179- مسائل ثلاثة تستفاد من الرواية ـ هل الرواية ، في مقام تحديد الكمال ام الاصل ؟ ـ هل المراد تحديد المعنى اللغوي ام انشاء مصطلح شرعي ام انه تعريف لحصة خاصة ؟
السبت 25 ذي الحجة 1433هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث في روايات المعرفة التي استدل بها على وجوب الاجتهاد في أصول الدين وعلى وجوب تحصيل العلم في أصول الدين وعدم الاكتفاء بالظن.وذكرنا أن ذلك موقوف على تعريف المعرفة كي يتحدد ويتميز المتعلق المأمور به وانه ما هو؟ وصلنا إلى رواية أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر (عليه السلام) حيث ان هذه الرواية تحدد المعرفة وتعرّفها حيث جاء فيها: (قلت -أبو حمزة الثمالي-: جعلت فداك، فما معرفة الله؟ قال (عليه السلام): تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله وموالاة علي والائتمام به وبأئمة الهدى والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم، هكذا يعرف الله عز وجل)
توضيح الاستدلال بهذه الرواية الشريفة في ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى: المسائل المستفادة من الرواية
اولا: نفي اشتراط كون المعرفة عن اجتهاد، وذلك لأن الرواية في مقام تفصيل المعرفة، لكن مع ذلك لم يشترط الامام ولم يذكر بل حتى لم يشر إلى لزوم كون المعرفة عن اجتهاد، فبما ان الإمام في مقام التفصيل والمسألة مورد ابتلاء ومورد حاجة شديدة، ومع ذلك لم يشر الإمام (عليه السلام) إلى اشتراط النظر والاستدلال في معرفة الله، فإن ذلك عرفاً يصلح دليلاً لنفي هذا الاشتراط.
ثانيا: الرواية تتحدث عن الجزئي والمصداق والحقيقة العينية الخارجية ولا تتحدث عن المفهوم والكلي، فان الإمام في مقام تحديد المعرفة ذكر المعرفة المصداقية، قال (عليه السلام): (تصديق الله عز وجل ) وليس مجرد تصديق أن هناك خالقاً ما (وتصديق رسوله) وليس تصديق بأن هناك رسولاً ما، وكذلك: (وموالاة علي عليه الصلاة والسلام. ..).
الثالثا: أن (التصديق) عرفاً ولغةً لوحظت فيه درجة خاصة من الوضوح و الإذعان ولذا لا يقال للظان بأنه "مصدق" فعند الظن بصدق الكلام يقال: "انني ظان بصدق كلامك" ولا يقال "انني مصدق بكلامك" إلا على ضرب من التسامح والتجوز، فكلمة "التصديق" أظهر في هذا من كلمة "المعرفة" من هذه الجهة، وإن كنا ننفي ذلك في المعرفة ايضا لكن قد يتوهم بأنها تطلق على المعرفة الظنية أيضاً، اما "التصديق" فلا يطلق إلا في ما لو كان هناك تصديق حقيقي اي العلم أو المتاخم للعلم.
والحاصل: ظاهر هذه الرواية أولاً نفي اعتبار الاجتهاد والنظر في المعرفة، ثانياً: اعتبار العلم أو المتاخم للعلم، في المعرفة، نظراً لظهور كلمة "تصديق الله" في كونه عن علم أو شبه العلم الذي هو الاطمئنان، فتأمل.
النقطة الثانية: هل الرواية في مقام اصل المعرفة او كمالها؟
ان قلت: أن ظاهر الرواية أو محتملها على أقل تقدير، هو تعريف "المعرفة الكاملة" لا "المعرفة بما هي هي"، وحينئذ تكون الرواية أجنبية عن مقام تعريف المعرفة في ذاتها بما هي هي، فلا تحمل اوامر المعرفة عليها، وايضا لا يصح سلب المعرفة عن غير واجد الأركان التي ذكرها الإمام التي هي: تصديق الله والرسول وموالاة علي والأئمة والائتمام بهم والبراءة من عدوهم . والشاهد على ذلك قوله (عليه السلام) "إنما يعبد الله من يعرف الله" اذ الإمام نفى –بالحصر- العبادة والعبادية عمن لا يعرف الله، مع انه بالوجدان وخارجاً نرى بأن من لا يعرف الله حقيقة، كالمجسمه مثلاً، يعبده، ويصدق عليه انه عَبَدَهُ بالحمل الشايع الصناعي وان كانت العبادة غير مقبولة، فالمراد من قوله (عليه السلام) (إنما يعبد الله. ..) العبادة الكاملة وإن شئت فقل: العبادة المقبولة، فمن لا يعرف الله، عبادته ليست مقبولة أو ليست بكاملة وحينئذ ينتفي الاستدلال بهذه الرواية لتحديد "اصل المعرفة" وتعريفها بما هي هي.
وبعبارة اخرى: "أداة الحصر –انما-" هل تنفي أصل العبادة أو تنفي كمالها؟ وهل مصبها هو الأصل أو الكمال؟ فان كان مصبُّها الأصل، فحينئذٍ ينتفي أصل المعرفة بفقد أحد تلك الأركان الخمسة ويكون تعريفا لحقيقة المعرفة، وإلا لكان تعريفاً للكمال الذي لا ينفي الصدق على فاقد الكمال، فالظاهر ان الإمام ليس في مقام تعريف "جوهر المعرفة"، وإنما في مقام تعريف كمال المعرفة أو الدرجات العليا.
قلنا : الشاهد على أن المراد "نفي الأصل" لا "نفي الكمال" هو قوله (عليه السلام) (فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالا) فليس الكلام في مقام نفي الكمال بل في مقام "نفي الأصل"؛ لأن الضلال لا ينسجم مع العبادية، فان الركن الأساسي في العبادة هو "التقرب الى الله سبحانه وتعالى"، وهنالك مانعة جمع "بين العبادية والمقربية وبين كون الشيء ضلالاً" فان الضلال مبغوض لله مكروه له مبعد عنه، فكيف يكون مقرباً إليه ؟! إذن نفيه (عليه السلام) الهداية عمّن يعبد هكذا وإثباته (عليه السلام) الضلال له، دليل على أن المعرفة والعبادة المنفية، المراد بها الأصل لا الكمال.
والحاصل: ليس الكلام عن نفي كمال العبادة لكي تنتقل منه إلى نفي كمال المعرفة، بل الكلام عن نفي أصل العبادية فيلزم منه نفي أصل المعرفة، وفي قوله (عليه السلام) (إنما يعبد الله من يعرف الله) فان نفي التالي ينتج نفي المقدم، فمن لا يعرف الله لا يعبد الله سبحانه وتعالى ، فإذا لم تجتمع هذه الأركان الخمسة فليست العبادة بعبادة بل هي ضلالة. فتأمل
تحقيق: في بيان المقصود من التعريف المذكور في الرواية
والتحقيق ان المقصود من التعريف المذكور في جواب السائل (ما معرفة الله؟) حيث قال (عليه السلام) :( تصديق الله عزوجل وتصديق رسوله...)؟ وفي تحديد أن الإمام في أي مقامٍ هو، هو أحد احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: الرواية في مقام التعريف اللغوي أو العرفي، للمعرفة.
الاحتمال الثاني: في مقام بيان "الحقيقة الشرعية" وبيان المصطلح الخاص للشارع الأقدس في كلمة "المعرفة "، فتكون المعرفة، كالصلاة فقوله تعالى: (أقم الصلاة) لا يراد بها المعنى اللغوي، بل المعنى الشرعي للصلاة، فكذا (أول الدين معرفته).
الاحتمال الثالث: أن ندعي بأن الإمام (عليه السلام) في مقام تعريف حصة خاصة من المعرفة، وهي تلك المعرفة التي وقعت متعلقاً "للأمر الشارعي" في روايات المعرفة الأخرى من دون وجود حقيقة شرعية.
وبتعبير أوضح: الإمام في مقام تعريف وبيان "المعرفة المأمور بها و الواجبة المفترضة" لا في مقام تعريف أصل مفردة "المعرفة" لغوياً، ولا في مقام إنشاء اصطلاح شرعي أو الكشف عن وجود مصطلح شرعي من زمان الرسول (صلى الله عليه وآله)، فلا هو (عليه السلام) منشئ ولا هو مخبر عن مصطلح شرعي، وهذا المعنى الثالث سنوضحه، وفرقه عن الأوليين لاحقاً، ونبدأ ان شاء الله بنفي الأولين لكي نصل إلى الثالث، وتتمة الحديث غداً إنشاء الله.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
السبت 25 ذي الحجة 1433هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |