196- مقياس المعذورية: الجزم، الغفلة، المطابقة، الطريق العقلائي، أو حتى التقليد؟
السبت 4 شعبان 1444هـــ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(196)
تقييد الجزم بالمطابق للواقع
وبعبارة أشمل: انّ القول غير المشهور بكفاية (الجزم عن تقليد) في أصول الدين، وهو الذي اخترناه وذهب إليه صاحب القوانين([1]) والسيد العم([2]) ربما يقيّد بقيدين وذلك بتقييد الجزم بالمطابق للواقع وتقييد التقليد بكونه تقليداً للجامع للشرائط، وتحقيق الكلام في القيدين:
المقياس في المؤمِّن والمعذِّر
أما القيد الأول: فانه يجب أن يجري البحث في المقياس في (المؤمِّن من العقوبة) أو (المعذِّر) لدى الخطأ والذي يقابله (المنجّز) لدى الإصابة أو، بعبارة أخرى: علة المعذرية أو عللها، والمحتملات خمسة:
أ- الجزم والقطع
الأول: انّ المعذِّر المؤمِّن من العقاب هو الجزم، وهو ما سلكه المشهور من أن الحجية للقطع ذاتيه؛ إذ لا يعقل أن يريدوا بها الكاشفية (والإنكشاف([3])، الذي صار إليه المحقق الاصفهاني) الثبوتيين، إذ الجزم مقسم للعلم والجهل المركب وما كان مقسماً للعلم والجهل لا يعقل أن تكون الكاشفية ذاتية له وإلا لكانت ذاتية للجهل وهو محال إذ يستلزم التناقض، بعبارة أخرى: الذاتي، بذاتي باب البرهان، سارٍ في كل الأقسام وإلا لم يكن ذاتياً فقد سرى([4]) إذاً في الجهل المركب فكان علماً. هذا خلف، وعليه: لا بد أن يراد بالحجية المعذرية.
المناقشة
ولكنّ القول بأن المعذَّر هو الجزم على إطلاقه غير تام؛ إذ إنما يكون معذِّراً عقلاً إذا كان عن قصور أما لو كان عن تقصير فلا.
ب- الغفلة
الثاني: ان المعذِّر هو (الغفلة) وهذا هو ظاهر القوانين، قال: (وأمّا الجزم الحاصل لغير هؤلاء من تقليد غير المجتهدين الكاملين، مثل الجزم الحاصل للأطفال والنّساء والعوامّ النّاشئين عن الاعتقاد بقول آبائهم وأمّهاتهم وأساتيذهم وإن كانوا هم مقلّدين لمثلهم أيضاً، بل علمائهم المجتهدين أيضاً، مع عدم معرفة أنّ المجتهدين هم المستحقّون للاعتقاد لا غير.
فالظّاهر أنّ ذلك خارج عن مطرح النّظر لهم في هذا المقام)([5]) وقال بعد ذلك ما يوضح ما ذكره من الخروج: (والثّانية: حصول الجزم والاطمئنان لمثل الأطفال والنّسوان والعوامّ مع عدم تأمّلهم في معنى الجزم والظنّ، وعدم تفطّنهم لاحتمال عدم جواز الأخذ ممّن أخذوه، والفرق بين آبائهم وامّهاتهم وعلمائهم،...
فحينئذ نقول: المراد من تقليدهم هنا هو الرّكون إليهم والإذعان بقولهم والاعتماد عليهم، وهو يفيد غالباً الاطمئنان والسّكون والجزم في ظاهر النّظر لهؤلاء إذا خلت نفوسهم عن المشائب وغفلت عن الشّكوك والشّبهات لعدم عرض مخالفات الطّرائق والاحتجاجات عليها، فحينئذ الكلام في سقوط التّكليف عن هؤلاء وعدم السّقوط، وأنّه هل يجب عليهم النّظر أو يكفي ما حصل لهم من الاطمئنان.
والحقّ، أنّ النّافي لوجوب النّظر مستظهر لأنّ المكلّف حينئذ غافل عن الوجوب بالفرض، ويحسب اعتماده على مثل ذلك أوج معرفة كماله)([6]) وقال: (والثّاني: من لا يحصل له الشّك، بل اطمئنانه باق على حاله، وقد يظنّ أنّ الأمر بالنّظر حينئذ أمر تعبّدي وواجب آخر، ولا يخدش في إذعانه أصلاً، كما نشاهد ذلك في الفروع أنّ بعضهم قد يظنّ أنّ عرض الصّلاة على المجتهد واجب على حدة، بل قد يزيد هذا الشّخص في إذعانه بما قرع سمعه من وجوب النّظر، فإنّ العالم الواعظ من أهل ملّته إذا نبّهه على أنّ مسألة الإمامة خلافيّة، وللمخالفين أيضاً أدلّة على مذهبهم لا بدّ أن يلاحظ ثمّ يختار مذهب الإماميّة، يدخل في ذهنه أنّ هذا العالم المتبحّر الورع مع وجود الدّليل على مذهب المخالفين ترك مذهبهم وأخذ هذا المذهب، مع معرفته بوجوب النّظر والاجتهاد، وهذا المذهب ممّا لا يأتيه الباطل أبداً، فيقصّر في النّظر ويسامح فيه.
فهذا أيضاً مثل السّابق في الغفلة عن حقيقة الأمر، والظّاهر أنّه أيضاً معذور إلّا في ترك هذا الواجب، وسيجيء الكلام في حاله وأنّه فاسق أو لا)([7]).
المناقشة
أقول: الغافل على قسمين، فقد يكون غافلاً عن قصور وقد يكون غافلاً عن تقصير، والمعذور إنما هو الجاهل عن قصور، والظاهر ان مبنى كلامه (قدس سره) على الغافل عن قصور ولذا مثّل بالأطفال والنسوان (في تلك الأزمنة)([8]) بل لعل كلامه بأكمله مما يشهد على ذلك.
الثمرة
ويترتّب على مبناه من معذِّرية الغفلة ثمرة مهمة وهي ما ذكره من: (ولكنّ هذا الكلام لا يتفاوت فيه الحال بين الموافق والمخالف والمسلم والكافر على ما اقتضاه قواعد العدليّة.
والقول بتعذيب الكفّار والمخالفين دون المسلمين والشّيعة خروج عن العدل)([9]) وقد ظهر ان الخروج عن العدل إنما هو في الغافل عن قصور لا عن تقصير، وإما اختيارية الإصابة وعدمها فسيأتي الكلام عنها.
ج- المطابقة للواقع
الثالث: ان المؤمِّن من العقاب هو (الإصابة) أو (المطابقة للواقع) فإنه إن أصاب فعمل على طبق ما أصاب فلا محلّ حينئذٍ ولا وجه للعقاب، ويسمى حينئذٍ منجزاً (المنجّز هو الموجب لاستحقاق العقاب بالمخالفة والمعذّر هو الموجب للاعتذار عند الموافقة وإن كان واقعاً مخالفاً للحق).
المناقشة: ليست المطابقة اختيارية
ولكن قد يعترض على ذلك: بان الإصابة والمطابقة وعدمهما أمور غير اختيارية، فلا يصح إناطة العقوبة وعدمها بها، فإن الإصابة أمر مرتهن بلطف الله وعنايته وقد ورد عن محمد بن حكيم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ((الْمَعْرِفَةُ مِنْ صُنْعِ مَنْ هِيَ؟ قَالَ: مِنْ صُنْعِ اللَّهِ لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ))([10]) وحينئذٍ تكون إناطة العقوبة والمثوبة بهما خروجاً عن العدل، ونقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: ((لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّمِ إِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ فَإِذَا أَرَدْتَ الْعِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلًا فِي نَفْسِكَ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ وَاطْلُبِ الْعِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَاسْتَفْهِمِ اللَّهَ يُفَهِّمْكَ))([11]).
الجواب: الاختياري بالواسطة اختياري
ويمكن الجواب: بان المقدور بالواسطة مقدور والاختياري باختيارية مقدماته اختياري، فحيث كان بمقدوره النظر (أو تقليد الجامع للشرائط ليصل عبره إلى الواقع) فإذا نظر فوصل إلى الواقع، كان وصوله إليه اختيارياً باختيارية سلوكه الطريق، وأما الذي سلكه فاخطأ فإن الخطأ هذا غير اختياري له، لذا فهو معذور.
وهذا الذي ذكرناه في الأصول هو الذي التزموه في الفروع فان المجتهد إذا استفرغ وسعه فوصل إلى ما كان في علم الله هو الحق، كان مُثاباً، وقد وصل إليه باختياره الطريق المؤدي إليه، وأما إذا اجتهد فاخطأ فانه معذور وذلك لأن خطأه حينئذٍ كان لأمرٍ غير اختياري (إذ الفرض انه قد بذل قصاى جهده) وهذا الأمر غير الاختياري أما ضياع بعض الروايات (التي لو وصلت إلينا كلها لما ضللنا البتة) أو لوجود مسبقات فكرية أو نفسية خفية، اثّرت، من حيث لا يشعر، على دعواه مثلاً الانصراف أو العكس: دعواه ان المولى كان في مقام البيان من هذه الجهة أو غير ذلك.
والحاصل: ان الإصابة مقدورة أما عدمها فليس بمقدور (فيمن طلب الحق فاخطأه لا فيمن طلب الباطل فأصابه).
الرد: تتقوّم القدرة باختيارية طرفيها
ولكن قد يعترض على ذلك بان القدرة مما لا يعقل فيها التفكيك بين الطرفين، فإن القادر على الفعل قادر على الترك ولو لم يكن قادراً على أحدهما لم يكن قادراً على الآخر، فكيف تكون الإصابة مقدورة وعدمها غير مقدور؟ وذلك نظير اعتراضنا على من قال بِقِدَمِ العالم بانه يلزم منه جبر المولى جل وعلا، فانه إذا كان الفيض لازماً لذاته كما قال به بعضهم، لما أمكنه عدم الإفاضة فما أمكنته الإفاضة فكانت غير مقدورة له تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وسيأتي الجواب غداً بإذن الله تعالى.
* * *
ما هو الفرق بين قول المشهور بأن القطع (أو الجزم) معذِّر وبين قول صاحب القوانين ههنا بأن الغفلة معذِّرة؟
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
عن أبي عبد الله (عليه السلام): ((إِيَّاكَ وَالسَّفِلَةَ فَإِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، وَاشْتَدَّ جِهَادُهُ وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ، وَخَافَ عِقَابَهُ، فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ)) (الكافي: ج2 ص 233).
------------------------------------
([1]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص359.
([5]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص359.
([8]) وأما العوام فقسمان عادةً.
([9]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص361.
([10]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص163.
([11]) الشهيد الثاني، منية المريد، مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، ص150.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |