بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(223)
إشارة إلى جلالة إبراهيم بن هاشم القمي
سبق: (الأول: إنّ سند الرواية غني عن البحث فيه لعدم الحاجة إليه؛ لما سبق من أن الروايات الكلامية([1]) تستند، عادةً، للعقل والبرهان أو للفطرة والوجدان أو لكتاب الله الفرقان، ونضيف: لأن مقاطع هذه الرواية تطابقها روايات أخرى مستفيضة أو معتبرة، فالمقطع الآنف الذكر هو نص رواية أخرى حسنة كالصحيحة وهي: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((الْمُسْتَضْعَفُونَ الَّذِينَ {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} قَالَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً إِلَى الْإِيمَانِ وَلَا يَكْفُرُونَ، الصِّبْيَانُ وَأَشْبَاهُ عُقُولِ الصِّبْيَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ))([2]))([3])
والرواية الأخيرة صحيحة فيما نرى إذ عمدة الكلام في وجه تنزّلها من الصحة إلى الحسن، هو إبراهيم بن هاشم القمي حيث لم يوثق بتوثيق خاص بل كان ممدوحاً؛ فان سائر الرواة لا شك في عدالتهم وكونهم في أعلى درجات الوثاقة فان ابن ابي عمر وجميل بن دراج من أصحاب الإجماع، وعلي بن إبراهيم جلالته أشهر من أن تذكر أو تسطر، وزرارة شأنه واضح جلي، وأما إبراهيم بن هاشم، فان القرائن الكثيرة دالة على عدالته وكونه بأعلى درجات الوثاقة ومنها ما قاله النجاشي من انه أول من نشر حديث الكوفيين بقم([4])، ومن الواضح أن علماء قم كانوا متشددين حينذاك جداً في الرجال حتى انهم طردوا مثل الأشعري، فكونه أول من نشر حديث الكوفيين بقم، يعني انه المؤسس والمصدر الأول فذلك مع عدم قدح أحد منهم فيه أبداً، يفيد الاطمئنان عرفاً بصدقه وضبطه وعدالته، بل يكفي وقوعه في إسناد كل من كامل الزيارات وتفسير القمي، على المبنيين فيهما، وأما على غيرهما فيكون كل منهما قرينة مؤيدة، بل ان الكتب الأربعة تضمنت ستة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر حديثاً من أحاديثه ورواياته فليس له نظير إطلاقاً في كثرة الرواية عنه وفي الاعتماد على رواياته([5]) إلا ابنه علي الذي تضمنت الكتب الأربعة سبعة آلاف ومائة وأربعين حديثاً عنه.
وكثرة الرواية بهذا الكثرة الكاثرة مع ايداعها في أهم كتبنا المصدرية واعتماد العلماء على مرّ التاريخ عليه من غير قدح، يعد من أقوى الشواهد على جلالته بل كونه أكثر من الجليل، وقد ادعى السيد ابن طاووس الإجماع على وثاقته، كما تصدى منتهى المقال لجمع القرائن الكثيرة الدالة على ذلك. فراجع.
وعلى أي فان من لم يطمئن بذلك يكفيه حُسنه، والحسنة معتبرة دون ريب إلا انها لدى التعارض مع الصحيحة ترجح الصحيحة عليها هذا.
استدلاله (عليه السلام) بمن تساوت حسناتهم وسيئاتهم
وقال زرارة: ((ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ؟ فَقُلْتُ: مَا هُمْ إِلَّا مُؤْمِنِينَ أَوْ كَافِرِينَ، إِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ فَهُمْ مُؤْمِنُونَ وَإِنْ دَخَلُوا النَّارَ فَهُمْ كَافِرُونَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وَلَا كَافِرِينَ، وَلَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَدَخَلُوا الْجَنَّةَ كَمَا دَخَلَهَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَوْ كَانُوا كَافِرِينَ لَدَخَلُوا النَّارَ كَمَا دَخَلَهَا الْكَافِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ قَدِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَقَصُرَتْ بِهِمُ الْأَعْمَالُ وَأَنَّهُمْ لَكَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ))([6])
وجه استحالة الترجح بلا مرجح
ويتضح كلامه صلوات الله عليه أكثر عند التدبر في المقدمة المطوية التي ابتنى عليها الكلام وهي أن الترجح بلا مرجح محال، بل قد يقال الترجيح بلا مرجح محال فدخول من استوت حسناته وسيئاته الجنة أو النار بلا مرجح محال، بل لا بد من مرجح ما.. بيانه:
أن الترجّح بلا مرجح حيث يعود إلى وجود المعلول بلا علة فإن استحالته تكون حينئذٍ من البديهيات، وذلك لبداهة استواء طرفي الممكن، الوجود والعدم، فإذا ترجح أحدهما بلا مرجح كان ذلك من مصاديق حدوث المعلول بلا علة، إذ الترجح عنوان انتزاعي ويقصد به وقوع هذا الطرف دون قسيمه، فكيف وقع هذا الطرف من دون علة؟ والذي يعني، بعبارة أخرى، انه كيف ترجّح على طرفه وعديله دون مرجح؟.
وحينئذٍ نقول إذا استوت حسنات العبد وسيئاته، فكيف ترجّح دخوله الجنة على النار أو العكس؟
هل الترجيح بلا مرجح محال؟
وأما الترجيح بلا مرجح فقد اختلف فيه فقيل بامتناعه، وقيل بإمكانه، أما القول بامتناعه فلعوده إلى الترجح بلا مرجح، وان ما ادعي كونه ترجيحاً بلا مرجح يجاب عنه بأن الفاعل المختار لا يمكن له ترجيح أحد الطرفين على الآخر بلا مرجح بل لا بد منه وإن خفي، ففي طريقي الهارب ومائي الشارب لو اختار الطريق التي على اليمين فرضاً فلا بد انه كان لمرجح داخلي كارتكاز كون اليمين لديه الأفضل أو خارجي كرؤيته شبحاً من بعيد على منتهى الطريق فاحتمل أن يكون أسداً آخر لذا رجّح اليمين.
وأجاب من يرى الإمكان بأن الإرادة هي المرجح ولا نحتاج بعدها إلى مرجح لتعلقها بأحد الطرفين؛ إذ الذاتي لا يعلل بغيره.
ذاتيّ شيء لم يكن معلّلاً
وكان ما يسبقه تعقلا
وكان أيضاً بيّن الثبوت له
وعرضيّه اعرفن مقابله([7])
والإرادة ذاتيّها القدرة وإمكان اختيار أحدهما وترجيح هذا الطرف على ذاك أو العكس إذ لو لم يكن قادراً لما كان ذا إرادة ولو لم يمكنه إلا الإتيان بأحد الطرفين لما كان مريداً، ففرض كونه مريداً يقتضي عدم حاجته إلى مرجح وراء الإرادة نفسها وإلا كان خلفاً.
ما هو مرجح دخول أصحاب الأعراف، الجنة؟
وفي المقام: أصحاب الأعراف الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، قد يقال باستحالة دخولهم الجنة أو النار إلا بمرجح، لاستحالة الترجّح بلا مرجح، وأما الترجيح بلا مرجح، فإن قلنا بإمكانه فنقول بان مرجح دخولهم الجنة أو النار هو إرادته جل وعلا، وهي لا تعلل بما ورائها، والإرادة عامل ثبوتي، فهم حقيقة ثالثة، وليست الإرادة مجرد كاشف، فإن رُفِض المبنى قلنا المرجح لدخولهم الجنة هو رحمته تعالى (لا إيمانهم – كما ادعاه زرارة) والمرجح لدخول النار ذنوبهم (لا كفرهم – كما ادعاه زرارة) ولذا قال (عليه السلام): ((قَالَ: نَعَمْ أُرْجِئُهُمْ كَمَا أَرْجَأَهُمُ اللَّهُ، إِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ سَاقَهُمْ إِلَى النَّارِ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَمْ يَظْلِمْهُمْ)) ووجه عدم الظلم ان المكلف يستحق النار بالذنب الواحد، كما مضى تفصيله، فما بالك بكثرة ذنوبه حتى ساوت حسناته؟
الاحتمالات الخمس فيمن استوت حسناته وسيئاته
ومزيد تنقيح ذلك بعبارة أخرى: ان الاحتمالات فيمن استوت حسناته وسيئاته، خمسة:
1- أن يكون مؤمناً محضاً، 2- أن يكون كافراً محضاً، 3- أن لا يكون لأي من إيمانه أو كفره مدخلية في صدور الحسنة منه أو السيئة، 4- أن يجتمعا فيه ويكونان متزاحمين أي يكون مؤمناً وكافراً وحيث تزاحما وتكاسرا تماماً استوت حسناته وسيئاته، 5- أن لا يكون مؤمناً ولا كافراً بل يكون قسماً ثالثاً، وهذا هو ما بنى عليه الإمام (عليه السلام) فاحتاج إلى بحث المرجّح وانه الإرادة أو أمر خارج عنها كالرحمة.
ولكن إثبات الشق الأخير موقوف على إبطال الاحتمالات الأربع الأولى:
أما الاحتمالان الأولان، فهما غير معقولين إذ لا يعقل أن تصدر من المؤمن المحض سيئات بقدر حسناته أو تصدر من الكافر المحض سيئات بقدر حسناته، بل ان مَن مَحَضَ الإيمان أو الكفر لا يصدر منه إلا ما يشاكل سنخه أو يسانخ شاكلته، ولو فعل لما كان ممحضاً، ولو سلمنا فانه يكون استثناءً.
وأما الثالث، فخلاف الوجدان لبداهة اقتضاء الإيمان لفعل الصالحات واقتضاء الكفر لفعل الطالحات.
وأما الرابع، ففيه أولاً: ان زرارة وهو طرف المناظرة، لا يقول به إذ انه يقول بأن هذا الشخص هو أحدهما فقط: إما مؤمن والكاشف عنه دخوله الجنة وإما كافر والكاشف عنه دخوله النار، ولا يقول بكونه مؤمناً – كافراً وانهما تزاحما وتدافعا فأثمرا حسنات وسيئات متساوية.
وثانياً: انه لا يعقل القول بتزاحمهما، أما على القول بتناقض الكفر والإيمان فواضح، وأما على القول بكونهما ضدين فكذلك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
* * *
- حاول أن تبرهن امتناع الترجيح بلا مرجح، أو العكس
– اشرح استدلال الإمام (عليه السلام) بعباراتك.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال الإمام الباقر (عليه السلام): ((إِنَّ اللَّهَ قَضَى قَضَاءً حَتْماً أَلَّا يُنْعِمَ عَلَى الْعَبْدِ بِنِعْمَةٍ فَيَسْلُبَهَا إِيَّاهُ، حَتَّى يُحْدِثَ الْعَبْدُ ذَنْباً يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ النَّقِمَةَ)) (الكافي: ج2 ص273).
-------------------
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص404.
([4]) (18- إبراهيم بن هاشم أبو إسحاق
القمي أصله كوفي، انتقل إلى قم، قال أبو عمرو الكشي تلميذ يونس بن عبد الرحمن من أصحاب الرضا [عليه السلام]، هذا قول الكشي، و فيه نظر، و أصحابنا يقولون أول من نشر حديث الكوفيين بقم هو. له كتب، منها النوادر، و كتاب قضايا أمير المؤمنين عليه السلام، أخبرنا محمد بن محمد قال حدثنا الحسن بن حمزة الطبري قال حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه إبراهيم بها) (رجال النجاشي: ص16).
([5]) إلا المعارضَ بأقوى منه وشبهه، وهو قليل، على انه يؤكد الاعتماد عليه لولا المعارض.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص402.
([7]) الملا هادي السبزواري، منظومة ملا هادي السبزواري، نشر ناب ـ طهران: ج1 ص154.
قال الإمام الباقر (عليه السلام): ((إِنَّ اللَّهَ قَضَى قَضَاءً حَتْماً أَلَّا يُنْعِمَ عَلَى الْعَبْدِ بِنِعْمَةٍ فَيَسْلُبَهَا إِيَّاهُ، حَتَّى يُحْدِثَ الْعَبْدُ ذَنْباً يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ النَّقِمَةَ)) (الكافي: ج2 ص273).