بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(166)
سبق انّ الاحتمالات في المخاطب بوجوب المعرفة والإيمان والنظر، خمسة، وخامسها هو: (ما التزم به السيد الوالد (قدس سره) من أن المخاطب هو المتعارف من الناس وعلى ذلك حمل كافة الأقوال المختلفة، قال: "إذا عرفت هذا قلنا في صدد بيان الأدلة: لا شك أن القائل بوجوب النظر لا يقول بوجوبه مطلقاً حتى ولو أورث التشكيك في العقائد الحقة، كما فيمن يعلم من حاله ذلك، كما أن القائل بوجوب التقليد لا يقول بوجوبه مطلقاً حتى فيما علم بأنه لو نظر اكتسب اليقين بالعقائد الحقة أو قوي إذعانه، وإنما يقولان بالوجوب في المتعارف من الناس، وحينئذٍ ففي الأفراد المتعارفة الأقوال في جواز التقليد والنظر أو وجوب أحدهما، ثلاثة"([1]))([2]).
(إنما يجب النظر لو لم يورثه الضلال)
أقول: قوله (لا شك أن القائل بوجوب النظر لا يقول بوجوبه مطلقاً حتى ولو أورث التشكيك في العقائد الحقة، كما فيمن يعلم من حاله ذلك) يمكن أن يوجّه بأحد توجيهين:
توجيهان:
الأول: أن وجوب النظر طريقي أو فقل مقدمي، والواجب النفسي هو المعرفة والاعتقاد والإيمان، والوجوب الطريقي قائم بطريقيته، فإذا علم بانه غير موصل لذي المقدمة وذي الطريق فلا ريب أنه ليس بواجب (في مقدمة الواجب) ولا بحرام (في مقدمة الحرام).
الثاني: ان وجوبه نفسي لمصلحة قائمة به، سلوكية أو غيرها، وحينئذٍ إذا أدى النظر الواجب إلى نقيض الغاية المرجّوة أي إلى الضلال والانحراف والكفر، دخل في باب التزاحم نظراً لوجود الملاك في كليهما على الفرض (المعرفة؛ للمصلحة الذاتية فيها، والنظر؛ للمصلحة السلوكية فيه) فيترجح ذو المصلحة الأهم، ولا شك ان مصلحة المعرفة أهم بما لا قياس من مصلحة النظر.
المناقشة
ولكن قد يورد عليه: ان الشارع قد يحرم النظر مطلقاً، كما يقول به الاخباري الذي يرى حرمته ووجوب التقليد في أصول الدين وفروعه ويعني به تقليد الأئمة (عليهم السلام) عبر رواياتهم الموجودة في الكتب الأربعة ونظائرها، وذلك لأنه بعلمه المحيط يراه كالقياس، بزعم الاخباري، فكما ان الشارع حرّمه مطلقاً وإن فرض كون بناء العقلاء عليه في شؤونهم عموماً؛ نظراً لعلمه بان أغلب قياس الناس في أحكام الشريعة مخطئ مخالف للواقع حتى وإن ظنوا منه بالواقع بل حتى لو اطمأنوا، فكذلك النظر والاجتهاد إذ لعلّ الشارع، والاخباري يحكم بذلك ولا يراه مجرد احتمال، رأى أغلبية مخالفة المجتهدين للواقع؛ نظراً لغالبية خطأهم في الاجتهاد فيه، لذا ألزم بالتقليد إذ رأى، بنحو القضية الحقيقية أو الخارجية، أغلبية إصابته للواقع.
فهذا في عالم الثبوت والاحتمال والادعاء، وأما الأدلة فان أدلة الاخباري غير ناهضة، والظاهر ان إصابة المجتهدين أغلب من خطأهم، ولقد فصّلنا ذلك في بحث سابق([3]) ولعله سيأتي مزيد بإذن الله تعالى.
وإنما يتعين التقليد لو لم يورثه النظر قوة يقين
وأما قوله: (كما أن القائل بوجوب التقليد لا يقول بوجوبه مطلقاً حتى فيما علم بأنه لو نظر اكتسب اليقين بالعقائد الحقة أو قوي إذعانه) فالأمر فيه كالأمر في سابقه إذ لعل الشارع بعلمه المحيط يرى غالبية خطأ من علم بانه يزداد بالنظر يقيناً بالعقائد الحقة، لذا حرّمه مطلقاً أي حتى على من علم أو ظن أنه سيصل إلى الحق وأَمِن الضلال والخطأ، فالمرجع إذاً الأدلة، والظاهر ان السيد الوالد (قدس سره) بنى التفصيل في المسألتين على ما هو المستظهر من الأدلة النقلية ومن بناء العقلاء.
العلة في حمل الأدلة على المتعارف
قوله: (وإنما يقولان بالوجوب في المتعارف من الناس).
أقول: الوجه في حمله (قدس سره) الروايات والأقوال على المتعارف من الناس، أنه قد يقال بان بناء العقلاء وسيرتهم والشارع الأقدس، على توجيه الخطاب والأحكام إلى المتعارف من الناس، وأما غيرهم فالأدلة منصرفة عنهم فخروجهم، على هذا تخصّصي، ويشهد له من الشريعة الشواهد التالية:
1- حدّ الوجه، فانه محمول على المتعارف دون ريب سواء في ذلك الروايات والأقوال، فقد روى زرارة بن أعين أنه قال لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): [أَخْبِرْنِي عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُوَضَّأَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: الْوَجْهُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِغَسْلِهِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ إِنْ زَادَ عَلَيْهِ لَمْ يُؤْجَرْ وَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ أَثِمَ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامُ مِنْ قُصَاصِ شَعْرِ الرَّأْسِ إِلَى الذَّقَنِ وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْإِصْبَعَانِ مُسْتَدِيراً فَهُوَ مِنَ الْوَجْهِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ فَقَالَ لَهُ: الصُّدْغُ مِنَ الْوَجْهِ؟ فَقَالَ: لَا]([4]).
فان قوله (مَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامُ) يحمل على الأيدي والأصابع المتوسطة أما من يمتلك أصابع طويلة جداً أو قصيرة جداً فليس هو المخاطب بالرواية و(الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ...) وإلا لوجب عليه أن يغسل حتى الاذنين إذا بلغتهما أصابعه الطويلة أو يغسل بعض الوجه مادامت أصابعه قصيرة لا تبلغ حد الصدغ (وهو بحسب الصحاح والنهاية: الشعر المتدلي بين العين والاذن([5])).
كما ان قُصاص الشعر يراد به القصاص في المتعارف من الناس، فلا يجب على الانزع أن يغسل من رأسه ما يتصل بمنطقة الشعر، كما أن الأغمّ (الذي غطى شعر رأسه جبهتَه أو أكثرها أو بعضها) عليه غسل جبهته كمتعارف الناس.
2- تقدير الكر بثلاثة أشبار في ثلاثة في ثلاثة أو ثلاثة ونصف مضروبة بمثلها طولاً وعمقاً، إذ يراد الأشبار المتوسطة لمتوسط الناس، وإلا لاختلف الكر اختلافاً كبيراً جداً بحسب اختلاف أشبار الأشخاص، وقد صرح بعض الفقهاء بان المدار الحد الأدنى من متوسط الناس لأن المتوسط من الناس أيضاً أصابعهم تختلف طولاً وقصراً إلى حد ما مع كونهم جميعاً من المتوسط.
3- حديث لا تعاد [لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ إِلَّا مِنْ خَمْسَةٍ الطَّهُورِ وَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ]([6]) فانه محمول على المتعارف ولذا يخرج الوسواس والشكاك عنه، فمن يكثر شكه في أدائه الركوع وعدمه، فانه يبني على انه ركع خلافاً لمقتضى الاستصحاب، فقد يستدل عليه كما هو المعروف بـ(لا شك لكثير الشك)([7]) وشبهه، وقد يستدل عليه، كما هو مرمى البحث هنا، بانّ نفس دليل لا تعاد كسائر الأدلة غير ناظر لغير المتعارف من الناس وانه منصرف عنه (عن غير المتعارف) وعلى هذا لا حاجة للتمسك بـ(لا شك لكثير الشك) أي انه حتى إذا لم يوجد دليل مثله لأمكننا القول بعدم الاعتناء بشكه استناداً إلى أن دليل لا تعاد كغيره محمول على المتعارف فغيره خارج عنه تخصّصاً ببركة الانصراف، فتأمل وتدبر جيداً.
فكذلك المقام إذ ما حمل السيد الوالد كلام المشهور وسائر الأقوال عليه، مبني على ان المخاطب بمثل {اعْلَمُوا} و{لِيَتَفَقَّهُوا} وغيرها هو المتعارف من الناس والمتعارف منهم هو من يصل بالنظر إلى الحق عادة، والمتعارف من المقلد من يزداد بصيرة إذا اجتهد، وعكسهما غير متعارف فلا تشمله أدلة المشهور بوجوب النظر ولا أدلة الاخباري بحرمة النظر. وللبحث تتمة فانتظر.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): [الْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ عَلَيْهِمْ، وَحَسْبُكَ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ تَخْشَى اللَّهَ، وَحَسْبُكَ مِنَ الْجَهْلِ أَنْ تُعْجَبَ بِعِلْمِكَ] (الأمالي للطوسي، ص56)
-----------------------------------
([1]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، كتاب الاجتهاد والتقليد، دار العلوم ـ بيروت، ج1 ص449-450.
([3]) دروس الاجتهاد والتقليد (الاجتهاد في أصول الدين) عام 1434هـ.
([4]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص44.
([5]) وقيل انه ما بين العين والاذن.
([6]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص279.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين