بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الاستدلال بالفهم العرفي على تعميم حكم النجاسة لكل الأجسام
وقد استدل للمشهور، في مقابل المحدث الكاشاني، القائلين بتنجس الأجسام كلها بالنجاسات، لا الثوب والبدن وشبههما فقط، وأن الإزالة غير كافية في التطهير، بالفهم العرفي وأن الروايات وإن وردت في موارد خاصة لكن العرف يفهم منها التعميم لكل الموارد، قال في التنقيح: (ويدفعه: إنَّ العرف يستفيد من الأوامر الواردة في موارد خاصة بغسل ملاقِي النجاسات بعد إزالة عينها عدم اختصاص ذلك بموردٍ دون مورد، فإذا لاحظوا الأمر بغسل الثوب والبدن والفرش والأواني وغيرها بعد إزالة العين عنها بشيء فهموا منه عمومية ذلك الحكم وجريانه في كل شيء لاقاه نجس، وأمّا أن الغسل الواجب لا بدَّ وأن يكون بالماء أو يكفي فيه الغسل بالمضاف أو بشيء آخر أيضاً، فهو مطلب آخر يأتي بعد هذه المسألة)[1].
المناقشات
ولكنّ الظاهر عدم تمامية هذا الوجه، وذلك للوجوه التالية:
1- إنه قياس وليس فهماً عرفياً من ظاهر ألفاظ الروايات
أولاً: إنّه، في واقعه، قياس، ولا يجديه تسميته بأن العرف يفهم كذا..
توضيحه: ان القياس يعني تسرية حكم الأصل إلى الفرع بدعوى كشف المناط في الأصل وكونه موجوداً في الفرع، ولا فرق بين ذلك بين أن يكون الأصل واحداً والفرع المقيس عليه واحداً وبين وجود خمسة أصول مثلاً لها حكم واحد فنقيس عليها خمسة أصول أخرى مباينة لها في الماهية.
والفهم العرفي إنما هو حجة في فهم ظواهر الألفاظ إذ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)[2]، وألفاظ الروايات خاصة بالبول والثوب والبدن وشبهه وهي أصول ستة فقط[3] فتسرية حكمها إلى موضوعات مباينة تماماً كالشجر والحجر والمدر وآلات الحِدادة وآلات النجارة وآلات السمكرية وفرن الخبّاز أو تنّوره، وأدوات البنّاء وآلات الزراعة كالمحراث والمنجل، ومختلف الأجهزة من مكائن وغيرها، ليس إلا من تنقيح المناط والقياس، وليس من ظاهر اللفظ بوجه.
بعبارة أخرى: فهم العرف للمناط والملاك ليس حجة أبداً، بل فهمهم لما تفيده الألفاظ نفسها فقط، وتؤكده وتوضحه رواية أبان في دية أصابع المرأة قال: ((قُلتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَطَعَ إِصْبَعًا مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ؟ كَمْ فِيهَا؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ.
قُلتُ: قَطَعَ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ.
قُلتُ: قَطَعَ ثَلاثًا؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ.
قُلتُ: قَطَعَ أَرْبَعًا؟ قَالَ: عِشْرُونَ.
قُلتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَقْطَعُ ثَلاثًا فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ وَيَقْطَعُ أَرْبَعًا فَيَكُونُ عَلَيْهِ عِشْرُونَ! إِنَّ هَذَا كَانَ يَبْلُغُنَا وَنَحْنُ بِالْعِرَاقِ فَنَبْرَأُ مِمَّنْ قَالَهُ وَنَقُولُ: الَّذِي جَاءَ بِهِ شَيْطَانٌ!
فَقَالَ: مَهْلًا يَا أَبَانُ! هَكَذَا حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله). إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى النِّصْفِ. يَا أَبَانُ! إِنَّكَ أَخَذْتَنِي بِالْقِيَاسِ وَالسُّنَّةُ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَّةٌ لِلدِّينِ))[4].
أفترى انه يصح القول، بنظير ما قاله (قدس سره) ههنا بأن نقول: ان الفهم العرفي من أمر الشرع بإعطاء عشرة من الإبل لقطع إصبع من المرأة، وأمره بإعطاء عشرين بإصبعين، وأمره بإعطاء ثلاثين لقطع ثلاثة أصابع.. هو: إعطاء أربعين لقطع أربعة أصابع؟ مع أن هذا الفهم العرفي قطعي لكنّ الإمام (عليه السلام) نهى عنه لأنه تدخّلٌ من العرف في المناط وليس مستفاداً من ظاهر اللفظ، وإن تُوِهم ذلك لكن الواقع هو توسط القياس الخفي[5].
ولا يتوهم أن الرواية خاصة بموردها؛ إذ الإمام (عليه السلام) في مقام إعطاء الضابطة الكلية بل صرح (عليه السلام) بها إذ قال: ((يَا أَبَانُ! إِنَّكَ أَخَذْتَنِي بِالْقِيَاسِ وَالسُّنَّةُ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَّةٌ لِلدِّينِ)). وعليه: فنظائرها مما قد نقطع به عرفاً يجب أن لا نقطع به! وإلا كنا مقصرين في المقدمات، فتدبر.
والحاصل: هناك فرق بين ظهور اللفظ لدى العرف وبين ظهور الملاك لديهم أو ظهور أن هذا الحكم مبني على كذا وانه سيّال، والأول حجة، دون ما بعده.
مثال آخر: لو أمر الشارع بتزكية التمر.. والزبيب.. والحنطة.. والشعير... والأنعام الثلاثة.. والنقدين.. أفترى انه يصح أن يقال: ان الفهم العرفي من هذه الأوامر أن الزكاة تتعلق بكل المحصولات الزراعية؟ (وبكل الحيوانات المحللة؟ وبكل الأشياء الثمينة كالمجوهرات؟) كلا.. إذ هو تنقيح مناط لا غير[6].. وقد استند إليه بعض الحداثويين في تعميم الزكاة لكل شيء بدعوى الفهم العرفي من تلك الأوامر ذلك أو فهمهم منها أن الزكاة ضريبة عرفية.. تؤخذ للفقراء.. وان التسعة إنما هي أمثلة لـِما تؤخذ الزكاة منه وليست للحصر.
بل نضيف: ان العرف إذا اطلع على تشديد الشارع في أمر القياس واطلع على مثل رواية أبان، لما حكم بتسرية حكم الروايات الواردة في خصوص الثوب والبدن والأواني، إلى موضوعات أخرى لم يرد فيها نص أبداً رغم شدة الابتلاء بها بل ورغم الملازمة العرفية بين تنجسها، (أي تنجس الحجر والمدر والشجر والحشيش والمزروعات التي في الحدائق والبساتين التي كانت تكثر بالمدينة المنورة وغيرها، وآلات الحداد والنجارة والمفاتيح.. إلخ) وبين تنجس البدن الملامس لها المستلزم لبطلان الصلاة بالتبع فلو كانت تتنجس للزم الإلفات إلى تنجسها ما دامت البلوى بها عامة.
وبعبارة أخرى: لا شك انه يحتمل أن للقابل، أي الثوب والجسد وأخواتها، خصوصيةً في نظر الشارع في انفعالها عن النجاسات (أو في توقف تطهيرها على الغسل دون الإزالة) فكيف يسرى الحكم إلى الشجر والحجر والمدر والآلات والأجهزة بدعوى الفهم العرفي؟ ومتى كان العرف يعرف موضوعات أحكام الشارع إلا منه (من ألفاظه وما صُبّ عليه الحكم)؟.
2- والمدار الصلاة، وسائر الأجسام أجنبية عنها
ثانياً: ان الحكم بتوقف طهارة الثوب والجسد على الغسل، إنما جاء لاشتراط صحة الصلاة بها، بل كل روايات النجاسات والمتنجسات هي لكي تصح الصلاة[7] ولولا الصلاة لما كان هناك أثر أصلاً للحكم بالنجاسة.. وعليه فتسرية الحكم إلى ما لا يرتبط بالصلاة بوجهٍ، كالأشجار والأحجار وأدوات الحداد والنجار، قياس بوجه آخر.
3- سلّمنا، لكن التسرية إنما تصح لو كانت النجاسة هي القذارة العرفية
ثالثاً: سلّمنا، لكن دعوى الفهم العرفي إنما تصح لو كانت النجاسة هي القذارة العرفية كي نقول: العرف يفهم من الحكم بتقذّر الثوب بالبول تقذّر الشجر والحجر و.. به أيضاً، أو يفهم من الحكم بغسل الثوب الملاقي للبول، الحكم بغسل الشجر الملاقي له، ولكن سبق ان النجاسة مجهولة الكنه لدى العرف وأن النسبة بينها وبين القذارة هي العموم والخصوص من وجه، وعليه: ففهم العرف التسرية ليس حجة، إذ هو موضوع مجهول الكنه لديه فكيف يعديه إلى غير ما نص الشارع عليه؟ وهل يعقل حينئذٍ أن يفهم من ألفاظ الشارع (التي وضعها للدلالة على حقيقة مجهولة الكنه لدى العرف) والتي حملها على موارد خاصة، كونها منطبقة على موارد أخرى مباينة لها؟.
بل نقول: حتى لو كانت النجاسة هي القذارة العرفية، فلا يصح له التعدية؛ لما سبق من أن محور الأحكام كلها (أي أحكام النجاسات) هي الصلاة، فلعل الأمر بغسل الثوب والبدن إنما كان نظراً لمدخليتها في الصلاة، أما الشجر والحجر وآلات الحدادة فلا مدخلية لها في الصلاة بوجه فمن أين التسرية؟
بعبارة أخرى: لعل النجاسات والمتنجسات هي كشعر الهرة التي منع عنها في الصلاة لكونها من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، لا لكونها نجسة. فهي بأعيانها محظورة فإذا أزيلت بأي وجه كان صحت الصلاة، وحيث انها إن التصقت بالأشجار والآلات لم تعلق ببدن المصلي وثوبه فلا إشكال فيها.
سلّمنا، لكن العرف نفسه لا يسرى أحكام قذاراته من بعض موضوعاته إلى بعض آخر.
4- ردّ القياس بوجه آخر
رابعاً: ولنا ردّ القياس الآنف، المدعى انه فهم عرفي، بوجه آخر وهو أن نقول انه كدعوى من يدعي ان الفهم العرفي من الأوامر الواردة في غسل ملاقي البول، الكلب، المني.. إلخ هو عدم اختصاصها بهذه القذارات بل يشمل سائر القذارات العرفية كبلل الفرج وبلل المقعد وقيح الجروح وكخروج حب القرع وغيره من مخرج الغائط وإن كانت غير ملوث به، فإن العرف يجدونه قذراً قطعاً فهل يصح الحكم بنجاسته بدعوى انه ليس قياساً ودعوى أن الفهم العرفي من غسل ملاقي البول والمني والغائط والكلب والخنزير و...، كونه كناية عن غسل ملاقي القذار؟
ثم انه لئن تأمل في بعض الوجوه السابقة فلا شك في أن في مجموعها الكفاية، فتدبر.
ومراجعة الروايات تشهد بعدم فهم التعميم منها
ويكفي أن نراجع الروايات الشريفة لنجد انها على كثرتها الكاثرة مختصة بأجمعها بالثوب وشبهه.. ولننقل بعضها فلاحظ لسانها فهل ترى، وجداناً، ان لسانها لسان عام؟ وهل تجد أن العرف يفهم من ضم بعضها لبعض شمول الحكم لموارد أخرى مباينة للموضوعات المأخوذة فيها تماماً؟
عنه، عن فضالة، عن حماد بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْبَوْلِ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ: اغْسِلْهُ مَرَّتَيْنِ))[8].
محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عثمان – يعني ابن عيسى – عن سماعة، قال: ((سَأَلْتُهُ عَنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ: اغْسِلْهُ. فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَجِدْ مَكَانَهُ؟ قَالَ: اغْسِلِ الثَّوْبَ كُلَّهُ))[9].
وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن موسى بن القاسم، عن إبراهيم بن عبد الحميد، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الْبَوْلُ فَيَنْفُذُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَعَنِ الْفَرْوِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَشْوِ؟ قَالَ: اغْسِلْ مَا أَصَابَ مِنْهُ، وَمَسَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ، فَإِنْ أَصَبْتَ مَسَّ شَيْءٍ مِنْهُ فَاغْسِلْهُ، وَإِلَّا فَانْضِحْهُ بِالْمَاءِ))[10]
محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن العلاء، عن محمد، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَذْيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَ: يَنْضَحُهُ بِالْمَاءِ إِنْ شَاءَ، وَقَالَ فِي الْمَنِيِّ الَّذِي يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَإِنْ عَرَفْتَ مَكَانَهُ فَاغْسِلْهُ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ فَاغْسِلْهُ كُلَّهُ))[11].
وعنه، عن حماد، عن حريز، عن زرارة قال: ((قُلْتُ: أَصَابَ ثَوْبِي دَمُ رُعَافٍ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ مَنِيٍّ، - إلى أن قال – قُلْتُ: فَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ وَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ هُوَ، فَأَغْسِلَهُ؟ قَالَ: تَغْسِلُ مِنْ ثَوْبِكَ النَّاحِيَةَ الَّتِي تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا حَتَّى تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ.. )) الحديث[12].
محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((إِنْ أَصَابَ الثَّوْبَ شَيْءٌ مِنْ بَوْلِ السِّنَّوْرِ فَلَا تَصِحُ الصَّلَاةُ فِيهِ حَتَّى تَغْسِلَهُ))[13].
ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم، مثله[14].
وعنه، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((اغْسِلْ ثَوْبَكَ مِنْ أَبْوَالِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُه))[15].
وهي بأجمعها عن الثوب خاصة، وكذا الكثير من الروايات الأخرى فلاحظ أيضاً:
وعن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن خيران الخادم، قال: ((كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ (عليه السلام) أَسْأَلُهُ عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الْخَمْرُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، أَيُصَلَّى فِيهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَلِّ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا حَرَّمَ شُرْبَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُصَلِّ فِيهِ؟ فَكَتَبَ (عليه السلام): لَا تُصَلِّ فِيهِ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ... الحديث))[16].
محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن حريز، عن الفضل أبي العباس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((إِذَا أَصَابَ ثَوْبَكَ مِنَ الْكَلْبِ رُطُوبَةٌ فَاغْسِلْه،ُ وَإِنْ مَسَّهُ جَافّاً فَاصْبُبْ عَلَيْهِ الْمَاءَ، قُلْتُ: لِمَ صَارَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) أَمَرَ بِقَتْلِهَا))[17]
بل لاحظ ما ورد عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، قال: ((سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ رَجُلٍ أَجْنَبَ فِي ثَوْبِهِ فَيَعْرَقُ فِيهِ؟ فَقَالَ: مَا أَرَى بِهِ بَأْساً. فَقِيلَ: إِنَّهُ يَعْرَقُ حَتَّى لَوْ شَاءَ أَنْ يَعْصِرَهُ عَصَرَهُ؟ قَالَ: فَقَطَّبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي وَجْهِ الرَّجُلِ، وَقَالَ: إِنْ أَبَيْتُمْ فَشَيْءٌ مِنْ مَاءٍ يَنْضِحُهُ بِهِ))[18].
وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة ابن حمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((لَا يُجْنِبُ الثَّوْبُ الرَّجُلَ، وَلَا يُجْنِبُ الرَّجُلُ الثَّوْبَ))[19].
ورواهما الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب[20] وكذا الحديث الأوّل[21].
وبالإسناد عن ابن بكير، عن أبي أسامة قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الثَّوْبِ تَكُونُ فِيهِ الْجَنَابَةُ فَتُصِيبُنِي السَّمَاءُ حَتَّى يَبْتَلَّ عَلَيَّ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ))[22].
محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن سورة بن كليب، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ، أَتَغْسِلُ ثِيَابَهَا الَّتِي لَبِسَتْهَا فِي طَمْثِهَا؟ قَالَ: تَغْسِلُ مَا أَصَابَ ثِيَابَهَا مِنَ الدَّمِ، وَتَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ، قُلْتُ لَهُ: وَقَدْ عَرِقَتْ فِيهَا؟ قَالَ: إِنَّ الْعَرَقَ لَيْسَ مِنَ الْحَيْض))[23].
وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ ثَوْبُهُ جَسَدَ الْمَيِّتِ؟ فَقَالَ: يَغْسِلُ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ))[24].
وبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد، عن موسى بن القاسم، عن علي بن محمد (جعفر) (عليه السلام) – في حديث - قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْفَأْرَةِ وَالدَّجَاجَةِ وَالْحَمَامِ وَأَشْبَاهِهَا تَطَأُ الْعَذِرَةَ ثُمَّ تَطَأُ الثَّوْبَ، أَيُغْسَلُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ اسْتَبَانَ مِنْ أَثَرِهِ شَيْءٌ فَاغْسِلْهُ، وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ))[25]، وغيرها.
بل لاحظ: علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الثَّوْبِ يَقَعُ فِي مَرْبِطِ الدَّابَّةِ عَلَى بَوْلِهَا وَرَوْثِهَا، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: إِنْ عَلِقَ بِهِ شَيْءٌ فَلْيَغْسِلْهُ، وَإِنْ كَانَ جَافّاً فَلَا بَأْسَ))[26]، فالمقياس العلوق فيفيد أن المشكلة في حمل عين الشيء لا في الانفعال.
ووردت روايات كثيرة أخرى عن الجسد خاصة فلاحظ مثلاً:
وعنه، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْكَلْبِ يُصِيبُ شَيْئاً مِنْ جَسَدِ الرَّجُلِ؟ قَالَ: يَغْسِلُ الْمَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ))[27].
وعن أبي علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) ((فِي رَجُلٍ صَافَحَ رَجُلًا مَجُوسِيّاً؟ قَالَ: يَغْسِلُ يَدَهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ))[28].
ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، مثله[29].
وعنه، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عباس بن عامر، عن علي بن معمر، عن خالد القلانسي، قال: ((قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): أَلْقَى الذِّمِّيَ فَيُصَافِحُنِي؟ قَالَ: امْسَحْهَا بِالتُّرَابِ وَبِالْحَائِطِ، قُلْتُ فَالنَّاصِبَ؟ قَالَ: اغْسِلْهَا))[30].
أقول: هذا محمول على عدم الرطوبة، والمسح والغسل على الاستحباب، والذي قبله محمول على وجود الرطوبة به.
وعن حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن وهيب بن حفص، عن ابي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) ((فِي مُصَافَحَةِ الْمُسْلِمِ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ؟ قَالَ: مِنْ وَرَاءِ الثَّوْبِ، فَإِنْ صَافَحَكَ بِيَدِهِ فَاغْسِلْ يَدَكَ))[31].
وورد عن الفراش: عبد الله بن جعفر (في قرب الإسناد) عن عبد الله بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْفِرَاشِ يَكُونُ كَثِيرَ الصُّوفِ فَيُصِيبُهُ الْبَوْلُ، كَيْفَ يُغْسَلُ؟ قَالَ: يُغْسَلُ الظَّاهِرُ، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ جَانِبِ الْفِرَاشِ الْآخَرِ))[32].
وفي الأواني وردت روايات كثيرة ومنها:
وعنه، عن حماد، عن حريزن عمّن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَصُبَّهُ))[33].
نعم، ربما أمكن الاستدلال بمجموع الروايات الشريفة مع ضميمة ارتكاز المتشرعة على التسرية والتعدية، والأمر فيه موكول إلى ما سبق تحقيقه عن حجية الارتكاز (بذاته كما سبق، أو بضميمةٍ كما هو مفاد الوجه الجديد).
الاستدلال بموثقة عمار على تعدية النجاسة إلى كل جسم
وقد استدل في التنقيح، كغيره أيضاً بموثقة عمار، (وثانياً: قد ورد في موثقة عمار بن موسى الساباطي: أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) ((عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ فِي إِنَائِهِ فَأْرَةً، وَقَدْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ مِرَاراً وَغَسَلَ مِنْهُ ثِيَابَهُ وَاغْتَسَلَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مُنْسَلِخَةً؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَآهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا رَآهَا فِي الْإِنَاءِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ وَ يَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ وَيُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ...))[34] وهي تدلنا على وجوب الغسل في ملاقي النجس بلا فرق في ذلك بين أفراده وموارده لعموم الرواية، حيث اشتملت على لفظة (كل) في قوله: ((وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ)) )[35].
مناقشتان:
والاستدلال وإن بدا قوياً ولكن يرد عليه:
أولاً: ان الرواية خاصة بالفأرة (بل بالفأرة المتفسخة، وبالماء القليل الذي تنجس بها) فتسرية حكمها إلى غير الفأرة وغير الماء، قياس، والأمر فيه كما سبق.
ثانياً: سلّمنا، لكن قد يقال: الظاهر ان قوله (عليه السلام): ((وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ)) يراد به: (من جسده)، لا انه عام للشجر والحجر والمدر والأجهزة والمكائن.. إلخ، وذلك بقرينة قوله (عليه السلام): ((وَيُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ)).
بعبارة أخرى: الكلام كله عن الصلاة ومبطلها فينصرف ((وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ)) إلى ما يرتبط بها وهو البدن، دون الشجر والحجر.. سلّمنا، لكنّه على الأقل من محتمل القرينية المتصل وهو مخل بالإطلاق على المشهور. والله العالم الهادي إلى مرادات أوليائه صلوات الله عليهم.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إِنْ أَرَدْتُمْ عَيْشَ السُّعَدَاءِ وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ وَالنَّجَاةَ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالظِّلَّ يَوْمَ الْحَرُورِ وَالْهُدَى يَوْمَ الضَّلَالَةِ، فَادْرُسُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلَامُ الرَّحْمَنِ وَحِرْزٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَرُجْحَانٌ فِي الْمِيزَانِ)) مستدرك الوسائل: ج4 ص232.
أسئلة:
- أجب عن الإشكال على رواية أبان، بأنها تفيد عدم حجية القطع العرفي بل الدقّي، مع أن القطع حجة ذاتاً كما قيل؟
- اكتب رسالة عن القياس وأدلة بطلانه، وأدلة العامة على عقلائيته وأجب عنها.
- ما فرق القياس عن الاستحسان وعن سد الذرائع؟ وما فرق سد الذرائع عن المقدمة والمقدمية؟
- تدبّر في رواية عمار الساباطي وانتصر للتنقيح أو ناقشه.
______________________
[1] التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج2 ص26.
[2] سورة إبراهيم: الآية 4.
[3] مع الأواني والجِص والفراش والطنفسة.
[4] الكافي: ج7 ص300.
[5] والقياس هو: إذا كان حكم قطع الإصبع الواحدة عشرة جِمال، والأصبعين عشرين، والثلاثة ثلاثين، فلا بد ن السبب هو عِلّية قطع الإصبع الواحدة لثبوت عشرة من الإبل فتكون دية الأربعة أصابع أربعون إبلاً، لكنه قياس خفي إلا أن العرف يبني عليه ويراه مستفاداً من نفس ألفاظ الإمام (عليه السلام) بأنّ حكم الإصبع كذا وحكم الإصبعين كذا...
[6] وذلك حتى مع قطع النظر عن الرواية الرادعة كقوله (عليه السلام): Sأَقُولُ لَكَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَضَعَ الزَّكَاةَ عَلَى تِسْعَةِ أَشْيَاءَ، وَعَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَتَقُولُ: عِندَنَا أَرُزٌّ وَعِندَنَا ذُرَةٌ، وَقَدْ كَانَتِ الذُّرَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)R (الكافي (ط - الإسلامية)، ج3، ص: 510).
[7] وأيضاً ليجوز الأكل والشرب، في روايات نجاسة الأواني والقدر.
[8] تهذيب الأحكام: ج1 ص251.
[9] تهذيب الأحكام: ج1 ص251.
[10] الكافي: ج3 ص55.
[11] تهذيب الأحكام: ج1 ص267.
[12] تهذيب الأحكام: ج1 ص421.
[13] الكافي: ج3 ص56.
[14] تهذيب الأحكام: ج1 ص420.
[15] الكافي: ج3 ص57.
[16] الكافي: ج3 ص405.
[17] تهذيب الأحكام: ج1 ص261.
[18] الكافي: ج3 ص52.
[19] الكافي: ج3 ص53.
[20] تهذيب الأحكام: ج1 ص268، والاستبصار: ج1 ص185.
[21] تهذيب الأحكام: ج1 ص268.
[22] الكافي: ج3 ص53.
[23] الكافي: ج3 ص109.
[24] الكافي: ج3 ص161.
[25] تهذيب الأحكام: ج1 ص424.
[26] مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها: ص130.
[27] الكافي: ج3 ص60.
[28] الكافي: ج2 ص650.
[29] تهذيب الأحكام: ج1 ص263.
[30] الكافي: ج2 ص650.
[31] الكافي: ج2 ص650.
[32] قرب الإسناد: ص281.
[33] تهذيب الأحكام: ج1 ص225.
[34] تهذيب الأحكام: ج1 ص418.
[35] التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج2 ص26.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الاستدلال بالفهم العرفي على تعميم حكم النجاسة لكل الأجسام
وقد استدل للمشهور، في مقابل المحدث الكاشاني، القائلين بتنجس الأجسام كلها بالنجاسات، لا الثوب والبدن وشبههما فقط، وأن الإزالة غير كافية في التطهير، بالفهم العرفي وأن الروايات وإن وردت في موارد خاصة لكن العرف يفهم منها التعميم لكل الموارد، قال في التنقيح: (ويدفعه: إنَّ العرف يستفيد من الأوامر الواردة في موارد خاصة بغسل ملاقِي النجاسات بعد إزالة عينها عدم اختصاص ذلك بموردٍ دون مورد، فإذا لاحظوا الأمر بغسل الثوب والبدن والفرش والأواني وغيرها بعد إزالة العين عنها بشيء فهموا منه عمومية ذلك الحكم وجريانه في كل شيء لاقاه نجس، وأمّا أن الغسل الواجب لا بدَّ وأن يكون بالماء أو يكفي فيه الغسل بالمضاف أو بشيء آخر أيضاً، فهو مطلب آخر يأتي بعد هذه المسألة)[1].
المناقشات
ولكنّ الظاهر عدم تمامية هذا الوجه، وذلك للوجوه التالية:
1- إنه قياس وليس فهماً عرفياً من ظاهر ألفاظ الروايات
أولاً: إنّه، في واقعه، قياس، ولا يجديه تسميته بأن العرف يفهم كذا..
توضيحه: ان القياس يعني تسرية حكم الأصل إلى الفرع بدعوى كشف المناط في الأصل وكونه موجوداً في الفرع، ولا فرق بين ذلك بين أن يكون الأصل واحداً والفرع المقيس عليه واحداً وبين وجود خمسة أصول مثلاً لها حكم واحد فنقيس عليها خمسة أصول أخرى مباينة لها في الماهية.
والفهم العرفي إنما هو حجة في فهم ظواهر الألفاظ إذ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)[2]، وألفاظ الروايات خاصة بالبول والثوب والبدن وشبهه وهي أصول ستة فقط[3] فتسرية حكمها إلى موضوعات مباينة تماماً كالشجر والحجر والمدر وآلات الحِدادة وآلات النجارة وآلات السمكرية وفرن الخبّاز أو تنّوره، وأدوات البنّاء وآلات الزراعة كالمحراث والمنجل، ومختلف الأجهزة من مكائن وغيرها، ليس إلا من تنقيح المناط والقياس، وليس من ظاهر اللفظ بوجه.
بعبارة أخرى: فهم العرف للمناط والملاك ليس حجة أبداً، بل فهمهم لما تفيده الألفاظ نفسها فقط، وتؤكده وتوضحه رواية أبان في دية أصابع المرأة قال: ((قُلتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَطَعَ إِصْبَعًا مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ؟ كَمْ فِيهَا؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ.
قُلتُ: قَطَعَ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ.
قُلتُ: قَطَعَ ثَلاثًا؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ.
قُلتُ: قَطَعَ أَرْبَعًا؟ قَالَ: عِشْرُونَ.
قُلتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَقْطَعُ ثَلاثًا فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ وَيَقْطَعُ أَرْبَعًا فَيَكُونُ عَلَيْهِ عِشْرُونَ! إِنَّ هَذَا كَانَ يَبْلُغُنَا وَنَحْنُ بِالْعِرَاقِ فَنَبْرَأُ مِمَّنْ قَالَهُ وَنَقُولُ: الَّذِي جَاءَ بِهِ شَيْطَانٌ!
فَقَالَ: مَهْلًا يَا أَبَانُ! هَكَذَا حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله). إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى النِّصْفِ. يَا أَبَانُ! إِنَّكَ أَخَذْتَنِي بِالْقِيَاسِ وَالسُّنَّةُ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَّةٌ لِلدِّينِ))[4].
أفترى انه يصح القول، بنظير ما قاله (قدس سره) ههنا بأن نقول: ان الفهم العرفي من أمر الشرع بإعطاء عشرة من الإبل لقطع إصبع من المرأة، وأمره بإعطاء عشرين بإصبعين، وأمره بإعطاء ثلاثين لقطع ثلاثة أصابع.. هو: إعطاء أربعين لقطع أربعة أصابع؟ مع أن هذا الفهم العرفي قطعي لكنّ الإمام (عليه السلام) نهى عنه لأنه تدخّلٌ من العرف في المناط وليس مستفاداً من ظاهر اللفظ، وإن تُوِهم ذلك لكن الواقع هو توسط القياس الخفي[5].
ولا يتوهم أن الرواية خاصة بموردها؛ إذ الإمام (عليه السلام) في مقام إعطاء الضابطة الكلية بل صرح (عليه السلام) بها إذ قال: ((يَا أَبَانُ! إِنَّكَ أَخَذْتَنِي بِالْقِيَاسِ وَالسُّنَّةُ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَّةٌ لِلدِّينِ)). وعليه: فنظائرها مما قد نقطع به عرفاً يجب أن لا نقطع به! وإلا كنا مقصرين في المقدمات، فتدبر.
والحاصل: هناك فرق بين ظهور اللفظ لدى العرف وبين ظهور الملاك لديهم أو ظهور أن هذا الحكم مبني على كذا وانه سيّال، والأول حجة، دون ما بعده.
مثال آخر: لو أمر الشارع بتزكية التمر.. والزبيب.. والحنطة.. والشعير... والأنعام الثلاثة.. والنقدين.. أفترى انه يصح أن يقال: ان الفهم العرفي من هذه الأوامر أن الزكاة تتعلق بكل المحصولات الزراعية؟ (وبكل الحيوانات المحللة؟ وبكل الأشياء الثمينة كالمجوهرات؟) كلا.. إذ هو تنقيح مناط لا غير[6].. وقد استند إليه بعض الحداثويين في تعميم الزكاة لكل شيء بدعوى الفهم العرفي من تلك الأوامر ذلك أو فهمهم منها أن الزكاة ضريبة عرفية.. تؤخذ للفقراء.. وان التسعة إنما هي أمثلة لـِما تؤخذ الزكاة منه وليست للحصر.
بل نضيف: ان العرف إذا اطلع على تشديد الشارع في أمر القياس واطلع على مثل رواية أبان، لما حكم بتسرية حكم الروايات الواردة في خصوص الثوب والبدن والأواني، إلى موضوعات أخرى لم يرد فيها نص أبداً رغم شدة الابتلاء بها بل ورغم الملازمة العرفية بين تنجسها، (أي تنجس الحجر والمدر والشجر والحشيش والمزروعات التي في الحدائق والبساتين التي كانت تكثر بالمدينة المنورة وغيرها، وآلات الحداد والنجارة والمفاتيح.. إلخ) وبين تنجس البدن الملامس لها المستلزم لبطلان الصلاة بالتبع فلو كانت تتنجس للزم الإلفات إلى تنجسها ما دامت البلوى بها عامة.
وبعبارة أخرى: لا شك انه يحتمل أن للقابل، أي الثوب والجسد وأخواتها، خصوصيةً في نظر الشارع في انفعالها عن النجاسات (أو في توقف تطهيرها على الغسل دون الإزالة) فكيف يسرى الحكم إلى الشجر والحجر والمدر والآلات والأجهزة بدعوى الفهم العرفي؟ ومتى كان العرف يعرف موضوعات أحكام الشارع إلا منه (من ألفاظه وما صُبّ عليه الحكم)؟.
2- والمدار الصلاة، وسائر الأجسام أجنبية عنها
ثانياً: ان الحكم بتوقف طهارة الثوب والجسد على الغسل، إنما جاء لاشتراط صحة الصلاة بها، بل كل روايات النجاسات والمتنجسات هي لكي تصح الصلاة[7] ولولا الصلاة لما كان هناك أثر أصلاً للحكم بالنجاسة.. وعليه فتسرية الحكم إلى ما لا يرتبط بالصلاة بوجهٍ، كالأشجار والأحجار وأدوات الحداد والنجار، قياس بوجه آخر.
3- سلّمنا، لكن التسرية إنما تصح لو كانت النجاسة هي القذارة العرفية
ثالثاً: سلّمنا، لكن دعوى الفهم العرفي إنما تصح لو كانت النجاسة هي القذارة العرفية كي نقول: العرف يفهم من الحكم بتقذّر الثوب بالبول تقذّر الشجر والحجر و.. به أيضاً، أو يفهم من الحكم بغسل الثوب الملاقي للبول، الحكم بغسل الشجر الملاقي له، ولكن سبق ان النجاسة مجهولة الكنه لدى العرف وأن النسبة بينها وبين القذارة هي العموم والخصوص من وجه، وعليه: ففهم العرف التسرية ليس حجة، إذ هو موضوع مجهول الكنه لديه فكيف يعديه إلى غير ما نص الشارع عليه؟ وهل يعقل حينئذٍ أن يفهم من ألفاظ الشارع (التي وضعها للدلالة على حقيقة مجهولة الكنه لدى العرف) والتي حملها على موارد خاصة، كونها منطبقة على موارد أخرى مباينة لها؟.
بل نقول: حتى لو كانت النجاسة هي القذارة العرفية، فلا يصح له التعدية؛ لما سبق من أن محور الأحكام كلها (أي أحكام النجاسات) هي الصلاة، فلعل الأمر بغسل الثوب والبدن إنما كان نظراً لمدخليتها في الصلاة، أما الشجر والحجر وآلات الحدادة فلا مدخلية لها في الصلاة بوجه فمن أين التسرية؟
بعبارة أخرى: لعل النجاسات والمتنجسات هي كشعر الهرة التي منع عنها في الصلاة لكونها من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، لا لكونها نجسة. فهي بأعيانها محظورة فإذا أزيلت بأي وجه كان صحت الصلاة، وحيث انها إن التصقت بالأشجار والآلات لم تعلق ببدن المصلي وثوبه فلا إشكال فيها.
سلّمنا، لكن العرف نفسه لا يسرى أحكام قذاراته من بعض موضوعاته إلى بعض آخر.
4- ردّ القياس بوجه آخر
رابعاً: ولنا ردّ القياس الآنف، المدعى انه فهم عرفي، بوجه آخر وهو أن نقول انه كدعوى من يدعي ان الفهم العرفي من الأوامر الواردة في غسل ملاقي البول، الكلب، المني.. إلخ هو عدم اختصاصها بهذه القذارات بل يشمل سائر القذارات العرفية كبلل الفرج وبلل المقعد وقيح الجروح وكخروج حب القرع وغيره من مخرج الغائط وإن كانت غير ملوث به، فإن العرف يجدونه قذراً قطعاً فهل يصح الحكم بنجاسته بدعوى انه ليس قياساً ودعوى أن الفهم العرفي من غسل ملاقي البول والمني والغائط والكلب والخنزير و...، كونه كناية عن غسل ملاقي القذار؟
ثم انه لئن تأمل في بعض الوجوه السابقة فلا شك في أن في مجموعها الكفاية، فتدبر.
ومراجعة الروايات تشهد بعدم فهم التعميم منها
ويكفي أن نراجع الروايات الشريفة لنجد انها على كثرتها الكاثرة مختصة بأجمعها بالثوب وشبهه.. ولننقل بعضها فلاحظ لسانها فهل ترى، وجداناً، ان لسانها لسان عام؟ وهل تجد أن العرف يفهم من ضم بعضها لبعض شمول الحكم لموارد أخرى مباينة للموضوعات المأخوذة فيها تماماً؟
عنه، عن فضالة، عن حماد بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْبَوْلِ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ: اغْسِلْهُ مَرَّتَيْنِ))[8].
محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عثمان – يعني ابن عيسى – عن سماعة، قال: ((سَأَلْتُهُ عَنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ: اغْسِلْهُ. فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَجِدْ مَكَانَهُ؟ قَالَ: اغْسِلِ الثَّوْبَ كُلَّهُ))[9].
وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن موسى بن القاسم، عن إبراهيم بن عبد الحميد، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الْبَوْلُ فَيَنْفُذُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَعَنِ الْفَرْوِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَشْوِ؟ قَالَ: اغْسِلْ مَا أَصَابَ مِنْهُ، وَمَسَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ، فَإِنْ أَصَبْتَ مَسَّ شَيْءٍ مِنْهُ فَاغْسِلْهُ، وَإِلَّا فَانْضِحْهُ بِالْمَاءِ))[10]
محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن العلاء، عن محمد، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَذْيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَ: يَنْضَحُهُ بِالْمَاءِ إِنْ شَاءَ، وَقَالَ فِي الْمَنِيِّ الَّذِي يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَإِنْ عَرَفْتَ مَكَانَهُ فَاغْسِلْهُ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ فَاغْسِلْهُ كُلَّهُ))[11].
وعنه، عن حماد، عن حريز، عن زرارة قال: ((قُلْتُ: أَصَابَ ثَوْبِي دَمُ رُعَافٍ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ مَنِيٍّ، - إلى أن قال – قُلْتُ: فَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ وَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ هُوَ، فَأَغْسِلَهُ؟ قَالَ: تَغْسِلُ مِنْ ثَوْبِكَ النَّاحِيَةَ الَّتِي تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا حَتَّى تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ.. )) الحديث[12].
محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((إِنْ أَصَابَ الثَّوْبَ شَيْءٌ مِنْ بَوْلِ السِّنَّوْرِ فَلَا تَصِحُ الصَّلَاةُ فِيهِ حَتَّى تَغْسِلَهُ))[13].
ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم، مثله[14].
وعنه، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((اغْسِلْ ثَوْبَكَ مِنْ أَبْوَالِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُه))[15].
وهي بأجمعها عن الثوب خاصة، وكذا الكثير من الروايات الأخرى فلاحظ أيضاً:
وعن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن خيران الخادم، قال: ((كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ (عليه السلام) أَسْأَلُهُ عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الْخَمْرُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، أَيُصَلَّى فِيهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَلِّ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا حَرَّمَ شُرْبَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُصَلِّ فِيهِ؟ فَكَتَبَ (عليه السلام): لَا تُصَلِّ فِيهِ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ... الحديث))[16].
محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن حريز، عن الفضل أبي العباس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((إِذَا أَصَابَ ثَوْبَكَ مِنَ الْكَلْبِ رُطُوبَةٌ فَاغْسِلْه،ُ وَإِنْ مَسَّهُ جَافّاً فَاصْبُبْ عَلَيْهِ الْمَاءَ، قُلْتُ: لِمَ صَارَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) أَمَرَ بِقَتْلِهَا))[17]
بل لاحظ ما ورد عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، قال: ((سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ رَجُلٍ أَجْنَبَ فِي ثَوْبِهِ فَيَعْرَقُ فِيهِ؟ فَقَالَ: مَا أَرَى بِهِ بَأْساً. فَقِيلَ: إِنَّهُ يَعْرَقُ حَتَّى لَوْ شَاءَ أَنْ يَعْصِرَهُ عَصَرَهُ؟ قَالَ: فَقَطَّبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي وَجْهِ الرَّجُلِ، وَقَالَ: إِنْ أَبَيْتُمْ فَشَيْءٌ مِنْ مَاءٍ يَنْضِحُهُ بِهِ))[18].
وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة ابن حمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((لَا يُجْنِبُ الثَّوْبُ الرَّجُلَ، وَلَا يُجْنِبُ الرَّجُلُ الثَّوْبَ))[19].
ورواهما الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب[20] وكذا الحديث الأوّل[21].
وبالإسناد عن ابن بكير، عن أبي أسامة قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الثَّوْبِ تَكُونُ فِيهِ الْجَنَابَةُ فَتُصِيبُنِي السَّمَاءُ حَتَّى يَبْتَلَّ عَلَيَّ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ))[22].
محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن سورة بن كليب، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ، أَتَغْسِلُ ثِيَابَهَا الَّتِي لَبِسَتْهَا فِي طَمْثِهَا؟ قَالَ: تَغْسِلُ مَا أَصَابَ ثِيَابَهَا مِنَ الدَّمِ، وَتَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ، قُلْتُ لَهُ: وَقَدْ عَرِقَتْ فِيهَا؟ قَالَ: إِنَّ الْعَرَقَ لَيْسَ مِنَ الْحَيْض))[23].
وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ ثَوْبُهُ جَسَدَ الْمَيِّتِ؟ فَقَالَ: يَغْسِلُ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ))[24].
وبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد، عن موسى بن القاسم، عن علي بن محمد (جعفر) (عليه السلام) – في حديث - قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْفَأْرَةِ وَالدَّجَاجَةِ وَالْحَمَامِ وَأَشْبَاهِهَا تَطَأُ الْعَذِرَةَ ثُمَّ تَطَأُ الثَّوْبَ، أَيُغْسَلُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ اسْتَبَانَ مِنْ أَثَرِهِ شَيْءٌ فَاغْسِلْهُ، وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ))[25]، وغيرها.
بل لاحظ: علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الثَّوْبِ يَقَعُ فِي مَرْبِطِ الدَّابَّةِ عَلَى بَوْلِهَا وَرَوْثِهَا، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: إِنْ عَلِقَ بِهِ شَيْءٌ فَلْيَغْسِلْهُ، وَإِنْ كَانَ جَافّاً فَلَا بَأْسَ))[26]، فالمقياس العلوق فيفيد أن المشكلة في حمل عين الشيء لا في الانفعال.
ووردت روايات كثيرة أخرى عن الجسد خاصة فلاحظ مثلاً:
وعنه، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْكَلْبِ يُصِيبُ شَيْئاً مِنْ جَسَدِ الرَّجُلِ؟ قَالَ: يَغْسِلُ الْمَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ))[27].
وعن أبي علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) ((فِي رَجُلٍ صَافَحَ رَجُلًا مَجُوسِيّاً؟ قَالَ: يَغْسِلُ يَدَهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ))[28].
ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، مثله[29].
وعنه، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عباس بن عامر، عن علي بن معمر، عن خالد القلانسي، قال: ((قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): أَلْقَى الذِّمِّيَ فَيُصَافِحُنِي؟ قَالَ: امْسَحْهَا بِالتُّرَابِ وَبِالْحَائِطِ، قُلْتُ فَالنَّاصِبَ؟ قَالَ: اغْسِلْهَا))[30].
أقول: هذا محمول على عدم الرطوبة، والمسح والغسل على الاستحباب، والذي قبله محمول على وجود الرطوبة به.
وعن حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن وهيب بن حفص، عن ابي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) ((فِي مُصَافَحَةِ الْمُسْلِمِ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ؟ قَالَ: مِنْ وَرَاءِ الثَّوْبِ، فَإِنْ صَافَحَكَ بِيَدِهِ فَاغْسِلْ يَدَكَ))[31].
وورد عن الفراش: عبد الله بن جعفر (في قرب الإسناد) عن عبد الله بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْفِرَاشِ يَكُونُ كَثِيرَ الصُّوفِ فَيُصِيبُهُ الْبَوْلُ، كَيْفَ يُغْسَلُ؟ قَالَ: يُغْسَلُ الظَّاهِرُ، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ جَانِبِ الْفِرَاشِ الْآخَرِ))[32].
وفي الأواني وردت روايات كثيرة ومنها:
وعنه، عن حماد، عن حريزن عمّن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَصُبَّهُ))[33].
نعم، ربما أمكن الاستدلال بمجموع الروايات الشريفة مع ضميمة ارتكاز المتشرعة على التسرية والتعدية، والأمر فيه موكول إلى ما سبق تحقيقه عن حجية الارتكاز (بذاته كما سبق، أو بضميمةٍ كما هو مفاد الوجه الجديد).
الاستدلال بموثقة عمار على تعدية النجاسة إلى كل جسم
وقد استدل في التنقيح، كغيره أيضاً بموثقة عمار، (وثانياً: قد ورد في موثقة عمار بن موسى الساباطي: أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) ((عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ فِي إِنَائِهِ فَأْرَةً، وَقَدْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ مِرَاراً وَغَسَلَ مِنْهُ ثِيَابَهُ وَاغْتَسَلَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مُنْسَلِخَةً؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَآهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا رَآهَا فِي الْإِنَاءِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ وَ يَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ وَيُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ...))[34] وهي تدلنا على وجوب الغسل في ملاقي النجس بلا فرق في ذلك بين أفراده وموارده لعموم الرواية، حيث اشتملت على لفظة (كل) في قوله: ((وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ)) )[35].
مناقشتان:
والاستدلال وإن بدا قوياً ولكن يرد عليه:
أولاً: ان الرواية خاصة بالفأرة (بل بالفأرة المتفسخة، وبالماء القليل الذي تنجس بها) فتسرية حكمها إلى غير الفأرة وغير الماء، قياس، والأمر فيه كما سبق.
ثانياً: سلّمنا، لكن قد يقال: الظاهر ان قوله (عليه السلام): ((وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ)) يراد به: (من جسده)، لا انه عام للشجر والحجر والمدر والأجهزة والمكائن.. إلخ، وذلك بقرينة قوله (عليه السلام): ((وَيُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ)).
بعبارة أخرى: الكلام كله عن الصلاة ومبطلها فينصرف ((وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ)) إلى ما يرتبط بها وهو البدن، دون الشجر والحجر.. سلّمنا، لكنّه على الأقل من محتمل القرينية المتصل وهو مخل بالإطلاق على المشهور. والله العالم الهادي إلى مرادات أوليائه صلوات الله عليهم.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إِنْ أَرَدْتُمْ عَيْشَ السُّعَدَاءِ وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ وَالنَّجَاةَ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالظِّلَّ يَوْمَ الْحَرُورِ وَالْهُدَى يَوْمَ الضَّلَالَةِ، فَادْرُسُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلَامُ الرَّحْمَنِ وَحِرْزٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَرُجْحَانٌ فِي الْمِيزَانِ)) مستدرك الوسائل: ج4 ص232.
أسئلة:
- أجب عن الإشكال على رواية أبان، بأنها تفيد عدم حجية القطع العرفي بل الدقّي، مع أن القطع حجة ذاتاً كما قيل؟
- اكتب رسالة عن القياس وأدلة بطلانه، وأدلة العامة على عقلائيته وأجب عنها.
- ما فرق القياس عن الاستحسان وعن سد الذرائع؟ وما فرق سد الذرائع عن المقدمة والمقدمية؟
- تدبّر في رواية عمار الساباطي وانتصر للتنقيح أو ناقشه.
[1] التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج2 ص26.
[2] سورة إبراهيم: الآية 4.
[3] مع الأواني والجِص والفراش والطنفسة.
[4] الكافي: ج7 ص300.
[5] والقياس هو: إذا كان حكم قطع الإصبع الواحدة عشرة جِمال، والأصبعين عشرين، والثلاثة ثلاثين، فلا بد ن السبب هو عِلّية قطع الإصبع الواحدة لثبوت عشرة من الإبل فتكون دية الأربعة أصابع أربعون إبلاً، لكنه قياس خفي إلا أن العرف يبني عليه ويراه مستفاداً من نفس ألفاظ الإمام (عليه السلام) بأنّ حكم الإصبع كذا وحكم الإصبعين كذا...
[6] وذلك حتى مع قطع النظر عن الرواية الرادعة كقوله (عليه السلام): Sأَقُولُ لَكَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَضَعَ الزَّكَاةَ عَلَى تِسْعَةِ أَشْيَاءَ، وَعَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَتَقُولُ: عِندَنَا أَرُزٌّ وَعِندَنَا ذُرَةٌ، وَقَدْ كَانَتِ الذُّرَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)R (الكافي (ط - الإسلامية)، ج3، ص: 510).
[7] وأيضاً ليجوز الأكل والشرب، في روايات نجاسة الأواني والقدر.
[8] تهذيب الأحكام: ج1 ص251.
[9] تهذيب الأحكام: ج1 ص251.
[10] الكافي: ج3 ص55.
[11] تهذيب الأحكام: ج1 ص267.
[12] تهذيب الأحكام: ج1 ص421.
[13] الكافي: ج3 ص56.
[14] تهذيب الأحكام: ج1 ص420.
[15] الكافي: ج3 ص57.
[16] الكافي: ج3 ص405.
[17] تهذيب الأحكام: ج1 ص261.
[18] الكافي: ج3 ص52.
[19] الكافي: ج3 ص53.
[20] تهذيب الأحكام: ج1 ص268، والاستبصار: ج1 ص185.
[21] تهذيب الأحكام: ج1 ص268.
[22] الكافي: ج3 ص53.
[23] الكافي: ج3 ص109.
[24] الكافي: ج3 ص161.
[25] تهذيب الأحكام: ج1 ص424.
[26] مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها: ص130.
[27] الكافي: ج3 ص60.
[28] الكافي: ج2 ص650.
[29] تهذيب الأحكام: ج1 ص263.
[30] الكافي: ج2 ص650.
[31] الكافي: ج2 ص650.
[32] قرب الإسناد: ص281.
[33] تهذيب الأحكام: ج1 ص225.
[34] تهذيب الأحكام: ج1 ص418.
[35] التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج2 ص26.