بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث في الأدلة الروائية التي استدل بها على وجوب الاجتهاد في أصول الدين، ومنها روايات "وجوب المعرفة" ثم توقفنا عند "حقيقة المعرفة" فذكرنا بعض الروايات التي قامت بتعريف المعرفة حيث يسأل السائل من الإمام (عليه السلام): (ما معرفة الله؟ فقال (عليه السلام): تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله وموالاة علي والائتمام به وبأئمة الهدى عليهم السلام والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم، هكذا يُعرف الله عز وجل)
المحتملات في تعريفات الروايات
والمحتملات في هذا التعريف واشباهه متعددة: الاحتمال الأول: أن يكون تعريفاً للمعنى اللغوي للمعرفة. الاحتمال الثاني: أن يكون تعريفاً "للمصطلح الشرعي" في المعرفة أي أن يكون كاشفاً عن وجود حقيقة شرعية ومصطلح خاص للمعرفة في لسان الشارع فبينه الامام (عليه السلام) بتعريفه الذي ذكره . الاحتمال الثالث: أن يكون تعريفا لحصة خاصة من المعرفة، وهي المعرفة المأمور بها أو المعرفة المطلوبة للشارع أو ما أشبه .
نفي الاحتمال الاول: التعريف اللغوي
أما الاحتمال الأول: فتنفيه "صحة الحمل" على الفاقد و"عدم صحة السلب" عن فاقد هذه الأركان، اذ المعرفة وإن تجردت عن "التصديق والموالاة والإئتمام والبراءة عن عدوهم" يصح حملها على العالم بالشيء كما لا يصح سلبها عنه، والشاهد على ذلك قوله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا) إذ جمع الله تعالى الصفتين في هؤلاء فهم يعرفون لكنهم مع ذلك ينكرون، فليس "الإذعان والإقرار والتصديق" ونظائرها مقوماً للمعرفة، لصدق المعرفة لغةً وعرفا رغم الإنكار، وكذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ) فان الكافر غير مصدق وإن كان عارفا، فلم يسبب إطلاق صفة الكفر عليهم سلب صفة المعرفة عنهم، ولذا قال تعالى (ما عرفوا)، والظاهر انه لا وجه للقول بانهم "لما كفروا به، سلبت منهم المعرفة" اي انهم قبل ذلك كانوا عارفين لكنهم صاروا بعده غير عارفين -" فانه لم يتغير شيء في (الصورة الذهنية) لديهم، وفي كاشفيتها عن الواقع، ولم يحدث تغيّر بعد الانكار، والحاصل: انه قبل الإنكار وبعد الإنكار كانت الصورة المرتسمة هي نفسها، والكاشفية هي نفسها، وانما لم يستمر "الإذعان" و "عقد القلب" على ما كشفت صورتهم الذهنية عنه، وذلك أيضاً نظير قوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) فلا يصح سلب صفة اليقين عنهم بعد الجحود بان نقول انهم بعد الجحود لا يصدق عليهم كونهم متيقنين .
وبتعبير آخر: "التصديق والإقرار والموالاة والبراءة" في رتبة لاحقة عن المعرفة اي رتبة "آثار المعرفة ولوازمها " فان هذه الصفات الأربعة في رتبة اللوازم وفي رتبة المحمولات على المعرفة وفي رتبة النتائج والآثار، و بتعبير أدق المعرفة مقتضية لها وليست علة تامة لها لذا قد تنفك عنها كثيرا.
والحاصل: ان صحة حمل وعدم صحة السلب حتى في دائرة الألفاظ التي استخدمها الشارع في القرآن الكريم أو في الروايات، متحققة ، وان الرواية ليست في مقام تحديد المعنى اللغوي أو العرفي لكلمة (المعرفة).
نفي الاحتمال الثاني: الحقيقة الشرعية
اما الاحتمال الثاني : فهو منتفى ايضا ؛لوجوه كثيرة، ونقتصر على ذكر وجهين: 1- وجه داخلي يستفاد من الرواية بنفسها، 2- ووجهٌ يستفاد من سائر الروايات، ونقتصر على رواية واحدة -وهذا الوجه يدفع توهم تناقض بين الروايات أو تخالف كما سيأتي- :
1- قرينية قوله (عليه السلام) (هكذا) على نفي هذا الاحتمال
الوجه الأول -الداخلي-: قوله (عليه السلام) (..هكذا يعرف الله..) فان كلمة (هكذا) تطرد احتمال الحقيقة الشرعية وتنفي كون الإمام (عليه السلام) في مقام بيان الحقيقة الشرعية، وتفيد (هكذا) انه ليس الجواب عن "ما" الشارحة ولا الحقيقية، والوجه في ذلك، أن (هكذا) عندما تستخدم فإنها تفيد، اولا: أن ما في دائرة (هكذا) "داخلٌ مرادٌ"، وثانيا: تدل على أن ما هو في خارج دائرة (هكذا) "داخل غير مراد"
توضيح ذلك -بالمثال- : عندما تقول لأبنك أو لصاحبك: "أمش هكذا" فانك تريد به "مِشية خاصة" علمتها إياه، أو عندما تقول "وقّر الكبار هكذا" فانك تريد نوعا محددا، فتشير بــ"هكذا" الى صنفٍ خاصٍ من دائرة المشي ومن دائرة الأكل ومن دائرة التوقير ومن دائرة المعرفة – في المقام-، ويكون حاصل معناه: أن هذا الصنف الخاص هو المطلوب وما عداه داخلٌ في دائرة المفهوم لكنه ليس مطلوبا لك، فعندما تقول "أمش هكذا" معناه: أن هناك مشيات أخرى ليست مطلوبة، وهذا النحو فقط مما يصدق عليه المشي هو المطلوب.
والحاصل: (هكذا) فيها عقد سلب وعقد إيجاب، عقد سلب بلحاظ الحكم، وعقد إيجاب بلحاظه أيضاً، لكن كلا العقدين مندرجان في الاطلاق ومندرجان في ذلك "العنوان"
بيان الوجه في المقام: الإمام (عليه السلام) عندما يقول (هكذا يعرف الله عز وجل) فان (هكذا) تفيد: أن هناك أنماطاً أخرى وأصنافاً أخرى من المعرفة ينطبق عليها "عنوان المعرفة"، لكنها ليست هي المعرفة المطلوبة، إذن تنفي "مطلوبيتها"، ولا تنفي "التعنون". فالإمام بقوله (هكذا) كالصريح في بيان صدق هذا العنوان على مختلف أنواع المعرفة، لكن المطلوب هو صنف خاص منها إذن هذا المقدار يطابق المفهوم لغة من المعرفة (من عدم مقوّمية التصديق والموالاة والبراءة، لها) يصير مؤيد للمعنى اللغوي. وبالدقة في مختلف الأمثلة العرفية يظهر ذلك اكثر.
2- من القرائن الخارجية على نفي الحقيقة الشرعية
الوجه الثانية -قرينة خارجية -: ونكتفي بما رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي (..فأما ما فرض على القلب من الإيمان: فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلا الله ..) والشاهد قوله (عليه السلام) ( الإقرار والمعرفة والعقد...) فان ظاهر العطف أن يكون عطف المباين على المباين، فان "المعرفة" معطوفة على "الإقرار" كما (العقد) أي "عقد القلب" معطوف عليها فالمعرفة غير الإقرار وغير التصديق، كما أنها غير عقد القلب، بمقتضى العطف، وحينئذ لو فُسّر أحدهما بالآخر -كما في تلك الرواية- دل على أن ذلك ليس التفسير الحقيقي بالاصطلاح الشارعي أيضاً، وأنه لا حقيقة شرعية لذا جعلت المعرفة قسيمة للإقرار والعقد وليست متضمنة للإقرار والعقد ، فتدبر .
ومن هنا يظهر عدم وجود تخالف و تعارض بين روايات الباب، اذ منشأ اختلاف تعبيراته (عليه السلام) في التعريف هو انه (عليه السلام) تارة يكون في "مقام تعريف المعنى بما هو هو"، وتارة يكون في "مقام التعريف بلحاظ ما هو مطلوب من العبد" وبهذا يعالج التخالف وعدم الوضوح بالتأمل في الروايات، فتأمل .
استظهار الاحتمال الثالث: التعريف لحصة خاصة
اما الاحتمال الثالث: وهو أن الإمام (عليه السلام) كان في مقام تعريف حصة خاصة من المعرفة، وهي (المعرفة المأمور بها المطلوبة)، وبتعبير آخر: المعرفة المستتَبعة "بالتصديق والموالاة والإئتمام والبراءة" هي المطلوبة، فحيث ان (أول الدين معرفته) و(أن ما افترض الله المعرفة) فان الإمام يريد أن يبيّن لنا بأن هذه المعرفة بلوازمها الأربعة هي المطلوبة ، وبتعبير آخر : ليس (عليه السلام) في مقام بيان الحد التام جنساً وفصلاً، ولا في مقام الحد الناقص ولا في مقام الرسم التام، بل المستظهر أنه في مقام ما هو أبعد حتى من "الرسم الناقص" أي: (الرسم العام) ان المستظهر ان الإمام (عليه السلام) عرّف المعرفة بأعراضها العامة لكن لماذا؟ الجواب لأنها بلحاظ أعراضها العامة هي المأمور به، وليس الامام في مقام بحث لغوي أو منطقي ليعرف بالحد أو الرسم التام أو حتى الناقص، وذلك لأن هذا ليس شأنه -أولاً وبالذات- وانما شأنه بيان التكاليف، فإذا كان شأنه ان يبين التكليف وكان في مقام بيان التكليف -كما هو كذلك هنا - فالذي يهم عندئذ هو متعلَّق التكليف، وهنا "متعلق التكليف" هو المعرفة بأعراضها العامة، لذا الإمام ذكر الرسم العام ، ولم يتوقف عند الحد التام أو الناقص أو الرسم التام أو الناقص ، ونظير هذا الجواب يمكن ان يجاب به عن مشابهات هذا المقام ، فتدبر.
الجمع بين الرواية ورواية أدنى المعرفة
هنا رواية ثانية نشير لها إشارة، إذ قد يتوهم منافاتها لما ذكر لكي نرى ما وجه الجواب وهي ما ورد في الكافي الشريف باب أدنى المعرفة المجلد الأول ص 95
(عن أبي الحسن (عليه السلام) قال سألته عن أدنى المعرفة)، أي أدنى المعرفة المطلوبة (فقال: الإقرار) إذن عرّف المعرفة بالإقرار، والكلام السابق جار هنا، لأن المهم التعريف بهذا العرض الذي هو المطلوب للمولى (فقال الإقرار) والمستظهر ان المراد الإقرار التفصيلي لا الإجمالي، وبهذا ندفع الشبهة الثانية عن بعض الروايات الأخرى التي قد يتوهم تخالفها مع هذه الرواية مثل الرواية التي قرأنها قبل قليل فتدبروا، (فقال الإقرار بأنه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير وأنه قديم مثبت موجود غير فقيد وانه ليس كمثله شيء) والسؤال هو كيف نجمع بين هذه الرواية وبين روايتنا؟ لأن هذه الرواية اقتصرت في المعرفة على ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى ولم تذكر ما يرتبط بالرسول والأئمة (عليهم السلام) ولا يكفي في الجواب: ان السائل سأل عن أدنى المعرفة لأن تلك المعارف أيضاً واجبة، أما تلك الرواية فالإمام عليه السلام قال فيها (تصديق الله وتصديق رسوله وموالاة علي والائتمام به وبأئمة الهدى والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم) فكيف نجمع بين هاتين الروايتين المختلفتين ظاهراً؟
وذلك لأن المسلّم به ان معرفة الرسول والإمام واجبة، والحاصل ان حتى البراءة إذ لا يكمل الدين إلا بها فأدنى المعرفة الواجبة المذكورة في الرواية الأولى الجامعة، الذي عرف الله ولم يعرف الرسول فانه لم يحصل على أدنى المعرفة المنجية له من النار فكيف اقتصرت الرواية الأخرى على معرفة الله فقط؟
وفي الجواب قد يقال: هناك احتمالان:الاحتمال الأول: أن تكون أدنى المعرفة هي ما ذكره الإمام عليه الصلاة والسلام في الرواية الأخرى وما عدا ذلك صفة كمال، وهذا الاحتمال منفي بالقطع بعدم إرادة ذلك الاحتمال الثاني: أن يكون كلام الإمام في الرواية الجامعة من باب تعدد المطلوب: فهذه معرفة واجبة وتلك معارف واجبة أخرى مطلوبة أيضاً، هذا مطلوب وتلك مطلوبات أخرى، فقوله عليه الصلاة وأزكى السلام (أدنى المعرفة) إشارة لمرتبة مطلوبة من مراتب المعرفة من غير نفي لمطلوبية ووجوب سائر المراتب، وهذا هو المتعين بدون شك لكن كلامنا في التخريج الصناعي لذلك، فتدبروا حوله، ولعلنا نذكره غداً إنشاء الله وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.