بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
حكم النجس والمتنجس المصعّد (المبخّر)
قال في العروة: (مسألة 2: الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن إطلاقه، نعم لو مزج معه غيره وصعّد كماء الورد يصير مضافاً)[1].
تشخيص الموضوع بيد مَن؟
وهنا مطالب:
الأول: ان تشخيص الموضوع الصِرف ليس شأن الفقيه بما هو فقيه، بل إنما هو كسائر أفراد العرف أو أهل الخبرة[2]، فلا يدخل فيه التقليد، وعليه: فهو استطراد من صاحب العروة في تشخيص الموضوع.
والجامع: انّ الموضوع قسمان: فإنه إما موضوع صِرف، كالماء والخل والخمر، والمرجع فيه هو العرف العام، وإما مستنبط وهو أقسام: فإما شرعي أو عرفي أو لغوي، والأول كالصلاة والحج وهو لا يؤخذ إلا من الشارع، والثاني كالغناء والمرجع فيه العرف فتحديد بعض الفقهاء له بأنه الترجيع المطرب وشبهه ليس هو المدار، والثالث كالصعيد، فإن الظاهر أن العرف لا يعرفه بحدوده فالمرجع فيه اللغة.
ولا يصح إطلاق كلام العروة
الثاني: ان إطلاق كلامه (قدس سره) في المسألتين غير تام كما أشار إليه عدد من المعلقين، فإن الماء المطلق قد يخرج بالتصعيد عن إطلاقه كما إن المضاف المصعد قد لا يكون مضافاً بعد التصعيد[3].
قال في الفقه: (مسألة 2: {الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن إطلاقه} وذلك لبقاء صدق الماء عليه.
نعم لو فرض زوال الصدق كأن صار له طعم ولون وخاصية جديدة ـ كما ربما لا يبعد فيما يصعَّد مراراً ـ خرج عن الإطلاق ولحقه حكم الإضافة.
والحاصل: أن المعيار هو صدق الماء عرفاً عليه بعد التصعيد.
{نعم لو مزج معه غيره وصعَّد كماء الورد يصير مضافاً} ولا يخفى ما في إطلاقه إذ ربما يوجب التصعيد إطلاقه كما هو الغالب في الماء الممتزج بالملح ـ ولذا يصعّدون ماء البحر للحصول على الماء العذب الخالي من الملوحة ـ والمعيار هو الصدق العرفي كما تقدم)[4].
وقال: (مسألة 3: {المضاف المصعّد مضاف} إن لم يخرج بالتصعيد عن الإضافة، بأن صدق عليه الماء المطلق عرفاً، وإلا فلا وجه للحكم بدون الموضوع.
والحاصل أنه إن أراد بيان الموضوع ففي كليته تأمل، وإن أراد بيان أنه محكوم بالإضافة وإن لم يصدق عليه المضاف ـ بل صدق الماء المطلق ـ ففيه أنه لا دليل لبقاء الحكم بعد انتفاء الموضوع)[5].
والحاصل: ان المقياس هو صدق عنواني الإطلاق والإضافة بنظر العرف.
الثالث: أشكل بعض الأعلام بـ (نعم لو مزج معه غيره) بـ (الاستدراك غير واضح، فإنّ الإضافة تحصل قبل التصعيد، فيدخل في المسألة الثالثة. السيستاني)[6]، ولكن الفرق بين المسألتين، الذي به لا تدخل الثانية في الثالثة، ان مقصوده من الثانية انه لو طرحت أوراق الورد في الماء فإنه يبقى مطلقاً؛ إذ مجرد اختلاط الأوراق بالماء لا يكسبه رائحة وطعماً يخرجه عن الإضافة بل يكون مضافاً بعد التصعيد وإن كان مطلقاً قبله وأما المسألة الثالثة فهي ما كان مضافاً قبل التصعيد.
ولكن الإشكال صحيح ظاهراً إذ أن الماء الذي القيت فيه أوراق الورد لا يتبخر فجأة ولا تحدث الإضافة بعد التصعيد بل قبله إذ تترتفع درجات حرارته بالتدريج فلا محال يصير مضافاً قبل الغليان وقبل التبخير والتصعيد.. وعلى أي فمقصود صاحب العروة واضح.
هل المطلق والمضاف المتنجسان يطهران بالتصعيد؟
وقال في العروة: (مسألة 4: المطلق أو المضاف النجس يطهر[7] بالتصعيد[8]؛ لاستحالته[9] بخاراً[10] ثمّ ماءً[11])[12].
أقول: يقع البحث عن المطهرات للماء المطلق المتنجس وللمضاف المتنجس، وهي التصعيد والاستهلاك في العاصم أو الامتزاج أو الاتصال وغير ذلك مما سيأتي، والكلام الآن في التصعيد، وفي المسألة بحوث:
التفريق بين النجس والمتنجس
الأول: قد يفرّق بين النجس والمتنجس، فإن النجس كالبول والخمر حكمه إذا صعّد ثم عاد خمراً وبولاً، فرضاً، واضح لا إشكال فيه ولا خلاف، أما المتنجس ففيه كلام وخلاف فإنه في بعض الآراء أسوأ حالاً من النجس.
قال في الفقه: (والأقرب أن يقال: إن المضاف بعد التصعيد إن صدق عليه عنوانه السابق، وكان بنفسه من النجاسات، كالبول والخمر ونحوهما، كما لو صعِّد البول أو الخمر، وبعد التصعيد صدق عليه البول والخمر، فلا شبهة في بقاء النجاسة كبقاء الحرمة، وإن صدق عليه عنوانه السابق ولم يكن بنفسه من النجاسات، كما لو صعِّد الجلاب أو الماء المتنجس ففي الطهارة إشكال)[13] وسيأتي.
احتمالات أربعة في البخار
الثاني: ان الحكم في نجاسة بخار البول والخمر وشبههما ومنجسيته وعدمها، وهو المرحلة البرزخية بين ما قبل التصعيد وما بعده، يحتمل فيه وجوه:
1- كون البخار غير قابل لحمل النجاسة أي غير قابل لأن يتنجس فيكون كالضوء أو الصوت[14].
2- كونه قابلاً للتنجس لكنه غير منجِّس أي انه قابل لكنه غير ناقل.
3- كونه قابلاً ناقلاً، لكن الشارع خفف.
وهناك احتمال رابع في بخار البول، وسيأتي.
وعليها يختلف حكم ما بعد التصعيد كما سيظهر.
الثالث: ان في الاستحالة كلاماً في وجه كونها من المطهرات، وفي أنواعها، وسيأتي.
المحتملات الخمسة في معروض النجاسة
إنما الكلام الآن هو انه على فرض تسليم عدم كون البخار نجساً (فإنه مع تسليم نجاسته وإنكار تنجيسه يبقى مجال لاستصحاب نجاسته بعد انتهاء التصعيد ورجوعه ماء وأما عدم تنجيسه فاستثناء يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو ما صدق عليه البخار).
وبعد تسليم أن الاستحالة من المطهرات، فنقول: ان الحكم بنجاسة الماء المطلق المتنجس والمضاف المتنجس بعد تبخير كل منها ثم عودته ماء مطلقاً أو مضافاً، مبني على أن موضوع النجاسة ما هو أي المتنجس ما هو؟ فإن المحتملات خمسة: أن يكون موضوعه الشيء، أو الجسم، أو المائع مطلقاً أو المائع غير المعاد، أو الماء، أو الماء المضاف، وقد أشار إلى عدد من هذه الاحتمالات عدد من الأعلام.
قال السيد المرعشي: (لا إشكال في كون الاستحالة موجبة للطهارة، كما سيأتي، لكنّه فيما تكون النجاسة مترتّبة شرعاً على العنوان الزائل بالاستحالة، وأمّا لو كانت مترتّبة على الشيء لا بعنوان خاصّ، بل بما أنّه شيء أو جسم مثلا فلا تتحقّق الاستحالة بتبدّل اسمه؛ لبقاء موضوع الحكم، وهو الشيء أو الجسم مثلاً، ففي المضاف المتنجّس وسائر المتنجّسات النجاسة مترتّبة على ما هو باق بعد التصعيد، اللهمّ إلّا أن يتمسّك بالصدق العرفي أيضاً، وأنّ المضاف بنظرهم زائل، فلا يترك الاحتياط)[15].
وسيأتي تحقيق ذلك بإذن الله تعالى.
وقال الشيخ الحائري: (قد يشكل في طهارة ذلك[16]:
ويمكن توجيه الإشكال بوجهين:
الأول: أنّ البخار لا يكون كالملح المنقلب إليه الكلب بنظر العرف، بل هو بحكم الماء المنجمد في عدم تغيّر الموضوع فيشمله دليل المتنجّس، إذ لم يشمله الدليل بعنوان كونه مضافاً بل بعنوان كونه جسماً ذات رطوبة مسرية، وهو الآن موجود، أو تستصحب النجاسة إن كان الموضوع في الدليل المائع، فتأمل.
ولازم ذلك نجاسة البخار أيضاً؛ لكن من استشكل في المقام – وهو المرحوم الوالد الأستاذ العلامة طاب ثراه والسيد الفقيه المعاصر البروجردي – لما استشكل في طهارة البخار فلا بدّ أن يكون نظره على الوجه الثاني، وهو أن يقال: إنّه بعد الاستحالة بالماء يكون إعادة المعدوم بنظر العرف فيشمله الدليل أو يستصحب بناءً على ظهور في المائع غير المعاد)[17].
توضيحه: ان البخار أمر برزخي فهل هو ملحق بالملح المنقلب من الكلب أو هو ملحق بالماء المنقلب من الثلج (إذ الملح طاهر والماء الذي ذاب من الجمد المتنجس نجس) وسيأتي الكلام عن مسألة إعادة المعدوم وعن جريان الاستصحاب وعدمه.
ولكن عمدة الكلام هو أن الروايات هي الحَكَم الفيصل في كون موضوع المتنجس هو أي عنوان من العناوين الخمسة الماضية وليس البحث العقلي عن كونه ملحقاً بهذا أو ذاك أو استبعاد هذا أو ذاك كما صنعه جمع.. وسنذكر الروايات غداً بإذن الله تعالى، كما سيأتي تحقيق الكلام في استدلالات الأعلام بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر (عليه السلام): ((أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى (عليه السلام): إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالْحَسَنَةِ، فَأُحَكِّمُهُ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ مُوسَى (عليه السلام): يَا رَبِّ وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: يَمْشِي مَعَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ قُضِيَتْ أَمْ لَمْ تُقْضَ)) الكافي: ج2 ص196.
أسئلة:
- اكتب بحثاً عن الضابط في الموضوع المستنبط؟ وراجع (فقه التعاون) إذ ذكرنا فيه ثلاثة مباني وأقوال.
- ابحث عن حقيقة البخار على ضوء العلم الحديث، وعن حقيقة بخار البول؟
- ابحث عن روايات المقام وأنها تدل على أن معروض النجاسة، في المتنجسات، ما هو من بين المحتملات الخمسة؟
______________________
[1] العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص369-370.
[2] فيما احتاج إلى الخبرة.
[3] أي قد لا يبقى.
[4] موسوعة الفقه / كتاب الطهارة: ج2 ص69.
[5] المصدر: ص70.
[6] العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص369.
[7] وإن كان الأحوط الاجتناب. (الفاني).
* فيه منع، بل الأقوى بقاؤه على النجاسة لبقاء الموضوع حقيقة وعرفا بتبدّله بخارا، فإنّ غاية ما هناك هو تفكّك أجزاء المائيّة، وإن أبيت عن بقاء الموضوع حقيقة فبقاؤه عرفا محلّا لاستصحاب النجاسة. (الآملي).
[8] فيه تأمّل. (الفيروزآبادي، الإصطهباناتي).
* محلّ إشكال، بل الأقوى النجاسة. (الحائري).
* بل لا يطهر على الأحوط، وكونه من الاستحالة محلّ تأمّل. (آل ياسين).
* فيه تأمّل، بل منع، وإن قلنا بطهارته حال كونه بخارا، ولكن بعد تقاطره واجتماعه يرى العرف أنّه ذلك المتنجّس بعينه. (صدر الدين الصدر).
* في مطهّريّة مثل هذه الاستحالة إشكال. (جمال الدين الگلپايگاني).
* محلّ إشكال. (البروجردي، أحمد الخونساري).
* فيه نظر. (مهدي الشيرازي).
* محلّ إشكال، فلا يترك الاحتياط. (الشاهرودي).
* صدق الاستحالة على مثل هذا مشكل، بل ممنوع. (الرفيعي).
* مع مساعدة العرف، إلّا أن يصدق على المصعّد عنوان آخر هو موضوع للحكم بالنجاسة عرفا. (المرعشي).
* بل الحكم كذلك في الأعيان النجسة فيما إذا لم يكن المصعّد بنفسه من أفرادها، كما في المسكرات. (الخوئي).
* مشكل. (محمّد رضا الگلپايگاني).
* إذا لم يصدق عليه عنوانه السابق. (محمّد الشيرازي).
* فيأتي أنّ الاستحالة من المطهّرات، فلا فرق في الحكم المذكور بين بخار النجس أو المتنجّس، فلو لم يكن المصعّد بنفسه من أفراد الأعيان النجسة فهو محكوم بالطهارة، كما لا فرق في تولّد البخار من حرارة النار أو الشمس أو حرارة أخرى، والأحوط الاجتناب فيهما. (مفتي الشيعة).
* فيه إشكال، بل منع. (السيستاني).
[9] لا دليل على كون الاستحالة بنفسها من المطهّرات، وعليه لا بدّ من ملاحظة أنّ أي عنوان يصدق على المحال إليه فلا بدّ من التفصيل. (تقي القمّي).
[10] فيه إشكال، نعم لا يحكم بنجاسة ما يلاقيه في حال تصاعده. (الميلاني).
* والبخار حقيقة مغايرة للماء عرفا، ومنه يظهر الحكم في الأعيان النجسة إذا لم يكن المصعّد بنفسه من أفرادها كالمسكرات. (الروحاني).
[11] طهارته بعد صيرورته ماء محلّ منع. (حسين القمّي).
* طهارته بعد صيرورته ماء ممنوعة. (محمّد تقي الخونساري، الأراكي).
* بلا فرق في البخار بين بخار المتنجّس أو النجس، كما يأتي في الخامس من المطهّرات مسألة ( 3 و 7). (السبزواري) .
[12] العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص372-373.
[13] موسوعة الفقه / كتاب الطهارة: ج2 ص71.
[14] إذا اخترقا الماء المتنجس فإنهما لا يتنجسان.
[15] العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص373.
[16] أي المطلق والمضاف المصعّد بعد نجاستهما.
[17] الشيخ مرتضى الحائري اليزدي، شرح العروة الوثقى، ج1 ص187-188.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
حكم النجس والمتنجس المصعّد (المبخّر)
قال في العروة: (مسألة 2: الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن إطلاقه، نعم لو مزج معه غيره وصعّد كماء الورد يصير مضافاً)[1].
تشخيص الموضوع بيد مَن؟
وهنا مطالب:
الأول: ان تشخيص الموضوع الصِرف ليس شأن الفقيه بما هو فقيه، بل إنما هو كسائر أفراد العرف أو أهل الخبرة[2]، فلا يدخل فيه التقليد، وعليه: فهو استطراد من صاحب العروة في تشخيص الموضوع.
والجامع: انّ الموضوع قسمان: فإنه إما موضوع صِرف، كالماء والخل والخمر، والمرجع فيه هو العرف العام، وإما مستنبط وهو أقسام: فإما شرعي أو عرفي أو لغوي، والأول كالصلاة والحج وهو لا يؤخذ إلا من الشارع، والثاني كالغناء والمرجع فيه العرف فتحديد بعض الفقهاء له بأنه الترجيع المطرب وشبهه ليس هو المدار، والثالث كالصعيد، فإن الظاهر أن العرف لا يعرفه بحدوده فالمرجع فيه اللغة.
ولا يصح إطلاق كلام العروة
الثاني: ان إطلاق كلامه (قدس سره) في المسألتين غير تام كما أشار إليه عدد من المعلقين، فإن الماء المطلق قد يخرج بالتصعيد عن إطلاقه كما إن المضاف المصعد قد لا يكون مضافاً بعد التصعيد[3].
قال في الفقه: (مسألة 2: {الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن إطلاقه} وذلك لبقاء صدق الماء عليه.
نعم لو فرض زوال الصدق كأن صار له طعم ولون وخاصية جديدة ـ كما ربما لا يبعد فيما يصعَّد مراراً ـ خرج عن الإطلاق ولحقه حكم الإضافة.
والحاصل: أن المعيار هو صدق الماء عرفاً عليه بعد التصعيد.
{نعم لو مزج معه غيره وصعَّد كماء الورد يصير مضافاً} ولا يخفى ما في إطلاقه إذ ربما يوجب التصعيد إطلاقه كما هو الغالب في الماء الممتزج بالملح ـ ولذا يصعّدون ماء البحر للحصول على الماء العذب الخالي من الملوحة ـ والمعيار هو الصدق العرفي كما تقدم)[4].
وقال: (مسألة 3: {المضاف المصعّد مضاف} إن لم يخرج بالتصعيد عن الإضافة، بأن صدق عليه الماء المطلق عرفاً، وإلا فلا وجه للحكم بدون الموضوع.
والحاصل أنه إن أراد بيان الموضوع ففي كليته تأمل، وإن أراد بيان أنه محكوم بالإضافة وإن لم يصدق عليه المضاف ـ بل صدق الماء المطلق ـ ففيه أنه لا دليل لبقاء الحكم بعد انتفاء الموضوع)[5].
والحاصل: ان المقياس هو صدق عنواني الإطلاق والإضافة بنظر العرف.
الثالث: أشكل بعض الأعلام بـ (نعم لو مزج معه غيره) بـ (الاستدراك غير واضح، فإنّ الإضافة تحصل قبل التصعيد، فيدخل في المسألة الثالثة. السيستاني)[6]، ولكن الفرق بين المسألتين، الذي به لا تدخل الثانية في الثالثة، ان مقصوده من الثانية انه لو طرحت أوراق الورد في الماء فإنه يبقى مطلقاً؛ إذ مجرد اختلاط الأوراق بالماء لا يكسبه رائحة وطعماً يخرجه عن الإضافة بل يكون مضافاً بعد التصعيد وإن كان مطلقاً قبله وأما المسألة الثالثة فهي ما كان مضافاً قبل التصعيد.
ولكن الإشكال صحيح ظاهراً إذ أن الماء الذي القيت فيه أوراق الورد لا يتبخر فجأة ولا تحدث الإضافة بعد التصعيد بل قبله إذ تترتفع درجات حرارته بالتدريج فلا محال يصير مضافاً قبل الغليان وقبل التبخير والتصعيد.. وعلى أي فمقصود صاحب العروة واضح.
هل المطلق والمضاف المتنجسان يطهران بالتصعيد؟
وقال في العروة: (مسألة 4: المطلق أو المضاف النجس يطهر[7] بالتصعيد[8]؛ لاستحالته[9] بخاراً[10] ثمّ ماءً[11])[12].
أقول: يقع البحث عن المطهرات للماء المطلق المتنجس وللمضاف المتنجس، وهي التصعيد والاستهلاك في العاصم أو الامتزاج أو الاتصال وغير ذلك مما سيأتي، والكلام الآن في التصعيد، وفي المسألة بحوث:
التفريق بين النجس والمتنجس
الأول: قد يفرّق بين النجس والمتنجس، فإن النجس كالبول والخمر حكمه إذا صعّد ثم عاد خمراً وبولاً، فرضاً، واضح لا إشكال فيه ولا خلاف، أما المتنجس ففيه كلام وخلاف فإنه في بعض الآراء أسوأ حالاً من النجس.
قال في الفقه: (والأقرب أن يقال: إن المضاف بعد التصعيد إن صدق عليه عنوانه السابق، وكان بنفسه من النجاسات، كالبول والخمر ونحوهما، كما لو صعِّد البول أو الخمر، وبعد التصعيد صدق عليه البول والخمر، فلا شبهة في بقاء النجاسة كبقاء الحرمة، وإن صدق عليه عنوانه السابق ولم يكن بنفسه من النجاسات، كما لو صعِّد الجلاب أو الماء المتنجس ففي الطهارة إشكال)[13] وسيأتي.
احتمالات أربعة في البخار
الثاني: ان الحكم في نجاسة بخار البول والخمر وشبههما ومنجسيته وعدمها، وهو المرحلة البرزخية بين ما قبل التصعيد وما بعده، يحتمل فيه وجوه:
1- كون البخار غير قابل لحمل النجاسة أي غير قابل لأن يتنجس فيكون كالضوء أو الصوت[14].
2- كونه قابلاً للتنجس لكنه غير منجِّس أي انه قابل لكنه غير ناقل.
3- كونه قابلاً ناقلاً، لكن الشارع خفف.
وهناك احتمال رابع في بخار البول، وسيأتي.
وعليها يختلف حكم ما بعد التصعيد كما سيظهر.
الثالث: ان في الاستحالة كلاماً في وجه كونها من المطهرات، وفي أنواعها، وسيأتي.
المحتملات الخمسة في معروض النجاسة
إنما الكلام الآن هو انه على فرض تسليم عدم كون البخار نجساً (فإنه مع تسليم نجاسته وإنكار تنجيسه يبقى مجال لاستصحاب نجاسته بعد انتهاء التصعيد ورجوعه ماء وأما عدم تنجيسه فاستثناء يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو ما صدق عليه البخار).
وبعد تسليم أن الاستحالة من المطهرات، فنقول: ان الحكم بنجاسة الماء المطلق المتنجس والمضاف المتنجس بعد تبخير كل منها ثم عودته ماء مطلقاً أو مضافاً، مبني على أن موضوع النجاسة ما هو أي المتنجس ما هو؟ فإن المحتملات خمسة: أن يكون موضوعه الشيء، أو الجسم، أو المائع مطلقاً أو المائع غير المعاد، أو الماء، أو الماء المضاف، وقد أشار إلى عدد من هذه الاحتمالات عدد من الأعلام.
قال السيد المرعشي: (لا إشكال في كون الاستحالة موجبة للطهارة، كما سيأتي، لكنّه فيما تكون النجاسة مترتّبة شرعاً على العنوان الزائل بالاستحالة، وأمّا لو كانت مترتّبة على الشيء لا بعنوان خاصّ، بل بما أنّه شيء أو جسم مثلا فلا تتحقّق الاستحالة بتبدّل اسمه؛ لبقاء موضوع الحكم، وهو الشيء أو الجسم مثلاً، ففي المضاف المتنجّس وسائر المتنجّسات النجاسة مترتّبة على ما هو باق بعد التصعيد، اللهمّ إلّا أن يتمسّك بالصدق العرفي أيضاً، وأنّ المضاف بنظرهم زائل، فلا يترك الاحتياط)[15].
وسيأتي تحقيق ذلك بإذن الله تعالى.
وقال الشيخ الحائري: (قد يشكل في طهارة ذلك[16]:
ويمكن توجيه الإشكال بوجهين:
الأول: أنّ البخار لا يكون كالملح المنقلب إليه الكلب بنظر العرف، بل هو بحكم الماء المنجمد في عدم تغيّر الموضوع فيشمله دليل المتنجّس، إذ لم يشمله الدليل بعنوان كونه مضافاً بل بعنوان كونه جسماً ذات رطوبة مسرية، وهو الآن موجود، أو تستصحب النجاسة إن كان الموضوع في الدليل المائع، فتأمل.
ولازم ذلك نجاسة البخار أيضاً؛ لكن من استشكل في المقام – وهو المرحوم الوالد الأستاذ العلامة طاب ثراه والسيد الفقيه المعاصر البروجردي – لما استشكل في طهارة البخار فلا بدّ أن يكون نظره على الوجه الثاني، وهو أن يقال: إنّه بعد الاستحالة بالماء يكون إعادة المعدوم بنظر العرف فيشمله الدليل أو يستصحب بناءً على ظهور في المائع غير المعاد)[17].
توضيحه: ان البخار أمر برزخي فهل هو ملحق بالملح المنقلب من الكلب أو هو ملحق بالماء المنقلب من الثلج (إذ الملح طاهر والماء الذي ذاب من الجمد المتنجس نجس) وسيأتي الكلام عن مسألة إعادة المعدوم وعن جريان الاستصحاب وعدمه.
ولكن عمدة الكلام هو أن الروايات هي الحَكَم الفيصل في كون موضوع المتنجس هو أي عنوان من العناوين الخمسة الماضية وليس البحث العقلي عن كونه ملحقاً بهذا أو ذاك أو استبعاد هذا أو ذاك كما صنعه جمع.. وسنذكر الروايات غداً بإذن الله تعالى، كما سيأتي تحقيق الكلام في استدلالات الأعلام بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر (عليه السلام): ((أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى (عليه السلام): إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالْحَسَنَةِ، فَأُحَكِّمُهُ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ مُوسَى (عليه السلام): يَا رَبِّ وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: يَمْشِي مَعَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ قُضِيَتْ أَمْ لَمْ تُقْضَ)) الكافي: ج2 ص196.
أسئلة:
- اكتب بحثاً عن الضابط في الموضوع المستنبط؟ وراجع (فقه التعاون) إذ ذكرنا فيه ثلاثة مباني وأقوال.
- ابحث عن حقيقة البخار على ضوء العلم الحديث، وعن حقيقة بخار البول؟
- ابحث عن روايات المقام وأنها تدل على أن معروض النجاسة، في المتنجسات، ما هو من بين المحتملات الخمسة؟
[2] فيما احتاج إلى الخبرة.
[3] أي قد لا يبقى.
[4] موسوعة الفقه / كتاب الطهارة: ج2 ص69.
[5] المصدر: ص70.
[6] العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص369.
[7] وإن كان الأحوط الاجتناب. (الفاني).
* فيه منع، بل الأقوى بقاؤه على النجاسة لبقاء الموضوع حقيقة وعرفا بتبدّله بخارا، فإنّ غاية ما هناك هو تفكّك أجزاء المائيّة، وإن أبيت عن بقاء الموضوع حقيقة فبقاؤه عرفا محلّا لاستصحاب النجاسة. (الآملي).
[8] فيه تأمّل. (الفيروزآبادي، الإصطهباناتي).
* محلّ إشكال، بل الأقوى النجاسة. (الحائري).
* بل لا يطهر على الأحوط، وكونه من الاستحالة محلّ تأمّل. (آل ياسين).
* فيه تأمّل، بل منع، وإن قلنا بطهارته حال كونه بخارا، ولكن بعد تقاطره واجتماعه يرى العرف أنّه ذلك المتنجّس بعينه. (صدر الدين الصدر).
* في مطهّريّة مثل هذه الاستحالة إشكال. (جمال الدين الگلپايگاني).
* محلّ إشكال. (البروجردي، أحمد الخونساري).
* فيه نظر. (مهدي الشيرازي).
* محلّ إشكال، فلا يترك الاحتياط. (الشاهرودي).
* صدق الاستحالة على مثل هذا مشكل، بل ممنوع. (الرفيعي).
* مع مساعدة العرف، إلّا أن يصدق على المصعّد عنوان آخر هو موضوع للحكم بالنجاسة عرفا. (المرعشي).
* بل الحكم كذلك في الأعيان النجسة فيما إذا لم يكن المصعّد بنفسه من أفرادها، كما في المسكرات. (الخوئي).
* مشكل. (محمّد رضا الگلپايگاني).
* إذا لم يصدق عليه عنوانه السابق. (محمّد الشيرازي).
* فيأتي أنّ الاستحالة من المطهّرات، فلا فرق في الحكم المذكور بين بخار النجس أو المتنجّس، فلو لم يكن المصعّد بنفسه من أفراد الأعيان النجسة فهو محكوم بالطهارة، كما لا فرق في تولّد البخار من حرارة النار أو الشمس أو حرارة أخرى، والأحوط الاجتناب فيهما. (مفتي الشيعة).
* فيه إشكال، بل منع. (السيستاني).
[9] لا دليل على كون الاستحالة بنفسها من المطهّرات، وعليه لا بدّ من ملاحظة أنّ أي عنوان يصدق على المحال إليه فلا بدّ من التفصيل. (تقي القمّي).
[10] فيه إشكال، نعم لا يحكم بنجاسة ما يلاقيه في حال تصاعده. (الميلاني).
* والبخار حقيقة مغايرة للماء عرفا، ومنه يظهر الحكم في الأعيان النجسة إذا لم يكن المصعّد بنفسه من أفرادها كالمسكرات. (الروحاني).
[11] طهارته بعد صيرورته ماء محلّ منع. (حسين القمّي).
* طهارته بعد صيرورته ماء ممنوعة. (محمّد تقي الخونساري، الأراكي).
* بلا فرق في البخار بين بخار المتنجّس أو النجس، كما يأتي في الخامس من المطهّرات مسألة ( 3 و 7). (السبزواري) .
[12] العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص372-373.
[13] موسوعة الفقه / كتاب الطهارة: ج2 ص71.
[14] إذا اخترقا الماء المتنجس فإنهما لا يتنجسان.
[15] العروة الوثقى والتعليقات عليها: ج1 ص373.
[16] أي المطلق والمضاف المصعّد بعد نجاستهما.
[17] الشيخ مرتضى الحائري اليزدي، شرح العروة الوثقى، ج1 ص187-188.