183- تتمة البحث السابق ـ الاستدلال برواية ( اياكم والتقليد ...) واجوبة اربعة ـ رواية (ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبر بها)
الاربعاء 29 ذي الحجة 1433هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان الحديث حول الاستدلال ببعض الروايات على وجوب الاجتهاد والنظر في اصول الدين، ووصلنا الى رواية (من اخذ دينه من افواه الرجال ازالته الرجال، ومن اخذ دينه من الكتاب والسنة زالت الجبال ولم يزل) وذكرنا ان في معناها احتمالات اربع تقدمت.
الأصل لدى الشك
ونضيف: انه قد ظهر مما سبق ان المقلد المتبصر يقع في مرتبة وسطى بين المجتهد وبين المقلد الصِّرف أي المقلد تقليدا اعمى، وهناك درجات ثلاثة من حيث احتمال وقوع المحذور الذي صرحت به الرواية، فان المقلد تقليدا اعمى تزيله الرجال على احتمال قوي، اما المجتهد فان هذا الاحتمال في حقه ضعيف جدا، واما المقلد المتبصر فان الاحتمال فيه بينهما متوسط، وعلى هذا فهل يلحق المقلد المتبصر بالمجتهد حكمااو يلحق بالمقلد الاعمى حكما؟ أي من حيث جواز الاكتفاء بالتقليد عن التبصر في اصول الدين، ومزيد التحقيق في هذه المسالة يأتي لاحقا ان شاء الله، لكنالمقصود هنا الإشارة للأصلفي المسألة وهو: انهلو احرزنا بان المقلد المتبصر هو ممن ينطبق عليه العنوان الثاني المذكور في الرواية وهو (اخذ دينه من الكتاب والسنة)بدعوى الشمول الحقيقي ولو لما كان أخذاً بالواسطة أو كان اخذا اجماليا فان قلنا بالانطباق واطمئننا به فهو ملحق بالمجتهد، وان قلنا بعدم الصدق وانه لا يصدق على المقلد المتبصر انه اخذ دينه من الكتاب والسنة الا بعناية وتسامح وتجوز فسيلحق هذا المقلد المتبصر بالمقلد تقليدا اعمى إذ لم توجد قرينة المجاز ، اما ان شككنا فما هو الاصل؟
(الاصل) هو الاحتياط، فلو شككنا ان المقلد المتبصر عليه ان يتحول الى مجتهد تفصيلي في اصول الدينفمقتضى القاعدة ومقتضى العلة المذكورة في الرواية هو ان عليه ان يجتهد اجتهادا تفصيليا لأن احتمال ان تزله الرجال لايزال عقلائيا في حقه،فان المقياس الذي ذكرته الرواية هومن اخذ دينه من افواه الرجال ازالته الرجال فالمحورية هي لاحتمالان تزيله الرجال احتمالا عقلائيا،ومن اخذ دينه من الكتاب والسنة هو القدر المتيقن ممن زالت الجبال ولم يزل.
والحاصل: ان المحور هو احتمال زلل قدمه احتمالا عقلائيا، فان اطمأننا ان الاحتمال عقلائي، او اطمئننا بالعدم فانه ملحق بأحد القسمين، والا فالمرجع هو اصالة الاحتياط حتى يحصل على المؤِّمن من الضرر البالغ المحتمل الذي هوالهلاك الابدي السرمدي. فتأمل
الاستدلال برواية إياكم والتقليد
الرواية الاخرى التي استدل بها في النور الساطع على حرمة التقليد في اصول الدين : (اياكم والتقليد فانه من قلد في دينه هلك، ان الله تعالى يقول ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)ولا والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم احلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فقلدوهم في ذلك)اي في ما احلوا او حرموا(فعبدوهم وهم لا يشعرون)لكن هذه الرواية غير موجودة في المجاميع الحديثية والكتب المشهورة، وبعد التتبع وجدنا هذه الرواية في مصدر واحد وهو كتاب تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد، والمباحث السندية فيها تقدم نظيرها فلا نعيد، اما الدلالة فان وجه الاستلال بها امران:
الاول: الاطلاق
والثاني: التعليل
1- اما الاطلاق فقوله (عليهالسلام)(اياكم والتقليد) فان النهي مطلق أي سواءً اكان تقليدا في الاصول او الفروع، اجماليا كان التقليد اوتفصيليا.
2- واما الوجه الثاني هو التعليل فان قوله (من قلد في دينه هلك)علة، وهي سيالة وغير خاصة بموطن دون اخر، وظاهرها مدارية (التقليد) في الهلاك ثم ان الامام عليه السلام يؤكد العلة باستناده للآية الكريمة
اشكالات أربعة
لكن الظاهر ان الاستدلال بهذه الآية محل تأمل من وجوه،وسوف نقتصر على اربعة منها الان، وجهان داخليان نستنبطهما من الرواية ووجهان خارجيان:
1- مفاد الآية حرمة اتخاذ النِدّ لله تعالى
اما اول الوجهين الداخليين فهو ان الامام عليه السلام استدل بالآية الكريمة وهيواضحةفي وجه الذم والتحريم وهو( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)أي انهم اعتبروا هذا المقلَّد قسيما لله تعالى أي اعتبروا ان له الموضوعية، وبتعبير اخر اعتبروه مصدرا للتشريع من دون الله، وهذا مما لا شك في حرمته، وليس كلام من يجيز التقليد في اصول الدين هو هذه الصورة بالبداهة ولا ذلك مما يقوله مسلم فكيف بالشيعي، بل ان أي عاقل يعتقدبالله، لا يقول ان مقلَّده هو مصدر التشريع في مقابل الله جل وعلا.
والحاصل: ان ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)تفيد انهم جعلوهم شركاء لله أي في عرض الله لا في طوله، اما من يجيز التقليد في أصول الدين فانه يقول ان المجتهد الذي نريد تقليده في اصول الدين انما نقلده لأنه طريق الى الكشف عنالكتاب والسنة ولأنه يستند في شرعيته إلى انه يجد ويجتهد لتحصيل احكام الشريعة، وليس ممن يعتبر نفسه ربّاً من دون الله، اذن هذه القرينة واضحة لتحديد مراد الإمام (عليه السلام) من (فانه من قلّد في دينه هلك)، هذا اولا
2- مفاد (ذلك) حرمة تقليد من حرم الحلال
واما ثاني الوجهين الداخليين على نفي صحة الاستدلال بهذه الرواية لتحريم التقليد في الاصول والفروع فهو ما تفيده كلمة (ذلك)في كلام الامام إذ قال (ولا والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم احلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فقلدوهم في ذلك) أي أنهم قلدوهم في تحريم الحلال وعكسه، ولا قائل بجواز تقليد المرجع اذا احل الحرام او حرم الحلال.
وبتعبير اخر فان الامام يذكر احد ضابطين للتحريم: اما ان يُتخَّذ المقلَّد ربّا من دون الله قسيماله، ويتخذ في عرض الله مصدرا للتشريع، واما ان لا يتخذه كذلك لكنه يعلم انه ضالوانه حرم الحلال اوحلل الحرام،ومن البديهي حينئذٍ انه لا يجوز تقليده، كما في قضية القاضي ابن اكثم الذي استدل على جواز الفعل القبيح بقوله تعالى:(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً) مع ان المراد من الآية واضح إذ جَعَلت الأقسام أربعة: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً)فالصورة الثالثة هي: انه تعالى يهب للإنسان ذكورا واناثا من الاولاد، او مثل ذلك الشخص المسمى بالخليفة العباسي حيث اراد السبق بالطير، وهو محرم شرعا،فدعى من يسمى بالفقيه فسأله فقال: قال رسول الله (لا سبق الا في نصل أو خف او حافر) واضاف (او جناح)، فأهداه عشرة الاف درهم، ولما خرج الفقيه قال الملك العباسي اني اعلم انه كاذب لكنه اراد ان يرضيني بغير ما انزل الله فأرضيته بالمال!
اذن الرواية تشير الى امثال هذه الموارد، فكلمة (في ذلك) دليل قطعي على المراد (لكنهم احلوا لهم حراما وحرموا عليهمحلالا فقلدوهم في ذلك) أي في تحريمهم الحلال وتحليلهم الحرام، فليس مصب النهي والذم هو اتباع المجتهد العادل الجامع للشرائط المستفرغ وسعه لكي يصل الى حلال الله فيفتي على طبقه بالحلية اوالى الحرام فيفتي على طبقه بالتحريم، فهاتان قرينتان داخليتان ظاهرتان.
3- أدلة التقليد أخص من أدلة تحريمه
واما ثالث الوجوه، وهو من الخارج،فانه مع قطع النظر عن هاتين القرينتين الداخليتين وحتى لو فرض الاطلاق في هذه الرواية أو فرض عموم التعليل،فإنها مخصصة بالأدلة الاخرى الكثيرة القرآنية والروائية كقوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)فان على المنذَر في ما انذر فيه ان يحذر وعليه ان يرتدع وينزجر، رغم انه ليس بمجتهد في ذلك،لأن المنذرين عادة مقلدون، لأن الاجتهاد في كل ما ينذَر به الانسان يقتضي سنين من التتبع والمتابعة ،وهذه الآية اخص مطلقا من هذه الرواية على فرض الاطلاق في الرواية (اياكم والتقليد فانه من قلد في دينه هلك) أي الا لوكان المقلَّد مؤمنا متفقها في الدين فيجوز لك، وذلك ببركة الآية(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ)فهذه صفة اخذت في المنذِر والمحذِّر (لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ)أي من المؤمنين(طَائِفَةٌ) فهم مؤمنون إذن (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)هذا قيد ثاني(وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ) فهذه الآية اخص مطلقا من تلك الرواية ونظائرها اضافة للآيات الاخرى والروايات الكثيرة كـ(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(اجلس في المجلس وافت الناس) وغيرها، هذا ثالثا.
4- أدلة التقليد موافقة للكتاب
اما رابع الوجوه، فنقول لو فرض التعارض بين بعض الروايات وبين مثل هذه الرواية بان كانت النسبة العموم من وجه أو التباين، فان الحل يكون بالرجوع الى الكتاب العزيز، على حسب الضوابط المسلمة روائيا المذكورة في باب التعادل والترجيح، والضابط هو (فما وافق كتاب الله فخذوا به وما خالف كتاب الله فدعوه) فنلاحظ الروايتين (فللعوام ان يقلدوه) و(اياكم والتقليد) ومع قطع النظر عن الجواب الثالث الذي هو الجمع الدلالي،وعلى فرض وجود تعارض بين ما يدعو الى التقليد وما ينهى عن التقليد، فان ما يدعو الى التقليد موافق للكتاب فيؤخذ بها إذ قال تعالى:(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وتلك المعارضة مخالفة للكتاب فتطرح، وهذا جواب واضح فلا داعي للتوقف طويلاً عند هذه الروايات الناهية عن الاجتهاد
الاستدلال بـ(ويل لمن... لم يتدبرها)
الرواية الاخرى هي التي استدل بها في الفقه بقوله وتدل على وجوب النظر من السنة روايات، منها انه لما نزل (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)لما نزلت هذه الآيات قال النبي (صلى الله عليه وآله)(ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها) هذه الرواية لعلها لم تذكر إلا في شرح الباب الحادي عشر، لكن ورد بمضمونها روايات عديدة منها ما ذكره في مجمع البيان حيث يقول: (وقد اشتهرت الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله)انه لما نزلت الآيات المتقدمة قال ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل ما فيها)
ودلالة هذه الرواية مبدئيا، قوية على وجوب الاجتهاد في ما يتعلق بأصول الدين، لأن الآية تتحدث عما يرتبط بذلك(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)فان الحديث عن المعاد وما اشبه ذلك، فوجه الاستدلال واضح، لكن تدبروا في وجه الجواب عنها.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
الاربعاء 29 ذي الحجة 1433هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |