197- الفرق بين الجزم والغفلة، كمقياس للمعذِّر - فرق الكافر عن المسلم في استحقاق العقوبة
الاحد 5 شعبان 1444هــ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(197)
وبعبارة أخرى: ههنا بحوث:
المقياس في المنجز والمعذِّر
البحث الأول: انّ الملاك في المعذِّر والمنجّز، والمدار فيهما والمقياس، أو فقل: علتهما أو عللهما أو أحدهما، هو أحد الأمور التالية، بحسب الأقوال والمحتملات:
الأول: الجزم أو القطع، وهو ما ذهب إليه المشهور.
الثاني: الغفلة، باعتبارها ملاك الإعذار، وهو ما ذهب إليه صاحب القوانين، مما يصلح أن يعد قولاً في مقابل المشهور.
النسبة بين الجزم والغفلة
ويجب قبل المفاضلة بين القولين، بيان الفرق بينهما، فنقول: يظهر الفرق ببيان النسبة بينهما، فإن النسبة بينهما هي من وجه:
أما مادة الاجتماع: فالقاطع بالباطل الغافل عن احتمال الخلاف.
وأما مادة افتراق القاطع عن الغافل، أي من كان قاطعاً ولم يكن غافلاً، فهي: القاطع بالحق؛ فانه قاطع لكنه لا يطلق عليه الغافل لكونه قد انكشف له الواقع على الفرض (وهو انه قاطع بالحق) ومن البديهي أنه لا يطلق الغافل على من انكشف له الحق والواقع، وإنما يطلق الغافل على الغافل عن الحق فهو نوع من أنواع الجاهل أو هو قسم ثالث فلا عالم ولا جاهل.
وأما مادة افتراق الغافل عن القاطع أي الغافل غير القاطع، فهي غير الملتفت فان غافل لكنه ليس بقاطع وقد يكون لو التفت ظاناً أو شاكاً أو ظاناً بالخلاف أو قاطعاً بأحد الطرفين.
والحاصل: انّ الغافل قسمان: غير الملتفت بالمرة، الملتفت القاطع بالخلاف.
وعلى أيٍّ فيكفي الإذعان بوجود مادة افتراق للغافل عن القاطع، أو العكس، في لزوم البحث عن مدارية أي منهما.
والغفلة هي مدار الإعذار، عقلاً، لا الجزم
والظاهر أنّ الغفلة هي المدار، عقلاً، في العذر مع كونها عن قصور، والقاطع بالخلاف إنما كان معذوراً لكونه غافلاً عن احتمال الخلاف (وعن الحق)، ولذا لو فرض إمكان الانفكاك بينهما([1]) بأن كان قاطعاً (بالباطل) غير غافل لما كان معذوراً عقلاً. فتدبر.
وبوجه آخر: في مادة اجتماع الغفلة مع القطع، يحكم العقل بأن مدار العذر هو الأول دون الأخير.
فتحصل ان مختار القوانين هو الأولى من مختار المشهور، ولكن ومع ذلك فان لاختيار المشهور القطع دون الغفلة محوراً للبحث الأصولي وجهاً وجيهاً وهو: أن القطع حيث كان مقسماً للعلم والجهل المركب فهو منجز ومعذِّر عكس الغفلة التي هي معذرة فقط، وحيث كان همّ الأصولي كلا المطلبين، المنجزية والمعذِّرية، وجب انتخاب عنوان جامع، ولكن ومع صحة ذلك فانه كان الأولى البدء بما بدأوا والانتهاء بما انتهى إليه القوانين، بمعنى أن يبدأ البحث عن القطع وانه منجز ومعذِّر ثم عند البحث عن المعذِّر، ومنه مورد البحث في أصول الدين، يقع البحث في أن الغفلة معذِّرة أو لا.
أصول الدين من المستقلات فلا تعقل الغفلة فيها
البحث الثاني: ان أصول الدين، داخلة، على المشهور المنصور، في دائرة المستقلات العقلية بمعنى انها مما يدركه العقل أو يحكم به باستقلاله، وعليه:
قد يقال: بأنه لا تعقل الغفلة فيها عن الواقع فيها نظراً لحكم العقل بها؛ كحكمه بوجود الله تعالى ووحدانيته، ولا الغفلة عن حكمه بوجوب النظر، أما الأول وهو حكم العقل بالواقع فيها فسيأتي مفصلاً عند طرح الخلاف في إمكان وجود القاصر في المعرفة وأصول الدين وعدمه، والبحث ههنا يجري عن الثاني وهو انه قد يقال باستقلال العقل بوجوب النظر وعليه: فانه لو قلّد في أصول الدين استحق العقاب إن لم يطابق، وهو ظاهر وكذا إن أصاب، على الظاهر.
إمكان الغفلة عن وجوب النظر بوجهين
ولكن الحق هو إمكان وجود الغافل عن مسألة وجوب النظر والاجتهاد في أصول الدين، كطريق للإصابة وذلك هو ما أشار إليه القوانين بقوله: (والحقّ، أنّ النّافي لوجوب النّظر مستظهر لأنّ المكلّف حينئذ غافل عن الوجوب بالفرض، ويحسب اعتماده على مثل ذلك أوج معرفة كماله)([2]) وعلّله بوجهين:
الأول: (وأمّا من قرع سمعه أنّه يلزم عليه النّظر تفصيلاً وأن يكون أخذ الاعتقاد بالدّليل التّفصيليّ لا الإجماليّ، بمعنى الحاصل بالاعتماد على الغير، ومع ذلك قصّر في ذلك واكتفى بالتّقليد، فهو على قسمين:
الأوّل: ما يحصل بسبب ذلك له الشّك ويزول عنه السّكون والاطمئنان.
فالحقّ، أنّ ذلك مقصّر آثم غير مؤمن، لعدم حصول الإذعان له أصلاً، فإذا تقاعد من [عن] النّظر فلا ريب في أنّه آثم غير معذور، وليس من جملة المؤمنين.
وسيجيء الكلام في حاله، ولا يحسن أن يدخل ذلك في محلّ النّزاع إذ لا أظنّ أحداً أنّه قال بجواز مثل هذا التّقليد.
والثّاني: من لا يحصل له الشّك، بل اطمئنانه باق على حاله، وقد يظنّ أنّ الأمر بالنّظر حينئذ أمر تعبّدي وواجب آخر، ولا يخدش في إذعانه أصلاً، كما نشاهد ذلك في الفروع أنّ بعضهم قد يظنّ أنّ عرض الصّلاة على المجتهد واجب على حدة)([3]).
أقول: سواء أقرع سمعه وجوب النظر كما قال (قدس سره) أو حكم عقله به فانه قد يحكم عقله بأن المعرفة (للواقع وأصول الدين) واجب نفسي مطلوب في حد ذاته، ويحكم بأن النظر والاجتهاد مجرد طريق من الطرق فلا وجه لوجوبه إلا الإيصال إلى الواقع فإذا وصل إلى الواقع، بزعمه عبر التقليد، فلا يبقى وجه حينئذٍ، بنظره، لوجوب النظر إلا التعبد والمصلحة السلوكية، وهو ما يتوقف على السمع، فهو غافل إذاً عن وجوب النظر تعييناً أي باعتباره الطريق الموصل وان غيره غير موصل، فلو قلَّد وأذعن بالباطل فهو غافل. فتأمل.
الثاني: ما أشار إليه بقوله: (بل قد يزيد هذا الشّخص في إذعانه بما قرع سمعه من وجوب النّظر، فإنّ العالم الواعظ من أهل ملّته إذا نبّهه على أنّ مسألة الإمامة خلافيّة، وللمخالفين أيضاً أدلّة على مذهبهم لا بدّ أن يلاحظ ثمّ يختار مذهب الإماميّة، يدخل في ذهنه أنّ هذا العالم المتبحّر الورع مع وجود الدّليل على مذهب المخالفين ترك مذهبهم وأخذ هذا المذهب، مع معرفته بوجوب النّظر والاجتهاد، وهذا المذهب ممّا لا يأتيه الباطل أبداً، فيقصر في النّظر ويسامح فيه.
فهذا أيضاً مثل السّابق في الغفلة عن حقيقة الأمر، والظّاهر أنّه أيضاً معذور إلّا في ترك هذا الواجب، وسيجيء الكلام في حاله وأنّه فاسق أو لا)([4]) وسيجيء بحث ذلك لاحقاً بإذن الله تعالى.
هل يوجد فرق بين مقلِّدة الكَفَرَةِ ومقلِّدة المسلمين؟
البحث الثالث: انه على القول بتحقق الغفلة عن وجوب النظر كطريقٍ موصل للواقع وانّ به تبرأ ذمته عما اشتغلت به لا غير (لا بالتقليد مثلاً، ولا بالرمل والاسطرلاب أو بالأحلام والفنجان) فهل يختلف حال مقلدة الكَفَرَةِ ومقلدة المسلمين؟ بأن نقول بأن مقلدة الكفرة يستحقون العقاب؛ لمخالفتهم الواقع، ومقلدة المسلمين لا يستحقونه؛ لمطابقة قولهم الواقع؟
اختار القوانين عدم الفرق وانه لو قلنا بجواز التقليد، فكلا الفريقين معذور، قال: (هذا، ولكن هذا الكلام لا يتفاوت فيه الحال بين الموافق والمخالف والمسلم والكافر على ما اقتضاه قواعد العدليّة)([5]) وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
* * *
- ما الفرق بين الغفلة والجهل؟ حقق عن ذلك في كتب فقه اللغة.
- أقم دليلاً على أن النسبة بين القطع والغفلة هي من وجه، أو أشكل على ذلك.
- هل جميع أصول الدين تقع ضمن دائرة المستقلات العقلية؟ وما الضابط؟
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((عَجِبتُ لأقوامٍ يَحتَمُونَ الطَّعامَ مَخافَةَ الأذى كيفَ لا يَحتَمُونَ الذُّنوبَ مَخافةَ النّارِ؟!)) (تحف العقول: ص204).
-----------------------------------
([2]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص360.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |