بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(165)
المرتضى: أكثر أخبارنا متواترة
سبق كلام السيد المرتضى (قدس سره): (ان أكثر اخبارنا المروية في كتبنا معلومة، مقطوعة على صحتها، اما بالتواتر من طرق الإشاعة والإذاعة أو بأمارة دلت على صحتها وصدق رواتها وهي موجبة للعلم، مقتضية للقطع، وان وجدناها مودوعة في الكتب بسند مخصوص من طريق الآحاد).
نعم قال أيضاً: (وغير خاف انه لم يبق لنا سبيل إلى الاطلاع على الجهات التي عرفوا منها ما ذكروا، حيث حظوا بالعين وأصبح حظنا الأثر، وفازوا بالعيان وعوضنا عنه بالخبر، فلا جرم ان سدّ عنا باب الاعتماد على ما كانت لهم الأبواب مشرعة، وضاقت مذاهب كانت المسالك لهم فيها متسعة.
ولو لم يكن إلا انقطاع طريق الرواية عنا من غير جهة الإجازة التي هي أدنى مراتبها لكفى به سبباً لاباء الدراية على طالبها([1]))([2]).
لكنّ تواتر أكثرها لا ينقح حال مفرداتها
أقول: والحاصل: اننا حتى إذا علمنا بان أكثر الأخبار المودعة في الكافي الشريف مثلاً متواترة أو محفوفة بالقرينة القطعية، فإن ذلك لا يكفي في الحكم بتواتر آحاد أخباره كما هو واضح؛ فانه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
بعبارة أخرى: مآل (الأكثر) إلى قضية جزئية وهي لا تنتج ولا يصح أن تقع كبرى للقياس.
بعبارة ثالثة: كما اننا إذا علمنا بصحة سبعين رواية مرددة بين مائة رواية ولم نعلم حال سائر الروايات أو علمنا بانها ضعيفة، فانه يكون من اختلاط الحجة باللاحجة، فكذلك إذا علمنا بان معظم أخبار الكافي مثلاً متواترة لكنها مرددة بين ما بين الدفتين، فانه يكون من اختلاط المتواتر باللامتواتر، فلا يجدي العلم بتواتر المعظم في تصحيح الآحاد (أي هذا الخبر وذاك) نعم يصلح قرينة عامة مؤيدة لقوة أخباره إجمالاً. فتأمل
القضية الحقيقية والخارجية
بحث: مسألة وجوب المعرفة يمكن أن تطرح بنحو القضية الحقيقية كما يمكن أن تطرح بنحو القضية الخارجية، وذلك غير منقح في كلماتهم وفي معقد الأقوال الستة التي نقلها الشيخ (قدس سره). وتحقيق الأمر في ذلك:
انّ القضية الخارجية هي: ما صبّ فيها الحكم على الأفراد المحققة الوقوع، سواءاً أكانت محققة في الماضي أم الحاضر أم المستقبل (بلحاظ حال التلبس) أما الحقيقية فقالوا انها: ما صبّ الحكم فيه على الأفراد الأعم من المحققة الوقوع والمقدرة الوقوع، لكن الذي نستظهره ان الحقيقية هي: ما صب فيه الحكم على الطبيعي (الطَبَعي، على الأصح) باعتباره مرآة للأفراد، لا لموضوعيته.
ومن الفوارق بينهما: ان القضية الخارجية لا يمكن أن تقع كبرى في القياس المنطقي عكس القضية الحقيقية، إذ يراد بالقياس اقتناص المجهول حكمُهُ، ومع صبّ الحكم على الطبيعة فان أي فرد مجهول حكمه إذا انطبقت عليه الطبيعة يشمله الحكم، عكس ما لو صبّ الحكم على الأفراد الخارجية، فان الفرد المجهول مردد أمره بين الدخول والخروج فمن أين دخل؟ بعبارة أخرى: القضية الخارجية مبنية على الاستقراء والاستقراء لا يعرف منه حكم الأفراد المجهول حالها، إلا إذا كان معللاً فيدخل حينئذٍ ببركة علّته في الحقيقية، فتدبر.
هل الحكم بوجوب المعرفة، حكم بنحو الحقيقية أو الخارجية؟
وفي المقام: يقع البحث في ان الحكم بوجوب المعرفة عن استدلال أو كفاية حصولها ولو عن تقليد أو كفاية الظن... إلخ هل صب على طبيعي المكلف بنحو القضية الحقيقية؟ أو صب على أفراد مخصوصين بنحو القضية الخارجية؟
وبوجه تفصيلي: من هو المخاطب بوجوب المعرفة عن استدلال أو بوجوب تحصيلها من الأخبار خاصة أو غير ذلك، بحسب الأقوال الست وغيرها مما سيأتي؟ المحتملات أربعة:
المخاطَب بوجوب المعرفة إما المكلف أو الشيعي
الأول: أن يكون المخاطب هو (المكلف) بنحو القضية الحقيقية.
الثاني: أن يكون المخاطب هو (الشيعي) بنحو القضية الحقيقية.
والظاهر ان القول الأول الذي نقله الشيخ عن المشهور: (الأول: اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال، وهو المعروف عن الأكثر، وادعى عليه العلامة - في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح - إجماع العلماء كافة([3]))([4]) مبني على ان المخاطب هو المكلف أعم من كونه شيعياً أو مخالفاً أو مشركاً أو كافراً، وأما القول السادس الذي نقله الشيخ عن الشيخ (قدس سرهما): (السادس: كفاية الجزم بل الظن من التقليد، مع كون النظر واجبا مستقلا لكنه معفو عنه، كما يظهر من عدة الشيخ (قدس سره) في مسألة حجية أخبار الآحاد وفي أواخر العدة([5]))([6]) فهو ظاهر إن لم يكن صريحاً في أن المخاطب الشيعي خاصة، فانه المعفو عنه في ترك النظر لفرض إصابته في تقليده، وهو الذي يكفيه ظنه الحاصل من تقليده في دخوله في دائرة الإسلام (أو حتى الإيمان على قول).
وكذلك حال القول الخامس: (الخامس: كفاية الظن المستفاد من أخبار الآحاد، وهو الظاهر مما حكاه العلامة (قدس سره) في النهاية عن الأخباريين: من أنهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد([7]))([8]) لوضوح أن الكلام عن الشيعي المؤمن بالأحاديث وان ظنه منها (أو قطعه كما استظهرناه من مرادهم) كافٍ، إذ غيره لا يؤمن بها أصلاً إذ (ثبت العرش ثم انقش) فكيف يقال له ان الظن المستفاد من أخبارنا حجة عليك أو انه كافٍ لإبراء ذمتك.
وأعرف حال بقية الأقوال مما سردناه عليك من المقال.
أو المصيب أو المخطئ
الثالث والرابع: ان يكون المخاطب به هو (المصيب) أو (المخطئ).
وفيه: ان المصيب يعرف الحق فكيف يقال له أعرف الحق؟ نعم إن كان مصيباً يعرف الحق لا عن استدلال صح أن يقال له يجب عليك النظر وتحصيل الحجج والأدلة على الحق.
ثم ان لنا ان نسأل عن المراد من المصيب، وان المقصود هو المصيب في متن الواقع عند الله تعالى؟ أو المراد المصيب بنظره؟
فان أريد الأخير، وَرَدَ عليه لزوم اللغوية إذ الكل مصيب بنظره. فتأمل إذ لا محذور في أن يكلف المصيب بنظره بتحصيل ما علمه عن استدلال إذ علمه هو الحاصل له لا كونه عن استدلال فانه مفقود فيه ولا تلزم اللغوية أبداً إذ لو كلف كل مصيب بنظره بالاستدلال، لاهتدى كثير من الكفار والضلال، وأما المصيب بنظره ظناً فانه لا شك في انه يمكن تكليفه بتحصيل العلم.
وإن أريد الأول، وَرَدَ عليه: ان الإصابة الثبوتية خارجية عن قدرة المكلف فكيف يكلف بها؟ إذ غاية ما يقدر عليه هو الإصابة الإثباتية أي الإصابة بنظره، وإن قيل بان علمه مرآة الواقع والثبوت، كان رجوعاً إلى أن المخاطب هو المصيب بنظره وإلا كان من التكليف بغير المقدور. فتأمل
أو المتعارف من الناس
الخامس: ما التزم به السيد الوالد (قدس سره) من أن المخاطب هو المتعارف من الناس وعلى ذلك حمل كافة الأقوال المختلفة، قال: (إذا عرفت هذا قلنا في صدد بيان الأدلة: لا شك أن القائل بوجوب النظر لا يقول بوجوبه مطلقاً حتى ولو أورث التشكيك في العقائد الحقة، كما فيمن يعلم من حاله ذلك، كما أن القائل بوجوب التقليد لا يقول بوجوبه مطلقاً حتى فيما علم بأنه لو نظر اكتسب اليقين بالعقائد الحقة أو قوي إذعانه، وإنما يقولان بالوجوب في المتعارف من الناس، وحينئذٍ ففي الأفراد المتعارفة الأقوال في جواز التقليد والنظر أو وجوب أحدهما ثلاثة)([9]) وسيأتي مزيد إيضاح ومناقشة بإذن الله تعالى.
تتمة: سبق ان الشيخ نقل أقوالاً ستة في وجوب المعرفة عن استدلال... ونضيف ان هنالك أقوالاً أخرى أيضاً.
7- حرمة النظر ووجوب التقليد
القول السابع: وجوب التقليد وحرمة النظر؛ استناداً إلى أن النظر كثيراً ما يؤدي إلى الضلال والانحراف وقد يؤدي إلى الكفر والإلحاد، إذ النظر يتوقف على النظر في الإشكالات والشبهات وكثيراً ما يقع الناظر في شباك الشبهات كما انه كثيراً ما يقتنع بإشكالات الطرف الآخر، ولا يخفى ان هذا الاستدلال ونحوه يفيد الحرمة في الجملة أي فيمن أدى به النظر إلى ذلك أو مَن احتمل في حقه احتمالاً عقلائياً، لا مطلقاً ولكن لعل ظاهر هذا القول الإطلاق، قال السيد الوالد (قدس سره): (وأما من قال بحرمة النظر فقد استدل بالسنة والعقل:
أما السنة: فلما روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه سئل عن القدر فقال: "طريقٌ مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلفوه"([10]) كما سئل منه (عليه السلام) عن القدر فقال: "بحر عميق فلا تلحقوه"([11]). وقوله المتقدم: "عليكم بدين العجائز". إذ معناه وجوب التدين بما دانوا بها من غير مناقشة وجدال.
وأما العقل: فلأن النظر في الأصول مظنة للوقوع في الشبهة والخروج من الدين لكثرة الشبهات، فيجب ترك النظر دفعاً لما يترتب عليه من خوف الضرر)([12]) وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
الملخص:
- تواتر أكثر أخبار الكتب الأربعة، على رأي السيد المرتضى، لا يجدي في تنقيح حال آحاد رواياتها.
- الحكم بوجوب النظر وقسائمه إما بنحو القضية الحقيقية أو بنحو القضية الخارجية، والأقوال في المقام غير منقحّة من هذه الجهة.
- المخاطَب بالمعرفة إما (المكلَّف) أو (الشيعي خاصة) أو (المصيب) أو المخطئ) أو (المتعارف من الناس) وكل قول من الأقوال السبعة مبني على أحد الأولين أو الخامس.
سؤال تمريني: هل القضية الحقيقية هي ما صبّ الحكم فيها على الأفراد الأعم من المحققة والمقدرة أو هي ما صبّ الحكم فيها على الطبيعة بما هي مرآة للأفراد؟ وما الفرق بينهما؟ وما الثمرة؟
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((لَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ، وَلَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا وَحْشَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ، وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلَا عِبَادَةَ مِثْلُ التَّفَكُّر)) (من لا يحضره الفقيه، ج4 ص371).
-----------------------------------
([1]) جواب المسائل التبانيات - للسيد المرتضى المطبوع حالياً ضمن رسائل الشريف المرتضى تحقيق مهدي الرجائي، وهذه العبارة غير موجودة لان في النسخة سقطا (انظر صفحة: 25 - 29 الجواب عن وجود أخبار الآحاد في مصنفات الامامية).
([2]) منتقى الجمان للشيخ حسن بن الشهيد الثاني: 2 - 3.
([3]) الباب الحادي عشر: 3 - 4.
([4]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص553.
([5]) العدة 1: 132، و 2: 731.
([6]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص555.
([7]) نهاية الوصول (مخطوط): 296.
([8]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص555.
([9]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، كتاب الاجتهاد والتقليد، دار العلوم ـ بيروت، ج1 ص449-450.
([10]) نهج البلاغة ص624 ح287.
([11]) البحار ج5 ص123 ح70.
([12]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، كتاب الاجتهاد والتقليد، دار العلوم ـ بيروت، ج1 ص459-460.