتياط في الطرق.
([2]) الإحتياط في الطرق طريق إلى الإحتياط في الأحكام وهذا الأخير طريق إلى الأحكام.
([3]) الإحتياط في الأحكام.
([4]) الإحتياط في الطرق.
([5]) الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، فوائد الاُصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم، ج3 ص285.
([6]) أجهد بعضهم نفسه باستقصاء موارد انقلاب الشهرة فأوصلها إلى أربعين مورداً، فعلى فرض صحة الإنقلاب فأين أربعين مسألة تعارضت فيها الشهرة من ألوف المسائل؟
([7]) الدرس (147).
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(148)
قال: (وأمّا ما أفاده بقوله: «ورابعاً: سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن، لكنّ اللازم من ذلك وجوب الإحتياط، لأنه مقدّم على العمل بالظن إلخ» ففيه: أنّ الإحتياط في الطرق- مع أنّه لا يمكن لمعارضة بعضها مع بعض وغير المعارض منها قليل لا يفي بالأحكام - يرجع إلى الإحتياط في الأحكام، فانّ الإحتياط بالطريق إنّما يكون باعتبار المؤدّى، والطرق إنّما تؤدّى إلى الأحكام، فالإحتياط فيها يلازم الإحتياط في الأحكام، بل هو هو، والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه. وهذا بخلاف الظن بطريقية الطريق، فانّه لا يلازم الظن بالحكم حتى يتوهّم: أنّ اعتبار الظن بالطريق يرجع إلى اعتبار الظن بالحكم.
فالإنصاف: أنّ هذه الوجوه الأربعة قابلة للدفع عن «صاحب الفصول»)([5]).
أقول: يمكن أن يناقش مجمل كلامه ((قدس سره) بست وجوه:
والظاهر أن التعارض بالتباين هو الأقل من موارد التعارض، فهو الأقل من الأقل لأن أصل تعارض الأخبار كما سبق أقل بكثير من الأخبار غير المتعارضة.
والنكتة الدقيقة: هي أن كلام الشيخ، كالفصول، كله مبني على تسليم المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد وهي أن وجوب الإحتياط في الأحكام مستلزم للعسر والحرج، فانتقل الشيخ منه بعد تسليمه، في الجواب الرابع إلى وجوب الإحتياط في الطرق وهذا لا يستلزم العسر والحرج، والحاصل: أن عدم وجوب الإحتياط في الأحكام للزوم العسر والحرج منه لا يلزم منه عدم وجوب الإحتياط في الطرق حيث لا يلزم منه العسر والحرج، وقد سبق بيان ذلك: (وبعبارة أخرى: فرق بين الإحتياطين: الإحتياط الذي اعتبره الشيخ، كغيره، مستلزماً للعسر والحرج، وهو المذكور ضمن المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد، والإحتياط الذي اعتبره الشيخ هنا هو المرجع لدى الإنسداد، فذاك الإحتياط المرفوض هو الإحتياط في الأحكام الواقعية والإحتياط هنا هو الإحتياط بين الطرق إليها، ومن المعلوم كون الأول أوسع دائرة جداً من الثاني إذ الأحكام الواقعية المحتملة كثيرة جداً، ويحتمل ضياع كثير منها بطرقها، بضياع كتب ككتاب مدينة العلم وغيره، أما الطرق الموجودة بأيدينا، كالشهرة والإجماع المنقول والإستقراء، فإن الأحكام التي تضمنتها محدودة جداً فلا يلزم من الإحتياط بالعمل بكل ما في الطرق عسر وحرج)([7]).
ونضيف: إن مقتضى القاعدة، حسب المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد، أن لا يجب الإحتياط التام، فإذا لم يجب وجب الإحتياط الناقص (إذ لا ننتقل من عدم وجوب التام إلى لزوم العمل بالظن بل إذا تعذر الإحتياط التام أو تعسر بقي الإحتياط في الباقي مما لا يستلزم العسر، واجباً)؛ والإحتياط التام هو الإحتياط في كل الأحكام، أما الإحتياط الناقص فهو الإحتياط في خصوص الطرق إليها (وهو مدعى الشيخ ((قدس سره) في الجواب الرابع) ودائرة هذا الإحتياط صغيرة جداً بالقياس إلى الإحتياط التام الذي دائرته كبيرة جداً، فالإحتياط في الطرق وإن رجع إلى الإحتياط في الأحكام، لكن عدم وجوب الأخير إنما كان للزوم العسر والحرج، فيبقى الأول (الصغير) واجباً حيث لا يلزم منه العسر والحرج.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الحسين ((عليه السلام)): ((مِنْ دَلَائِلِ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ: الْجُلُوسُ إِلَى أَهْلِ الْعُقُولِ، وَمِنْ عَلَامَاتِ أَسْبَابِ الْجَهْلِ الْمُمَارَاةُ لِغَيْرِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَمِنْ دَلَائِلِ الْعَالِمِ انْتِقَادُهُ لِحَدِيثِهِ وَعِلْمُهُ بِحَقَائِقِ فُنُونِ النَّظَرِ))(تحف العقول: ص247).
([1]) حيث لم يجب الإحتياط في الأحكام، لم يجب الإحتياط في الطرق.
([2]) الإحتياط في الطرق طريق إلى الإحتياط في الأحكام وهذا الأخير طريق إلى الأحكام.
([3]) الإحتياط في الأحكام.
([4]) الإحتياط في الطرق.
([5]) الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، فوائد الاُصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم، ج3 ص285.
([6]) أجهد بعضهم نفسه باستقصاء موارد انقلاب الشهرة فأوصلها إلى أربعين مورداً، فعلى فرض صحة الإنقلاب فأين أربعين مسألة تعارضت فيها الشهرة من ألوف المسائل؟
([7]) الدرس (147).