191- جواب آخر عن شبهة عدم حصول علم للمقلِّد ابداً ـ الاشكال على دعوى الإجماع ، بعدم التلازم بين القول بوجوب المعرفة والقول بوجوب العلم . وتفريق دقيق بين الشارع والفقيه ـ وجه ضرورة الاحتياط في مخالفة المشهور
السبت 1صفر 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الإشكال بأن المقلد لا يحصل له العلم أبداً
كان البحث حول الدليل الرابع الذي ذكره صاحب القوانين على وجوب الاجتهاد في اصول الدين, وهو الاجماع, مع تتميمات ثلاثة، كان ثالثها ما تقدم ذكره، مع بعض الإشكالات عليه,بقي اشكال اخير عليه، فلقد كان محصل الوجه الثالث, ان المقلد لا يمكن ان يحصل على العلم لأن هذا العلم اما ضروري واما نظري وكلاهما غير ممكن او غير متحقق في حق المقلد بالمرة، واجبنا عن ذلك بما سبق ونضيف اجابة اوضح مما تقدم, لأن تلك الاجابات كانت اجابات علمية وهذه الاجابة اجابة وجدانية، وكثيرا مايُلجأ في العلوم إلى كلا النمطين من الجواب:الى الجواب العلمي التحليلي والجواب الوجداني الفطري.
الجواب: هذه شبهة في قبال البديهة
والجواب الاخير: هو ان هذه شبهة في مقابل البديهة فلا يصغى اليها؛ وذلك لوضوح ان المقلدين في كثير من القضايا يحصل لهم العلم من قول المقلَّد، وادل دليل على امكان الشيء وقوعه، حيث نرى ان العوام الذين يقلدون المجتهدين فانهم في كثير من الاحيان يقطعون من قولهم، وكذلك من يتبع اي اهل خبرة في اي موضوع فان كثيرا منهم قد يقطع، اذن الشبهة مندفعة بالاحالة لحكم الوجدان وبالاحاله إلى البرهان الاني الذي اشرنا اليه؛ بان ادل شيء على الامكان هو الوقوع، اذن: قوله لو كان المقلد عالما لكان علمه اما ضرورياً اونظرياً وكلاهما باطل فالمقدم باطل كذلك,نقول هذا الاستدلال باطل حتى لو لم نستطع بيان وجه البطلان علمياً, وقد بينا وجه البطلان علميا لكن الكلام الآن في الوجهالفطري.
والقاعدة العامة في كثير من العلوم والقضايا هي انه يمكن ان يتمسك بمثل هذا الدليل،سواءا للمجتهد ام للمقلد، اذ قد يعجز حتى المجتهد من الاجابة عن الشبهة بالوجه العلمي فيكفيه ان يلجأ إلى الوجدان والفطرة,وهذا بحث له مجال اخر وان كانت له من الاهمية ما له.
النقاش الصغروي في تحقق الإجماع
المبحث الآخر: قد يستشكل صغروياً على الاجماع المدعى بغير ما اشكلنا به على الاجماع سابقاً، حيث قلنا ان الاجماع صغرويا غير محصل بل المحصل خلاف الاجماع الذي ادعاه العلامة الحلي, حيث ادعى (الاجماع على وجوب المعرفة عن دليل)، هذا الإجماع مخدوش صغرى، لأن الأقوال ستة بل اكثر، اما الاجماع الاخر الذي ذكرنا انه غير مخدوش صغرى فهو الاجماع على وجوب المعرفة، والذي كانت له تتميمات ثلاثة وقد ناقشناها، واما المناقشة الاخرى فهي: ان هناك خلطا قد حدث لدى من يدعي الاجماع عندما لاحظ معاقد الاجماع فتوهم معقد الإجماع أمراً واحداً لكن التدقيق يقودنا إلى ان معقد الاجماع مختلف، فان بعض الفقهاء ذكر (وجوب معرفة الله) وبعضهم ذكر (وجوب العلم بالله او بأصول الدين) فمصب دعوى الاجماع احيانا المعرفة واحيانا العلم، فتوهم مدعى الإجماع مساوقة احدهما للاخر وان المعرفة تساوي العلم والعلم يساوي المعرفة
لكن قد يقال: انه لا تلازم بين العلم والمعرفة ثبوتا اذ قد تكون هناك معرفة ولا يكون هناك علم,بان تكون المعرفة ظنية، والحاصل: انه لو كان العلماء اجمعوا على هذا المعقد(وجوب العلم باصول الدين)لتم الاجماع صغرى, لكن بعضهم لم يصرِّح بذلك بل افتى بوجوب معرفة اصول الدين او وجوب معرفة الله وسائر اصول الدين، والمعرفة قد يقال انها لا تلازم العلم.
ان قلت: هناك تلازم ثبوتي بين المعرفة والعلم لأن غير العالم، اي الظان، يمكن ان تسلب عنه المعرفة بالحمل الشائع الصناعي ولو حمل عليه لكان مجازا,فشخص يظن ان الله موجود، لا يقال له هذا عارف وانما يقال ظان، وبعبارة أخرى: تقرير هذا التلازم الثبوتي هو: ان من يقول من الفقهاء بوجوب المعرفة فقد التزم بوجوب العلم فالاجماع صغرى منعقد على وجوب العلم.
التفريق بين الشارع وغيره في إلزامه باللوازم القطعية
قلت: لو تم هذا القول (التلازم الثبوتي بين المعرفة والعلم) وانه لا معرفة بدون علم، فنقول بان حال الشارع يختلف عن حال سائر المجتهدين من حيث صحة نسبة التالي له، دونهم، على فرض ثبوت نسبة المقدم له أو لهم، وهنا موطن فرق بينالشارع والفقهاء ولابد من التفريق بينهما في هذه الكبرى وصغراها, توضيحه: انه قد يصح القول (لو اوجب الشارع المعرفة لأوجب العلم)بناء على التلازم الثبوتي المدعى على فرضه، لكن لا يصح القول (لو اوجب المجمعون المعرفة لأوجبوا العلم)، حتى بناء على التلازم الثبوتي هذا هو الفرق الدقيق بين ما اذا كان الفاعل في المقدم هو الشارع فسيكون الكلام تاماً اما لو كان الفاعل في المقدم هو الفقيه او كافة الفقهاء لما كان التلازم تاما.
ولنكرر ما ادعيناه ونؤكده أولاً: لو اوجب الشارع المعرفة لاوجب العلم قهرا لكن لو اوجب الفقهاء اي المجمعون المعرفة فهل نستطيع ان نلزمهم بانكم اوجبتم العلم ؟
الجواب:كلا, لكننا نستطيع ان نلزم الشارع بذلك فلو ان الرسول صلى الله عليه واله وسلم قال: تجب المعرفة، نقول اذن لابد من انه قد أوجب العلم، اما اذا الفقهاء إذا قالوا تجب المعرفة فلا نستطيع ان نلزمهم بهذا اللازم الثبوتي، بنظرنا، وأنهم قد أوجبوا العلم.
فما هو الفرق بين الفاعلين في المقام ولِمَ فككنا؟
نقول: السر في ذلك هو ان المقدَم ثبوتُه، يصلح حجة من المجتهد على الشارع لإلزامه بالتزامه بالتالي، لكنه لا يصلح حجة من المجتهد على سائر الفقهاء لإلزامهم بالتزامهم بالتالي، وذلك لأن الفقيه القاطع,او اي قاطع, يرى علمه مرآة للواقع فاذا رأى علمه مرآة للواقع في المقدَّم فانه لا يشك حينئذ في ان الشارع قد رتب على ذلك الواقع لوازمه القطعية اذ لا يحتمل في حق الشارع الخطأ، اما الفقيه فانه وإن رأى ذهنه مرآة للمقدمفي قول الفقهاء - وهو ما صرحوا به من وجوب المعرفة - لكنه لا يستطيع ان يلزمهم بانكم حيث صرحتم بوجوب المعرفة فلازمها الثبوتي الذي احرزته انا، لازم ايضا بنظركملأن اجتهادهم قد يكون غير ذلك، والتخريج المنطقي لذلك انه يحتمل في حقهم الخطأ في توهم عدم الملازمة مما لا يحتمله في حق الشارع، وبتعبير اخر: لو فرض وجوب ملازمة ثبوتية بين مقدم وتالي فلو احرز الفقيه، بالعلم، المقدمَ استطاع ان ينسب للشارع التالي اي التزامه بالتالي،وهذا نظير جريان قاعدة الملازمة العقلية وانه كلما حكم به العقل حكم به الشرع، اما لو احرز الفقيه الملازمة الثبوتية بين امرين واحرز ان فقيهاً آخر أو سائر الفقهاء قال بالأمر الاول فلا يستطيع الفقيه الأول أن يلزم الفقيه الثاني أو سائر الفقهاء بالقول بالتالي أيضاً اذلعل الفقيه الثاني لا يرى الملازمة الثبوتية.
ان قلت: لعل الشارع ايضا لا يرى الملازمة الثبوتية؟
قلت:حيث ان المجتهد لا يحتملفي حق الشارع الخطأ، فاذا قطع بالمقدم فانه سيقطع بالتالي قهرا, والا للزم التناقض في حكم الشارع في نظر الفقيه، اما الفقهاء فحتى لو قطع المجتهد بالملازمة وقطع بقولهم بالمقدم لكنه لا يقطع بقولهم بالتالي اذ لعلهم لا يرون ذلك التالي تاليا (خطأً منهم بنظره)
وبتعبير اكثر دقة:علم الفقيه مرآة للواقع، ولو بنظره، فلا يعقل ان يكون نظر الشارع بخلافه، ولو بنظره، لعدم امكان خطأ الشارع، واقعا وبنظره، لكنه يعقل كون نظر المجتهد الاخر بخلافه - حتى بنظر هذا الفقيه - لامكان خطأ الاخر بنظر الاول. فليتأمل به فهو بحث دقيق وسيال.
ويمكن ان نعمم البحث بصورة اوسع، فلو فرض ان هنالك تلازماً ثبوتياً واقعيا او متوهما بين عنوانين، أو مساواة وتطابقاً فان القطع باحدهما مسوغ للفقيه بان يحمِّل الشارع العنوان الاخر، ولا يسوِّغ له ان يحمِّل سائر الفقهاء الذين التزموا بالعنوان الاول العنوانَ الثاني،
وفي ما نحن فيه، الصغرى المصداقية هي: (الفقهاء اجمعوا على وجوب المعرفة) فلو قطع الفقيه بالتلازم بين المعرفة والعلم لما أمكنه إلزام سائر الفقهاء بأنكم إذن قهراً تقولون بوجوب العلم اذ قد يقول أولئك بانهم يرون المعرفة مما تحصل بالظن أيضاً، فليتأمل.
السر في ضرورة مراعاة نظر المشهور
ولا بد هنا من الإشارة إلىدور الاجماع واراء الفقهاء في استكشاف الحكم الشرعي:وإذ قد يقال: ما الذي يهمنا إذا كان هذا هو رأي المشهور او حتى المجمع عليه؟ اذا كنا ممن يرى ان الشهرة الروائية او الفتوائية غير حجة؟ لكننا نرى الكثير من الاصوليينممن يرى ان المشهور غير حجة ايضا يفتون على طبق المشهور أو يحتاطون في مخالفته، فما بالك بمخالفة الإجماع؟ مع ان المشهور ان الاجماع المدركي بل محتمل المدركية غير حجة،والاجماع في المقام معلوم الاستناد إلى الآيات التي اشرنا اليها والروايات، فالاجماععلى هذا لا قيمة له وانما القيمة لتلك الادلة العقلية والنقلية من ايات وروايات فلم البحث عن رأي المجمعين؟ لكن المشاهد في الفقه ان كلا الطرفين يبحث عن الشهرة وعن الإجماع ويتوقف عندها أو يحتاط حتى من لا يرى ان قول المشهور حجة، اذن لماذا التوقف والاحتياط؟
الجواب على ذلك يظهر بالرجوع إلى بناء العقلاء، مع قطع النظر عن قاعدة اللطف: فنقول ان الفقيه اهل خبرة بلا شك وان الفقيه الاخر هو اهل خبرة أيضاً، لكن مما لا شك فيه ان الفقيه الاخر لوكان اعلم فان للاعلمية مزية وارجحية(إلى حد الوجوب في التقليد او إلى حد الرجحان على القولين) وكذلك الشهرة وتعاضد الفقهاء، فإن الفقيه الورع لورأىالمئات من الفقهاء من اهل الخبرة على اختلاف اذواقهم وظروفهم وبيئاتهم وتراكماتهم المعرفية وخبراتهم، وعلى وجود الكثرة الكاثرة من المدققين والورعين فيهم،لو رآهم يحملون رأيا على الخلاف فانه لا اقل يورث حسن الاحتياط بعدم مخالفتهم إن لم يورث لزومه، فانهم قد رأوا ما رأى من الادلة ومع ذلك قالوا بما قالوا، افلا يستدعي ذلك منه التوقف على الاقل او الاحتياط؟,ولذا نجد كثيراً من الفقهاء يحتاطون في مخالفة المشهور في مثل اشتراط الحياة في مرجع التقليد مع انادلة ذلك ضعيفة، ووجه الاحتياط ان الفقيه يرى ان المشهور هم اهل خبرة متثبتون مما يوجد احتمال اقربية رأيهم للواقع.
اذن مقتضى القاعدة لو عارض رأي الفقيه المشهورَ ان يحتاط او يتوقف، اللهم الا لو كانت الادلة من الجلاء والوضوح والقوة في نظره بحيث ترجح عنده على مزية تعاضد الفقهاء وذلك نظير ما لو كان المفضول اعلم في قضية ومسألة معينة فان رايه يرجح على راي الاعلم بشكل عام ويجب ان يقلد العوام المفضول في خصوص هذه المسألة، وهذه مسألة مغفول عنها عادة، وحاصلها انه حسب مبنى الكثير فان الاعلم يجب تقليدهلكن قد لا يكون الاعلم اعلم في باب المعاملات، فيجب على العامي التبعيض في التقليد حينئذ وفيما نحن فيه, فالفقيه لو قطع او كانت القرائن في نظره من الوضوح بحيث تغلب على مزية الشهرة عقلائيا فان له ان يفتي حسب ما رأى ولكن مع ذلك يستحسن له ان يحتاط استحبابا، لكن لو لم تكن الأدلة لديه بهذه المثابة فانه سيحتاط وجوبا.
وهذا يستدعي من المجتهد عدم الجرأة في اقتحام مخالفة المشهور بمجرد ان يظهر له رأي الا بعد ان يتثبت ويتثبت، فان بقيت القضية على وضوحها بنظره فله ذلك، ومع ذلك يستحسن له الاحتياط.
المبحث القادم:
وسيأتي البحث في كلام اخر لصاحب القوانين وسنناقش كلماته بإذن الله رغم انه يشهر سيفه لرد الاجماع بل لرد الادلة فان هذه الردود من صاحب القوانين ظاهرها رد الاجماع لكن واقعها رد الادلة التي تدل على وجوب الاجتهاد في اصول الدين، فمباحِثُهُ مفتاحية، و اجمال عناوينه ثلاثة اولا لا يمكن تحصيل العلم في اكثر المعارف فالقول بوجوب الاجتهاد فيها تكليف بما لا يطاق وثانيا القول بوجوب الاجتهاد في اصول الدين موجب للعسر والحرج (واضيفُ: الشديدين) والعسر والحرج مرفوعان وثالثا الاصل عدم الوجوب، هذه اشكالات ثلاثة لعدم الوجوب وسنجيب عنها بمجموعة اجوبة.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
السبت 1صفر 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |