215- بحث عن الفروق بين القضايا الحقيقة والقضايا الخارجية وثمرة ذلك في مبحث ( وجوب النظر والاجتهاد ) ومبحث (وجوب تحصيل العلم) 1ـ في (القضية الحقيقة ) للمكلف صلاحية تلقي الكبرى وفهمها بفصولها وقيودها 2ـ وله صلاحية معرفة المزاحم و الرافع والحاكم والوارد
السبت 21 ربيع الأول 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان الكلام في امكان الاجتهاد والنظر في اصول الدين وعدمه وقد مضى شطر وافر في الاستدلال والحديث عن ذلك، اما مبحث اليوم فهو مسألة جديدة شديدة الصلة بالمبحث السابق الا انها مستقلة في الوقت نفسه تمام الاستقلال، وهذه المسألة لم اجد في كتب الكلام والاصول من بحثها بحسب الاستقراء الناقص رغم شدة اهميتها وشدة الابتلاء بها وهي:
مسألتان: وجوب النظر أو كفاية التقليد؟ ووجوب العلم أو كفاية الظن؟
الأولى: هل يجب النظر والاجتهاد او يكتفى بالتقليد في المعرفة واصول الدين بشكل عام؟ والثانية: هل يجب العلم او يكتفى بالظن، فهاتان مسألتان: هل الاجتهاد واجب ام ان التقليد كاف، والمسألة الثانية هل العلم واجب حصوله وتحصيله ام الظن المعتبر كاف، والنسبة بينهما من وجه لأن الاجتهاد قد يورث العلم وقد يورث الظن، كما ان التقليد قد يورث العلم وقد يورث الظن، فلا تغني احدى المسألتين عن الاخرى.
حكم الشارع في المسألتين بنحو القضية الحقيقية ام الخارجية
ومبحثنا هو: ما هو حكم الشارع في هاتين المسألتين بنحو القضية الخارجية؟ إذ ان كل ما نجده في الكتب إنما هو بحث عن القضية الحقيقية ولم نجد بحثا عن القضية الخارجية رغم شدة الابتلاء بها لآحاد المكلفين وسيتضح ذلك في مطاوي البحث بإذن الله تعالى، وعند بحث هذه القضية سيتضح ضمنا ان من فوائدها تحصيل وجه جديد من وجوه الإجابة على دعوى الاكتفاء بالتقليد في اصول الدين استنادا إلى سيرة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) او الائمة الاطهار (عليهم السلام)، وهذا من الأدلة التي أشار إليها صاحب القوانين، والحاصل: انه عندما نفرق بين القضيتين الحقيقية والخارجية ونبحث حكم الشرع في القضية الخارجية واختلافه عن الحقيقية، فسيظهر ان ما نقله صاحب القوانين وغيره من الاستدلال بالسيرة غير تام ، لأن البحث هنالك يدور عن القضية الحقيقية لكن الاستدلال ليس إلا بما كان بنحو القضية الخارجية، فلا يتم الاستدلال بهذا على ذاك، وهذه ثمرة مهمة ستترتب على مبحثنا، فهذه المسألة اذن لها موضوعية في حد ذاتها ولها جهتان طريقيتان على الاقل:
الجهة الاولى: نفي ورد بعض ادلة المكتفين بالتقليد بنحو القضية الحقيقية.
الجهة الثانية: مزيد جواب ومزيد فائدة فيما يرتبط بالبحوث السابقة، لدفع توهم اللغوية من تكليف القاطع بالعجز او القاطع بالمؤدى جهلا مركبا، فتلك الثمار العشرة التي ذكرناها لدفع (اللغوية)، وايضا الاجوبة التي ذكرناها لدفع توهم استحالة ان يوقِع المولى عبده في توهم جمعه للنقيضين، هذا البحث سينفع هنالك أيضاً ويعد اجابة جديدة عن تلك الشبهات الاصولية في عدم صحة تكليف القاطع بالخلاف استنادا إلى اللغوية وتوهم التناقض ولزوم تحصيل الحاصل، لذا ينبغي ان يتدبر في هذا البحث جيدا، فنقول: ان تحقيق هذا المبحث يتم ببيان أمور:
1- مقتضى الحكمة ان لا يشرع الشارع القضايا بنحوٍ واحد
الأمر الأول: ان مقتضى الحكمة ان يشرِّع الباري جل اسمه بل مطلق الحكيم ممن بيده تشريعُ حكمٍ ما، القضايا تارة على نحو القضية الحقيقية وتارة على نحو القضية الخارجية وتارة ثالثة يكون مقتضى الحكمة ان يشرع كلتا القضيتين، اي ان يشرع الحكم الكلي بنحو القضية الحقيقية وان يشرع الحكم الجزئي المصداقي بنحو القضية الخارجية، اذن فمقتضى الحكمة تارة (الجمع) وهذا الشطر (الثاني والثالث) لم يفرد له الاصوليون بحثاً متكاملاً رغم اهميته، وقد فعله الشارع فانه قد شرع لكلتا القضيتين كما سيظهر، وهذه هي المقدمة الاولى، وكمثال خارجي حتى لا يبقى البحث كلياً، نجد ان الشارع في زمن الغيبة الخاصة ثم في زمن الغيبة العامة قد سلك مسلكين ففي زمن الغيبة الصغرى عيّن ونصب بنحو القضية الخارجية النواب الخاصين بالاسم والوصف فهي قضية خارجية محددة، فالعمرّيان والحسين بن روح مثلاً هو النائب الخاص المنصوب بالاسم، لكنه في زمن الغيبة الكبرى شرع قضية عامة كلية (اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه......) اذن الشارع فعل ذلك، بل في زمن المعصومين عليهم السلام كان كلا النمطين من التشريع متحققا، فتارة كان الامام يجعل الولاية المنشعبة من ولايته لمن انطبقت عليهم الضوابط كقوله (عليه السلام) انظروا إلى رجل منكم ممن عرف شيئا من قضايانا ............فاني قد جعلته عليكم حاكما وكقول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) الفقهاء حصون الإسلام وما أشبه، وتارة أخرى كان الإمام يعين شخصا خاصا لمنصب الإفتاء كزكريا بن ادم حيث قال (خذ زكريا بن ادم المأمون على الدين والدنيا) فهذا مثال يشابه المقام لتوضيحه لكن الجامع واحد كما سيظهر.
2- اوكل الشارع تشريع القضايا الخارجية إلى اصناف اربعة
الأمر الثاني: ان في القضية الخارجية، حيث ان الائمة عليهم السلام ليسوا ظاهرين دائما كما في مثل هذا الزمان؛ لذلك كان مقتضى الحكمة ان يوكل امر التشريعات المصداقية، اي تشريع القضية الخارجية اي جعل الحكم الجزئي، اما للفقهاء العدول كما قد صنع الشارع في بعض القضايا ، واما للمؤمنين العدول كما صنع الشارع ذلك في بعض القضايا الأخرى، واما للمؤمنين الثقاة كما صنع الشارع ذلك في نفس تلك القضايا على الرأيين، أو غيرها، واما لعامة المكلفين كما صنع الشارع ذلك ايضا في أقسام أخرى، فالاقسام اربعة، هذه الصور الاربعة تنطبق على المقام، كما سيظهر، وهذا هو الأمر الثاني وان القضية الخارجية اوكلت إلى هذه الطوائف الاربعة بحسب اختلاف القضايا الخارجية.
ان القضية الحقيقية والخارجية بتصوري لم تأخذ حقها من البحث اصوليا بحيث تتفرع عليها الاستنباطات الفقهية بسلاسة كاملة وان بحثت في الأصول بمناسبات شتى، بل لعلها لم توّف حقها في (المنطق) أيضاً، حيث انها من مسائله، وهي من المبادئ التصديقية لعلم الأصول وسنبحث عنها بما يناسب المقام اما التفصيل فيترك لمحله، فلنبحث أولاً عن الكبرى ثم نطبقها على المقام، فنقول:
3- الفرق بين القضية الحقيقية والخارجية وثمرتها في البحث في المقام
الأمر الثالث: ان الكبرى الكلية تتضح ببيان الفروق بكلا نمطيها اي الفروق في عالم الثبوت والفروق في عالم الاثبات، بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية، وبتعبير اخر: ان بعض ما نذكره من فروق مشير وبعضه ضابط، ومن الفروق:
1.القضية الحقيقية تلقى إلى المكلف اذا كانت له الصلاحية للتلقّي
الفرق الاول: ان القضية الحقيقية انما يشرعها الشارع وتلقى إلى المكلف اذا كانت له صلاحية تلقي الكبرى الكلية بقيودها وفصولها وفهمها، وعندئذ يشرع له الشارع القضية الحقيقية والا لكان عليه ان يلجأ للقضية الخارجية ولا يصح منه ان يطلق القضية بكبرويتها الكلية، مثلا القاعدة المعروفة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) وعكسها (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) فهاتان قاعدتان كليتان لكن ليس كل مكلف يفهم هذه الكبرى، بل يفهمها من كان مأنوسا بها وقد يحتاج للتأمل الدقيق في القاعدتين ووجهها، فاذا كان المكلف بمستوى فهم التشريع الكلي فانه ستلقى اليه القاعدة الكلية والا فلا يحق للحكيم القاء الكبرى الكلية إليه ، بل عليه ان يذكر التطبيق المصداقي فقط بنحو القضية الخارجية، مثلا الرهن هل يضمن بصحيحه او لا يضمن بصحيحه؟ كذلك البيع والإجارة وغيرهما فقد يختلط الحال على غير الخبير، لكن القاعدة عندنا ان ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وهي تنطبق على الرهن فان الرهن لا تضمن العين المرهونة بصحيحه فلو تلفت عند من رهنت عنده فلأن يده يد امانة فلا ضمان عليه الا مع التعدي والتفريط، وكذلك لو كان الرهن باطلا فلا ضمان ايضا، اما البيع فلأن العين تضمن بصحيحه فتضمن بفاسده ايضا فلو كان البيع فاسدا فان المشتري سيضمن المبيع لو تلف، اما الاجارة فهي مصداق لما يضمن وما لا يضمن فالاجارة مصداق لما يضمن من جهة ومصداق ما لا يضمن من جهة اخرى ، فهذا مثال جليّ لتأكيد الفكرة وان المكلف، حتى الفاضل، قد يحتاج إلى التدبر حتى يفهم المعادلة، اما عامة الناس فالامر لهم ليس متعسرا فقط بل شديد العسر فيما لو القيت اليهم القضية الحقيقية، فلا مناص حينئذٍ من القضية الخارجية كما سيأتي بحثه في خصوص المعرفة وحقيقة الحال فيها، ولنمثل بمثال اخر ترويضاً للذهن في الكبرى الكلية، حيث كان المثال الاول من القواعد الفقهية فلنمثل من الاصول أيضاً بـ(لا تنقض اليقين بالشك) فان هذه قد تكون واضحه لكن هل كل مكلف يفهمها بحدودها وبفصولها؟ الجواب كلا، فهل المراد بالشك الشك الطاري ام الشك الساري؟ فعامة الناس لا يعرف ذلك حتى ان من يدرس الرسائل يحتاج للدقة ليعرف مراد الشيخ، وهل المراد بالشك الشك في المقتضي ام الشك في الرافع فقط؟، وهل المراد الشك في رافعية الموجود ايضا او الشك خاص بوجود الرافع؟ والمسألة دقيقة في التفريق بينهما موضوعا ثم التفريق بينهما حكما، فلا تنقض اليقين بالشك هل هي خاصة بما لو شك المكلف بوجود الرافع كوجود حاجب عن الوضوء او تشمل ما لو شك في رافعية الموجود كما لو كانت وساخة على يده لا يعلم انها حاجبة ام لا؟ اذن البحث في هذه المسألة كثير الثمار في الاصول والقواعد الفقهية ومنها ثمرة مسألتنا، هذا هو الفرق الاول.
2.اذا ادرك المكلف المزاحمات ونحوها امكن القاء القضية الحقيقية اليه
الفرق الثاني بين المسألتين والذي يُلجئ الحكيم إلى اختيار الحقيقية والا فالخارجية: هو ان المكلف ان كان بمقدوره ادراك المزاحِمات اوّلاً، وادراك الحاكم والوارد ثانيا، وادراك المانع والرافع ثالثا، عندئذ تلقى اليه القضية الحقيقية والا فلا مناص الا من القضية الخارجية، وسيأتي ذكر ثمان فروق أخرى بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
السبت 21 ربيع الأول 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |