بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(209)
الملخّص
سبق قول الشيخ: (لكن الذي يقتضيه الإنصاف: شهادة الوجدان بقصور بعض المكلفين، وقد تقدم عن الكليني ما يشير إلى ذلك، وسيجئ عن الشيخ (قدس سره) في العدة: من كون العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم. هذا، مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر)([1]).
وقد سبق الاستشهاد له بروايات مستفيضة، لكن التدبر فيها أفاد أنها تثبت الواسطة بين التشيع والكفر وليس بين الإسلام والكفر.
الاستدلال بـ((إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ)) على وجود القاصر
كما أشرنا إلى رواية أخرى يمكن الاستشهاد له بها وهي: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن خلف بن حمّاد، عن أبي أيوب الخزَّار، عن محمد بن مسلم، قال: ((كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) جَالِساً عَنْ يَسَارِهِ وَزُرَارَةُ عَنْ يَمِينِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ؟ فَقَالَ: كَافِرٌ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَالَ: فَشَكَّ فِي رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: كَافِرٌ، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى زُرَارَةَ فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ))([2]).
إشارة إلى سند الرواية
والرواية، بحسب تعبير العلامة المجلسي، صحيحة وهي كذلك فيما نرى فإن أحمد وأباه محمد وإن كانا يرويان عن الضعفاء إلا أنهما ثقتان، كما ان هذه الرواية لم يروياها عن الضعفاء،، قال النجاشي والطوسي: (أحمد بن محمد بن خالد البرقي: «أبو جعفر، أصله كوفي... وكان ثقة في نفسه، غير أنّه أكثر الرواية عن الضعفاء، واعتمد المراسيل، وصنّف كتباً كثيرة... توفّي 274 أو 280هـ»([3])؛ ذكره الطوسي([4]) أيضاً في رجال الهادي والجواد ـ عليهما السَّلام ـ .قال ابن الغضائري: «طعن عليه القمّيون، وليس الطعن فيه إنّما الطعن فيمن يروي عنه فإنّه كان لا يبالي عمّن أخذ، على طريقة أهل الأخبار»([5])، وقال العلاّمة: «عندي أنّ روايته مقبولة». وقع بعنوان أحمد بن محمد بن خالد في اسناد 830 رواية على ما في معجم رجال الحديث(2/266).([6])
وأما محمد بن خالد البرقي فهو محمد بن خالد بن عبد الرحمان: ابن محمد بن علي البَرْقي; قال النجاشي: «أبو عبد الله...ينسب إلى بَرْقَة رُوْد قرية من سواد قم على واد هناك... وكان محمّد ضعيفاً في الحديث، وكان أديباً، حسن المعرفة بالأخبار وعلوم العرب، وله كتب...»([7]); وقال الطوسي: «له كتاب النوادر»; وعدّه أيضاً في رجال الرضا ـ عليه السَّلام ـ قائلاً: «ثقة... من أصحاب أبي الحسن موسى عليه السَّلام ـ »([8]). وذكره في رجال الجواد ـ عليه السَّلام ـ أيضاً; قال ابن الغضائري: «حديثه يعرف وينكر، ويروي عن الضعفاء كثيراً، ويعتمد المراسيل»([9]) وتضعيف ابن الغضائري لا يعتد به، بل ان إكثاره الطعن في علماء الشيعة، مضعف له، هذا لو صحت نسبة كتابه إليه.
وأما خَلَف بن حمّاد فهو (أبو صالح من أهل كش، من مشايخ الكشي وقد أكثر الرواية عنه). وهي دليل على التوثيق من مثله.
وأما أبو أيوب الخزّار فهو إبراهيم بن عيسى: قال النجاشي: «أبو أيوب الخزاز، وقيل إبراهيم بن عثمان، روى عن: أبي عبد الله وأبي الحسن ـ عليهما السَّلام ـ ، ثقة، كبير المنزلة، له كتاب نوادر كثير الرواة عنه»([10]); وعبّر عنه الطوسي بـ«الكوفي الثقة». وذكره المفيد في رسالته العددية.
وأما محمد بن مسلم فأمره أشهر من أن يذكر فانه (محمد بن مسلم بن رَباح: قال النجاشي: «أبو جعفر الأوْقَص الطَّحّان، مولى ثقيف الأعور، وجه أصحابنا بالكوفة، فقيه ورع، صحب أبا جعفر وأبا عبد الله ـ عليهما السَّلام ـ ، وكان من أوثق الناس، له كتاب يسمّى الأربعمائة مسألة في أبواب الحلال والحرام... مات سنة 150هـ»([11]); ذكره الطوسي في رجال الباقر والصادق ـ عليهما السَّلام ـ ، وقال: «طائفي»; عدّه المفيد من الفقهاء والأعلام... روى الكشي ما يدل على جلالته، وعدّه من أصحاب الإجماع)([12]).
دلالة ((إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ)) على وجود الواسطة
ووجه الاستدلال بها تصريح الإمام (عليه السلام) بـ((إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ)) مما يفيد، بمفهوم الشرط والحصر، انّ الشاك في الله تعالى أو في رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسمان: فإذا جحد فهو كافر وإذا لم يجحد فليس بكافر، كما انه ليس بمؤمن لفرض انه شاك في الله أو في رسوله، لم يعقد قلبه على الإيمان به بل لم يعرفه.
المناقشات
ولكنّ الاستدلال بهذه الرواية يواجه بمشكلتين:
1- الدليل لا يطابق المدعى
الأولى: انه لا يطابق مدعى الشيخ إذ المدعى هو: وجود القاصر أي قصور بعض المكلفين (أقول: ويضاف له: انه مادام قاصراً فلا يعاقب بل لا يستحق العقاب) لكن هذه الرواية لا تدل على أكثر من وجود الواسطة بين الإيمان والكفر، وغير خفي انّ الواسطة قد تكون مقصرة وقد تكون قاصرة.
فان وجود الواسطة أعم من كونه قاصراً
بعبارة اخرى: الشاك في الله أو في رسوله غير الجاحد (وهذا الشاك هو الواسطة بين المؤمن وبين الجاحد) قد يكون قاصراً (كما هو مطلوب الشيخ (قدس سره) استناداً إلى انه لم تتم عليه الحجة أو لم يفهم الأدلة أو منعته الشبهات قهراً عن الإذعان بالأدلة وهضمها)، وقد يكون مقصِّراً كما لو استمع إلى الشبهات فشك واحتمل انه لو طالع الأجوبة لوجد فيها جواباً لكنه لم يطالعها تكاسلاً أو تسامحاً، فانه مقصر، أو انه كان شاكاً منذ البداية ولكنّه تقاعس عن سؤال العلماء ومراجعة الكتب فبقي شاكاً من دون أن يجحد، فانه مقصر.
والحاصل: ان وجود الواسطة بين المؤمن والكافر (وهو الشاك غير الجاحد) أعم من المدعى (وهو كونه قاصراً).
بعبارة أخرى: وجود الواسطة كبرىً، لا ينقح حال الصغرى (وانها من أي نوع هي).
2- بل لا تدل على وجود الواسطة؛ لوجه ين
الثانية: بل قد يقال: بانها لا تدل على وجود الواسطة أصلاً، إذ يحتمل فيها معنيان آخران هما:
أولاً: المراد من الرواية أن الشاك له حالتان، كما هو الشاهد خارجاً:
أ- أن يقرّ باللسان ويعقد قلبه رغم شكه، لأن عقد القلب ممكن على الموهوم فكيف بالمشكوك بل انه ممكن على المقطوع عدمه كما في الذين {جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ} (سورة النمل: الآية 14) فانهم عقدوا قلوبهم على الكفر رغم قطعهم بعكسه.
ب- ان يجحد، فهو كافر.
قال العلامة المجلسي (قدس سره): (الثالث: ما قيل: المراد بالشاك المقرّ تارة والجاحد أخرى، وأنه كلما أقرّ فهو مؤمن، وكلما جحد فهو كافر)([13]).
بعبارة أخرى: ان الشاك إذا اقرّ فهو مؤمن وإذا جحد فهو كافر، فعلى هذا لا دلالة في الرواية على وجود القسيم الثالث بل الشاك مندرج في أحد القسمين، ويكفي احتمال هذا الوجه لإبطال الاستدلال.
ثانياً: ان الشاك إذا جحد ظاهراً فهو كافر، وإلا فهو مسلم منافق تجري عليه أحكام الإسلام، قال المجلسي: (الرابع: أن المعنى أن الشك إنما يصير سبباً للكفر إذا كان مقروناً بالجحود الظاهري وإلا فهو منافق يجري عليه أحكام الإسلام ظاهراً)([14]) فلا يوجد قسم ثالث، بل إما كافر (جاحد) وإما مسلم (منافق).
وعلى أيّ، فانه لا يتوقف رد الاستدلال بهذه الرواية على وجود الواسطة، على ظهورها في أحد المعنيين الأخيرين، بل يكفي احتمالهما إلى جوار المعنى الأول، أي يكفي عدم ظهورها في المعنى الأول (اي وجود الواسطة وانه إذا لم يجحد فليس بكافر كما انه ليس بمؤمن لبداهة ان المؤمن عاقد للقلب مذعنٌ، والفرض ان هذا شاك في الله فكيف يكون مؤمناً؟) إذ مع وجود الاحتمال يبطل الاستدلال.
الرد: الشرط يدل على النقيض، وإن فرض وجود الضد
ولكن يمكن الجواب: بانه حتى إذا سلمنا ظهورها في أحد المعنيين الأخيرين أو في كليهما، فكيف بما إذا احتملنا، فانه لا يضر بدلالتها على وجود الواسطة، وهي نقيض الجحد فان وجود ضدٍّ وهو (الإقرار، أو النفاق) أو ضدين (الإقرار والنفاق) لا ينفي تحقق النقيض والذي به تثبت الواسطة.
توضيحه: انه لنفرض ان الرواية تفيد هذا المعنى (إنما يكفر إذا جحد، لا ما إذا اقَرّ فانه إذا أقر فهو مسلم) و(إنما يكفر إذا جحد لا ما إذا نافق، فانه إذا نافق فهو مسلم ظاهري) لكن نقول: ان ذلك يؤكد النقيض اي انه إذا شك لكنه لم يجحد ولم يقر ولم ينافق، فليس بكافر كما ليس بمؤمن، فهذا القسيم الرابع وهو الواسطة، وما أكثر مثل هؤلاء. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
* * *
اذكر مؤيدات لدلالة ((إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ)) على وجود الواسطة، أو مؤيدات على العدم.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((أَنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا بِاللَّيْلِ يُضِيءُ نُورُهَا لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا يُضِيءُ نُورُ الْكَوَاكِبِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج1 ص239).
-----------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص576.
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص399.
([3]) أبو العباس النجاشي، رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي، ص76.
([5]) ابن الغضائري، الرجال لابن الغضائري، دار الحديث ـ قم: ص 39.
([7]) أبو العباس النجاشي، رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي، ص335.
([8]) الشيخ الطوسي، رجال الطوسي، ص385.
([9]) ابن الغضائري، الرجال لابن الغضائري، دار الحديث ـ قم: ص 93.
([10]) أبو العباس النجاشي، رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي، ص20.
([11]) أبو العباس النجاشي، رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي، ص324.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((أَنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا بِاللَّيْلِ يُضِيءُ نُورُهَا لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا يُضِيءُ نُورُ الْكَوَاكِبِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج1 ص239).