بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الاستدلال بأن إزالة النجاسة كافية في المطهرية
وقد استدل للسيد المرتضى (قدس سره) على كفاية المضاف في إزالة النجاسة، أي في التطهير منها، بالروايات التي يستكشف منها أن الغرض هو إزالة النجاسة، ولا غير، فلا خصوصية لإزالتها بالماء، أو بمطلق المائع، بل تكفي إزالتها حتى بالمسح مثلاً.. والروايات المستدل بها على طوائف ثلاث كما سيظهر.
قوله (عليه السلام) ((لَا بَأْسَ بِهِ)) في اليد المتنجسة المتعرقة
قال في الفقه: (الثالث: من الأدلة الدالة على كفاية المضاف في الإزالة، أن الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة، كما تشهد به رواية حكم بن حكيم الصيرفي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ((أَبُولُ فَلَا أُصِيبُ الْمَاءَ وَقَدْ أَصَابَ يَدِي شَيْءٌ مِنَ الْبَوْلِ، فَأَمْسَحُهُ بِالْحَائِطِ أَوِ التُّرَابِ، ثُمَّ تَعْرَقُ يَدِي فَأَمْسَحُ وَجْهِي، أَوْ بَعْضَ جَسَدِي، أَوْ يُصِيبُ ثَوْبِي، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ))[1])[2].
أقول: هذه هي الطائفة الأولى من الروايات وهي التي قد يدعى الاستدلال بإطلاقها.
الجواب: المحتمل في الرواية وجوه سبعة
ولكنّ الاستدلال بهذه الرواية غير تام لاحدى الوجوه السابعة الآتية، ولو تمّ احدها لما صح الاستدلال بها فكيف وقد تمّ عدد منها:
1- ان الرواية على فرض تسليم دلالتها[3]، خاصة بالتراب (والحائط) وانه مطهّر فالتعدي منه إلى مطهرية غيره، كالـخِرقة وغيرها، تنقيح مناط، خاصة وأن التراب (أي الأرض) ثبت شرعاً ان فيه خصوصية تطهيره لرجل الماشي عليه وحذائه (وخشبة الأقطع وشبه ذلك) عكس الفراش إذا مشى عليه (كما ثبت علمياً انه معقم شديد التعقيم)، فلو دلت الرواية على مطهريته لليد فرضاً لما صح التعدي إلى غيره لأنه تنقيح مناط ظني.
2- انها خاصة بالبول فالتعدي إلى غيره من النجاسات تنقيح مناط ظني.
وقد يجاب بأن البول أقوى نجاسةً من غيره من النجاسات، ولذا لم يكفِ في التطهر منه بالقليل من الماء إلا المرتان عكس غيره إذ تكفي المرة.
وفيه: ان ذلك وإن تم ولكن حيث ان النجاسة الشرعية مغايرة للقذارة العرفية، كما سبق تفصيلاً بيانه وأن النسبة بينهما من وجه وان حقيقتها مجهولة لنا[4]، فيجب الاقتصار على ما علم من الشرع اقوائيته فيه (كعدم كفاية غسله بالقليل مرة واحدة) ولا يعلم اقوائيته من جهات أخرى؛ الا ترى انه وإن كان أقوى من هذه الجهة لكنه من جهة الحدث غير موجب للجنابة عكس المني الأضعف خبثاً لكنه موجب للجنابة.. والشاهد انه لا تلازم بين أحكام النجاسات[5]، كما لا تلازم بين أحكام الخبث وأحكام الحدث.
3- ويحتمل أن ذلك مبني على أن المتنجس الأول غير منجس، واليد المتنجسة بالبول إذا مسحها بالحائط أو التراب فجفت، كانت متنجسة، فلا تنجِّس مع تعرقها أو شبهه، لكنه خلاف المشهور ولعله المجمع عليه.
4- ويحتمل كون حكم الإمام (عليه السلام) بـ ((لَا بَأْسَ بِهِ)) نظراً لعدم العلم بالسراية، إذ المتنجس إنما ينجِّس إذا كان برطوبة مسرية فمجرد وجود الرطوبة غير كافٍ، فلعل يده عندما عرقت لم تكن ذات رطوبة مسرية، إذ العرق يكون أحياناً كثيراً فيه وأحياناً لا[6].
وقد يجاب: بأن إطلاق الرواية كاف وبأن دعوى الانصراف إلى العرق القليل لا وجه لها.
5- ولعل الوجه عدم العلم بملاقاة الموضع المتنجس من اليد، للوجه أو الجسد أو الثوب؛ إذ أن الراوي لم يقل أصابت جميع يدي البول، بل قال: ((أَصَابَ يَدِي شَيْءٌ مِنَ الْبَوْلِ)) وظاهره تنجّس بعض يده، وهو المعتاد؛ إذ ان الإنسان لا يبول على يده عادةً لتتنجس كلها، ثم انه مسح وجهه بيده وهو عادة لا يمسح كل وجهه بكل يده، بل يمسح بعض وجهه ببعض يده، فلا يعلم والحال هذه إصابة الموضع المتنجس بعينه والمتعرق نفسه، للوجه، فوجه قوله (عليه السلام) ((لَا بَأْسَ بِهِ))، عدم إحراز تنجس ما أصاب الوجه أو الجسد[7]، والأصل العدم.
6- ولعله لأن ذلك معفو عنه، فلا يتعدى إلى غيره، على انه بناءً على العفو لا يدل على انه يطهر بزوال النجاسة، بل يؤكد تنجسه إلا أنه معفو عنه، وهو خلاف المدعى.
7- ويحتمل كون السؤال عن الحرمة، لا عن الحكم الوضعي وهو النجاسة.
لا يقال: من الواضح انه ليس بحرام.
إذ يقال: إنما هو واضح لنا بعد تراكم الفقه، ومن أين انه كان واضحاً لهم؟ بل ان أغلب الواضحات الآن لم تكن واضحة أوائل زمن الصادقين (عليهما السلام) بل اتضحت، حتى بعض أوليات الأحكام، بعد المرور.. والسبب: ان عُمَر منع الحديث والشيعة طوردوا على امتداد الأزمنة وكانت الأحكام مودعة عند الإمام علي (عليه السلام) ثم ابنائه.. وعندما سنحت الفرصة للباقرين أظهراها تدريجاً على امتداد سنين متمادية، فعلى المدّعي إقامة الدليل على أن هذا الحكم (عدم الحرمة) كان واضحاً لدى الأصحاب، على أن إثبات ذلك غير كاف إذ عليه إثبات انه كان واضحاً لدى الراوي نفسه، إذ ما أكثر ما يسأل الناس عن أحكام مجهولة لديهم، وإن كانت واضحة لغيرهم.
وأما وجه احتمال الحرمة فهو كونه مقصراً في نسيانه لتنجس يده ثم مسحه وجهه وقد عَرِقتَ، مع انه لو احتاط لما نسي بأن يبادر عند وصوله إلى الماء بغسل يده، كي لا يصلي مثلاً ببدن متنجسة، وفيه أكثر من تأمل[8].
الاستدلال بـ ((لَا بَأْسَ أَنْ يُغْسَلَ الدَّمُ بِالْبُصَاقِ))
وقال في الفقه: (ورواية غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن علي (عليه السلام) قال: ((لَا بَأْسَ أَنْ يُغْسَلَ الدَّمُ بِالْبُصَاقِ))[9])[10]، وهذه تقع ضمن الطائفة الثانية التي يراد استفادة عموم الحكم من تنقيحِ مناطِ موردٍ خاص.
الجواب: المحتملات فيها أربعة
ولكن يرد على الاستدلال بها:
1- انه على فرضه خاص بالبصاق، كما افتى به[11] بعض.
2- وانه على فرضه خاص بالدم، فالتعدي إلى غير الدم (من النجاسات) وإلى غير البصاق (مما يدعى انه مطهر) قياس مضاعف[12].
3- وذكر بعضٌ ان (يغسل) يحتمل حمله على الغسل العرفي لا الشرعي أي انه (عليه السلام) قصد إزالة قذارة الدم، بالبصاق، لا إزالة نجاسته، لكنه بعيد ككون المراد إزالة جرم الدم بالبصاق ثم غسله.
4- ولعله لدفع توهم الحرمة، وفيه ما سبق.
الاستدلال برواية مطهرية الأرض للرجل
وقال (قدس سره): (أقول: ويمكن الاستشهاد لذلك بعدة أخرى من الروايات الواردة في مطهرية الأرض ونحوها: فعن المعلَّى، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْخِنْزِيرِ يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ فَيَمُرُّ عَلَى الطَّرِيقِ، فَيَسِيلُ مِنْهُ الْمَاءُ أَمُرُّ عَلَيْهِ حَافِياً، فَقَالَ: أَلَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ جَافٌّ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَلَا بَأْسَ إِنَّ الْأَرْضَ تُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضاً))[13] إلى غير ذلك)[14].
فهذا هو النمط الثالث من الاستدلال وهو الاستدلال بمجموعة روايات وردت في موارد مختلفة بعد إلغاء خصوصية مواردها وسيستعرض (قدس سره) روايات أخرى سيأتي الكلام عنها بإذن الله تعالى.
الجواب: المحتملات فيها ثلاثة
ولكنّ الاستدلال بهذه الرواية مستشكل فيه للوجوه الآتية:
1- الرواية خاصة بمطهرية الأرض.. بل خاصة بمطهريتها للرجل الحافية، ولو ألغيت الخصوصية فإنما تلغى عن أشباهها كالحذاء وشبهه، دون اليد وشبهها، والتعميم قياس.
لا يقال: قوله ((شَيْءٌ جَافٌّ)) أعم إذ يشمل الخِرقة مثلاً؟.
إذ يقال: العبرة في العموم والخصوص بالعلة، وكلامه (عليه السلام) معلّل إذ قال: ((فَلَا بَأْسَ إِنَّ الْأَرْضَ تُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضاً)) فالمدار في المطهرية، على الأرض ولا أقل من كونه من محتمل القرينية المتصل.
2- ويحتمل كونه للقول الذي ذهب إليه السيد المرتضى من أن شعر الخنزير وبدنه ليس بنجس.
3- كما يحتمل كونه للقول الذي ذهب إليه بعض من أن الماء القليل غير منفعل (والماء الذي على بدن الخنزير قليل غير منفعل فإذا اصاب الأرض لم تنجس).
ويرد عليهما، إضافة إلى الإشكال مبنىً، ان الرواية ظاهرة في نفيهما إذ قال (عليه السلام) ((فَلَا بَأْسَ إِنَّ الْأَرْضَ تُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضاً)) فهي ظاهرة في تنجس الأرض والرجل إلا أن الأرض الجافة المجاورة التي مشى عليها برجله المتنجسة مطهرة له.
وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((طَلَبْتُ الْقَدْرَ وَالْمَنْزِلَةَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِالْعِلْمِ، تَعَلَّمُوا يَعْظُمْ قَدْرُكُمْ فِي الدَّارَيْنِ.
وَطَلَبْتُ الْكَرَامَةَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، اتَّقُوا لِتَكْرُمُوا.
وَطَلَبْتُ السَّلَامَةَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، أَطِيعُوا اللَّهَ تَسْلَمُوا.
وَطَلَبْتُ الْعَيْشَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِتَرْكِ الْهَوَى، فَاتْرُكُوا الْهَوَى لِيَطِيبَ عَيْشُكُمْ))
جامع الأخبار: ص123.
أسئلة:
- قوّ بعض الاحتمالات السبعة في الرواية الأولى وضعّف بعضها الآخر.
- وكذلك افعل بالرواية الثانية ثم الثالثة.
- اكتب بحثاً موجزاً عن مطهرية البصاق.
- اكتب بحثاً عن أدلة السيد المرتضى على طهارة شعر الخنزير وجلده، وأجوبة المشهور.
______________________
[1] الكافي: ج3 ص55.
[2] السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص47.
[3] على طهارة اليد بمسحها بالتراب أو الحائط.
[4] بأن يكون قليلاً (مثل ما يسمى بالفارسية: نَمْ، والإنجليزية: وَت).
[5] فقد يطهر التراب ما تنجس بالبول ولا يطهر ما تنجس بالدم وإن كانت المرة من القليل مطهرة للدم دون البول.
[6] أي مجهولة بحدها وتفصيلاً، لا إجمالاً.
[7] أو تعارض الاحتمالات في الأصل السببي فنرجع إلى قاعدة الطهارة أو استصحابها في المسببي.
[8] منها: انه خلاف ظاهر مرجع الضمير في (لا بأس به) ولو كان المدعى هنا مقصوداً لكان ينبغي أن يقال (لا بأس بذلك) ومنها: ان السؤال عن الحرمة خلاف المتفاهم عرفاً من الرواية.
[9] تهذيب الأحكام: ج1 ص425.
[10] السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص48.
[11] بمطهريته من الدم.
[12] خاصة مع ما يذكر عادة من ان الدم أضعف نجاسة من البول (لما سبق) وإذ البصاق يوجد وجه علمي لمطهريته لأنه شديد التعقيم فلا يقاس غيره عليه. فتأمل.
[13] الكافي: ج3 ص39.
[14] السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص48.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الاستدلال بأن إزالة النجاسة كافية في المطهرية
وقد استدل للسيد المرتضى (قدس سره) على كفاية المضاف في إزالة النجاسة، أي في التطهير منها، بالروايات التي يستكشف منها أن الغرض هو إزالة النجاسة، ولا غير، فلا خصوصية لإزالتها بالماء، أو بمطلق المائع، بل تكفي إزالتها حتى بالمسح مثلاً.. والروايات المستدل بها على طوائف ثلاث كما سيظهر.
قوله (عليه السلام) ((لَا بَأْسَ بِهِ)) في اليد المتنجسة المتعرقة
قال في الفقه: (الثالث: من الأدلة الدالة على كفاية المضاف في الإزالة، أن الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة، كما تشهد به رواية حكم بن حكيم الصيرفي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ((أَبُولُ فَلَا أُصِيبُ الْمَاءَ وَقَدْ أَصَابَ يَدِي شَيْءٌ مِنَ الْبَوْلِ، فَأَمْسَحُهُ بِالْحَائِطِ أَوِ التُّرَابِ، ثُمَّ تَعْرَقُ يَدِي فَأَمْسَحُ وَجْهِي، أَوْ بَعْضَ جَسَدِي، أَوْ يُصِيبُ ثَوْبِي، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ))[1])[2].
أقول: هذه هي الطائفة الأولى من الروايات وهي التي قد يدعى الاستدلال بإطلاقها.
الجواب: المحتمل في الرواية وجوه سبعة
ولكنّ الاستدلال بهذه الرواية غير تام لاحدى الوجوه السابعة الآتية، ولو تمّ احدها لما صح الاستدلال بها فكيف وقد تمّ عدد منها:
1- ان الرواية على فرض تسليم دلالتها[3]، خاصة بالتراب (والحائط) وانه مطهّر فالتعدي منه إلى مطهرية غيره، كالـخِرقة وغيرها، تنقيح مناط، خاصة وأن التراب (أي الأرض) ثبت شرعاً ان فيه خصوصية تطهيره لرجل الماشي عليه وحذائه (وخشبة الأقطع وشبه ذلك) عكس الفراش إذا مشى عليه (كما ثبت علمياً انه معقم شديد التعقيم)، فلو دلت الرواية على مطهريته لليد فرضاً لما صح التعدي إلى غيره لأنه تنقيح مناط ظني.
2- انها خاصة بالبول فالتعدي إلى غيره من النجاسات تنقيح مناط ظني.
وقد يجاب بأن البول أقوى نجاسةً من غيره من النجاسات، ولذا لم يكفِ في التطهر منه بالقليل من الماء إلا المرتان عكس غيره إذ تكفي المرة.
وفيه: ان ذلك وإن تم ولكن حيث ان النجاسة الشرعية مغايرة للقذارة العرفية، كما سبق تفصيلاً بيانه وأن النسبة بينهما من وجه وان حقيقتها مجهولة لنا[4]، فيجب الاقتصار على ما علم من الشرع اقوائيته فيه (كعدم كفاية غسله بالقليل مرة واحدة) ولا يعلم اقوائيته من جهات أخرى؛ الا ترى انه وإن كان أقوى من هذه الجهة لكنه من جهة الحدث غير موجب للجنابة عكس المني الأضعف خبثاً لكنه موجب للجنابة.. والشاهد انه لا تلازم بين أحكام النجاسات[5]، كما لا تلازم بين أحكام الخبث وأحكام الحدث.
3- ويحتمل أن ذلك مبني على أن المتنجس الأول غير منجس، واليد المتنجسة بالبول إذا مسحها بالحائط أو التراب فجفت، كانت متنجسة، فلا تنجِّس مع تعرقها أو شبهه، لكنه خلاف المشهور ولعله المجمع عليه.
4- ويحتمل كون حكم الإمام (عليه السلام) بـ ((لَا بَأْسَ بِهِ)) نظراً لعدم العلم بالسراية، إذ المتنجس إنما ينجِّس إذا كان برطوبة مسرية فمجرد وجود الرطوبة غير كافٍ، فلعل يده عندما عرقت لم تكن ذات رطوبة مسرية، إذ العرق يكون أحياناً كثيراً فيه وأحياناً لا[6].
وقد يجاب: بأن إطلاق الرواية كاف وبأن دعوى الانصراف إلى العرق القليل لا وجه لها.
5- ولعل الوجه عدم العلم بملاقاة الموضع المتنجس من اليد، للوجه أو الجسد أو الثوب؛ إذ أن الراوي لم يقل أصابت جميع يدي البول، بل قال: ((أَصَابَ يَدِي شَيْءٌ مِنَ الْبَوْلِ)) وظاهره تنجّس بعض يده، وهو المعتاد؛ إذ ان الإنسان لا يبول على يده عادةً لتتنجس كلها، ثم انه مسح وجهه بيده وهو عادة لا يمسح كل وجهه بكل يده، بل يمسح بعض وجهه ببعض يده، فلا يعلم والحال هذه إصابة الموضع المتنجس بعينه والمتعرق نفسه، للوجه، فوجه قوله (عليه السلام) ((لَا بَأْسَ بِهِ))، عدم إحراز تنجس ما أصاب الوجه أو الجسد[7]، والأصل العدم.
6- ولعله لأن ذلك معفو عنه، فلا يتعدى إلى غيره، على انه بناءً على العفو لا يدل على انه يطهر بزوال النجاسة، بل يؤكد تنجسه إلا أنه معفو عنه، وهو خلاف المدعى.
7- ويحتمل كون السؤال عن الحرمة، لا عن الحكم الوضعي وهو النجاسة.
لا يقال: من الواضح انه ليس بحرام.
إذ يقال: إنما هو واضح لنا بعد تراكم الفقه، ومن أين انه كان واضحاً لهم؟ بل ان أغلب الواضحات الآن لم تكن واضحة أوائل زمن الصادقين (عليهما السلام) بل اتضحت، حتى بعض أوليات الأحكام، بعد المرور.. والسبب: ان عُمَر منع الحديث والشيعة طوردوا على امتداد الأزمنة وكانت الأحكام مودعة عند الإمام علي (عليه السلام) ثم ابنائه.. وعندما سنحت الفرصة للباقرين أظهراها تدريجاً على امتداد سنين متمادية، فعلى المدّعي إقامة الدليل على أن هذا الحكم (عدم الحرمة) كان واضحاً لدى الأصحاب، على أن إثبات ذلك غير كاف إذ عليه إثبات انه كان واضحاً لدى الراوي نفسه، إذ ما أكثر ما يسأل الناس عن أحكام مجهولة لديهم، وإن كانت واضحة لغيرهم.
وأما وجه احتمال الحرمة فهو كونه مقصراً في نسيانه لتنجس يده ثم مسحه وجهه وقد عَرِقتَ، مع انه لو احتاط لما نسي بأن يبادر عند وصوله إلى الماء بغسل يده، كي لا يصلي مثلاً ببدن متنجسة، وفيه أكثر من تأمل[8].
الاستدلال بـ ((لَا بَأْسَ أَنْ يُغْسَلَ الدَّمُ بِالْبُصَاقِ))
وقال في الفقه: (ورواية غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن علي (عليه السلام) قال: ((لَا بَأْسَ أَنْ يُغْسَلَ الدَّمُ بِالْبُصَاقِ))[9])[10]، وهذه تقع ضمن الطائفة الثانية التي يراد استفادة عموم الحكم من تنقيحِ مناطِ موردٍ خاص.
الجواب: المحتملات فيها أربعة
ولكن يرد على الاستدلال بها:
1- انه على فرضه خاص بالبصاق، كما افتى به[11] بعض.
2- وانه على فرضه خاص بالدم، فالتعدي إلى غير الدم (من النجاسات) وإلى غير البصاق (مما يدعى انه مطهر) قياس مضاعف[12].
3- وذكر بعضٌ ان (يغسل) يحتمل حمله على الغسل العرفي لا الشرعي أي انه (عليه السلام) قصد إزالة قذارة الدم، بالبصاق، لا إزالة نجاسته، لكنه بعيد ككون المراد إزالة جرم الدم بالبصاق ثم غسله.
4- ولعله لدفع توهم الحرمة، وفيه ما سبق.
الاستدلال برواية مطهرية الأرض للرجل
وقال (قدس سره): (أقول: ويمكن الاستشهاد لذلك بعدة أخرى من الروايات الواردة في مطهرية الأرض ونحوها: فعن المعلَّى، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْخِنْزِيرِ يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ فَيَمُرُّ عَلَى الطَّرِيقِ، فَيَسِيلُ مِنْهُ الْمَاءُ أَمُرُّ عَلَيْهِ حَافِياً، فَقَالَ: أَلَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ جَافٌّ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَلَا بَأْسَ إِنَّ الْأَرْضَ تُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضاً))[13] إلى غير ذلك)[14].
فهذا هو النمط الثالث من الاستدلال وهو الاستدلال بمجموعة روايات وردت في موارد مختلفة بعد إلغاء خصوصية مواردها وسيستعرض (قدس سره) روايات أخرى سيأتي الكلام عنها بإذن الله تعالى.
الجواب: المحتملات فيها ثلاثة
ولكنّ الاستدلال بهذه الرواية مستشكل فيه للوجوه الآتية:
1- الرواية خاصة بمطهرية الأرض.. بل خاصة بمطهريتها للرجل الحافية، ولو ألغيت الخصوصية فإنما تلغى عن أشباهها كالحذاء وشبهه، دون اليد وشبهها، والتعميم قياس.
لا يقال: قوله ((شَيْءٌ جَافٌّ)) أعم إذ يشمل الخِرقة مثلاً؟.
إذ يقال: العبرة في العموم والخصوص بالعلة، وكلامه (عليه السلام) معلّل إذ قال: ((فَلَا بَأْسَ إِنَّ الْأَرْضَ تُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضاً)) فالمدار في المطهرية، على الأرض ولا أقل من كونه من محتمل القرينية المتصل.
2- ويحتمل كونه للقول الذي ذهب إليه السيد المرتضى من أن شعر الخنزير وبدنه ليس بنجس.
3- كما يحتمل كونه للقول الذي ذهب إليه بعض من أن الماء القليل غير منفعل (والماء الذي على بدن الخنزير قليل غير منفعل فإذا اصاب الأرض لم تنجس).
ويرد عليهما، إضافة إلى الإشكال مبنىً، ان الرواية ظاهرة في نفيهما إذ قال (عليه السلام) ((فَلَا بَأْسَ إِنَّ الْأَرْضَ تُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضاً)) فهي ظاهرة في تنجس الأرض والرجل إلا أن الأرض الجافة المجاورة التي مشى عليها برجله المتنجسة مطهرة له.
وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((طَلَبْتُ الْقَدْرَ وَالْمَنْزِلَةَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِالْعِلْمِ، تَعَلَّمُوا يَعْظُمْ قَدْرُكُمْ فِي الدَّارَيْنِ.
وَطَلَبْتُ الْكَرَامَةَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، اتَّقُوا لِتَكْرُمُوا.
وَطَلَبْتُ السَّلَامَةَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، أَطِيعُوا اللَّهَ تَسْلَمُوا.
وَطَلَبْتُ الْعَيْشَ فَمَا وَجَدْتُ إِلَّا بِتَرْكِ الْهَوَى، فَاتْرُكُوا الْهَوَى لِيَطِيبَ عَيْشُكُمْ))
جامع الأخبار: ص123.
أسئلة:
- قوّ بعض الاحتمالات السبعة في الرواية الأولى وضعّف بعضها الآخر.
- وكذلك افعل بالرواية الثانية ثم الثالثة.
- اكتب بحثاً موجزاً عن مطهرية البصاق.
- اكتب بحثاً عن أدلة السيد المرتضى على طهارة شعر الخنزير وجلده، وأجوبة المشهور.
[2] السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص47.
[3] على طهارة اليد بمسحها بالتراب أو الحائط.
[4] بأن يكون قليلاً (مثل ما يسمى بالفارسية: نَمْ، والإنجليزية: وَت).
[5] فقد يطهر التراب ما تنجس بالبول ولا يطهر ما تنجس بالدم وإن كانت المرة من القليل مطهرة للدم دون البول.
[6] أي مجهولة بحدها وتفصيلاً، لا إجمالاً.
[7] أو تعارض الاحتمالات في الأصل السببي فنرجع إلى قاعدة الطهارة أو استصحابها في المسببي.
[8] منها: انه خلاف ظاهر مرجع الضمير في (لا بأس به) ولو كان المدعى هنا مقصوداً لكان ينبغي أن يقال (لا بأس بذلك) ومنها: ان السؤال عن الحرمة خلاف المتفاهم عرفاً من الرواية.
[9] تهذيب الأحكام: ج1 ص425.
[10] السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص48.
[11] بمطهريته من الدم.
[12] خاصة مع ما يذكر عادة من ان الدم أضعف نجاسة من البول (لما سبق) وإذ البصاق يوجد وجه علمي لمطهريته لأنه شديد التعقيم فلا يقاس غيره عليه. فتأمل.
[13] الكافي: ج3 ص39.
[14] السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص48.