238- الجواب الثاني : مبنىً : المطلق والمقيد المثبتان يقيد احدهما الاخر لـ أـ ظهور المقيد في الوجوب التعييني اقوى من ظهور المطلق في الوجوب التخييري ب ـ سيرة المشرعين على التدرجية في ذكر المقيدات الجواب الثالث : بناءاً : انما يقيد احدهما الاخر ، لو كان مفادهما ( حكم واحد) لا ما لو افادا حكمين
السبت 26 ربيع الآخر 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول ان التفقه والاجتهاد هل هو موضوع مستنبط شرعي أم هو موضوع صرف؟ والثمرة كبيرة بناءا على تحقيق ذلك لأنه اذا كان موضوعا صرفا فأنه يؤخذ من العرف وأن كان موضوعا مستنبطا فلابد ان نرجع إلى الأدلة الشرعية كبرى، وذكرنا صغرىً انها ضيقت من دائرة التفقه والاجتهاد، وذكرنا ان هناك أدلة كثيرة يمكن ان يستدل بها على ان الشارع ضيّق، ولكن في مبحثنا سنقتصر على دليلين فقط، ولعل الأدلة عشرين أو أكثر، ونترك ملاحظة وتتبع سائر الأدلة عليكم، فلعل فيما نذكره ما يلقي الضوء على وجه الاستدلال بسائر الأدلة أيضاً، وهناك بحوث تتفرد بها الأدلة الأخرى فتدبروا فيها.
الدليل الأول:هو ما اشرنا إليه، وهو ان الآيات الآمرة بالعلم قد يقال انها تتصرف في التفقه بالتضييق فليس كل تفقه في أصول الدين مبرءاً للذمة بل لابد من خصوص التفقه الموصل للعلم, وذكرنا انه قد يقال ان المثبتين - كالآيتين (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) و(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً), ونظائر الآيتين - لا يقيد احدهما الأخر فلا تصرف, اذن تفقهوا باق على حاله وعلى أطلاقه وعلى حسب مفهومه العرفي و اعلموا لم تتصرف في تفقهوا,هذا الذي قد يقال.
واجبنا أولا بان النسبة بين تفقهوا واعلموا هي العموم والخصوص من وجه وليس العموم والخصوص المطلق ليقال بان النسبتين لا يقيد احدهما الأخر وقد أوضحنا ذلك,هذا هو الجواب الأول وقد مضى.
لو سلمنا ان النسبة بين (اعلموا) و(تفقهوا) هي العموم والخصوص المطلق فسنجيب بثلاثة أجوبة
سلمنا بان النسبة بين اعلموا وليتفقهوا هي العموم والخصوص المطلق لكن مع ذلك هناك ثلاثة أجوبة عن هذا الأشكال، لكن قبل الأجوبة لابد ان نبحث عن انه لِمَ سلمنا؟, إذ قد أوضحنا ان النسبة هي العموم والخصوص من وجه فما وجه ان نسلم ان النسبة هي العموم والخصوص المطلق؟
وجه كون النسبة هي العموم والخصوص المطلق
يمكن ان يقال: ان الوجه في كون اعلموا اخص مطلقا من ليتفقهوا؛ هو ان مادة الافتراق لأعلموا عن ليتفقهوا هي مثل الإلهام؛ فانه لو حصل العلم من الإلهام فانه علم لكنه ليس تفقها ولا اجتهادا، لكن مادة الافتراق هذه يمكن ان ننفي كونها في دائرة (اعلموا) والسبب في ذلك ان (اعلموا) أمر والأمر لا يتعلق إلا بما يقع في دائرة سعي الإنسان وما يقع في دائرة تسبيبه، اما الإلهام فليس فعلا اختياريا للإنسان ولا يقع ضمن دائرة تسبيبه ولا هو من مصاديق سعيه؛ فـ(اعلموا) لا تشمله لأن اعلموا تعني حصّل العلم[1]، وتحصيل العلم يكون عن طريق السعي الطبيعي والتدبر والتأمل والمطالعة والمراجعة ونحو ذلك، فـ: حصِّل العلم، أمر بـ(أمر اختياري) وسعيه مرتهن بالمكلف ومقدماته مرتبطة به، اما الإلهام فليس أمراً اختياريا، وبتعبير آخر انه ليس فعلي بل هو فعل لله فلا يعقل ان يقال لي حصل العلم عن طريق الإلهام, إذ الإلهام ليس ممكنا لنا تحصيله بل هو فعل القادر المتعال.
هذا وجه وان كان يمكن المناقشة فيه، لكن وجه يكون معه هناك مجال لأن نتنزل[2].
وعلى هذا فالنتيجة هي: ان التفقه عبارة عن السعي الفكري في ترتيب مقدمات اختيارية للوصول إلى حكم فرعي وعبارة عن القواعد التي يمهدها الإنسان لكي يصل إلى النتائج سواءا أكان الوصول علميا أم ظنيا؛ اما اعلموا فهو خصوص العلم الحاصل من ذلك السعي وليس مطلق العلم الحاصل حتى من الطرق الغيبية، إذن النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.
2- المناقشة حسب مبنى الاخوند: احدهما يقيد الآخر وان كانا مثبتين
ثانيا: سلمنا ان النسبة هي العموم والخصوص المطلق لكن نناقش ثانيا نقاشا مبنائيا (ثم ثالثا نقاشا بنائيا), إذ قد يقال وعلى حسب مبنى الكثير من الأصوليين الآخرين ومنهم الآخوند بان المثبتين يقيد احدهما الأخر، كالمتخالفين، وليسا متصالحين كي لا يقيد احدهما الاخر، وعليه فان ليتفقهوا مطلق واعلموا مقيد فيقيده وان كانا مثبتين،
ويتضح ذلك بملاحظة المثال المعهود وهو (اعتق رقبة) و(اعتق رقبة مؤمنة) فان (اعتق رقبة مؤمنة) حسب رأي الاخوند[3] وجماعة تقيد (اعتق رقبة) فلا يجزئك إعتاق مطلق الرقبة, اما على الرأي الأخر فان إعتاق الرقبة المؤمنة هو الأفضل، ويجزئ إعتاق مطلق الرقبة,
والوجه الأول[4] للقول بتقييد أحد المثبتين الأخر؛ هو ان ظهور المقيد في الوجوب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الوجوب التخييري، فـ(اعتق رقبة) مطلق، ونتيجته الوجوب التخييري فله اعتناق رقبة مؤمنة او غير مؤمنة، أما المقيد فظاهر في الوجوب التعييني لذي القيد (اعتق رقبة مؤمنة) فما عداه غير مطلوب وليس محققاً للغرض فيقدم عليه، ووزانه وزان الخاص والعام المتخالفين فاذا قال (أكرم العلماء) ثم قال (لا تكرم فساق العلماء) فيتقدم هذا على ذاك لإقوائية ظهور هذا على ذاك، وما نحن فيه من هذا القبيل فـ(ليتفقهوا) ظاهر في الوجوب التخييري فالمكلف مخير بين التفقه المؤدي للعلم والتفقه المؤدي للاطمئنان بل والتفقه المؤدي للظن – أي النوعي -, لكن (اعلموا) ظاهرة في الوجوب التعييني لتحصيل العلم وظهورها فيه أقوى من ظهور ليتفقهوا في الوجوب التخييري، هذا هو الوجه الذي صار إليه الاخوند وتبعه جمع وفيه نقاش فليتدبر فيه[5].
وهناك وجه آخر نشير إليه بإيجاز لتفكروا به إذ ليس بحثنا عن ذلك الآن لكن الغرض مجرد الإلمام لكي تكون رؤوس أقلام المباني في يد الإنسان في تحصيل هذا المبحث .
الوجه الثاني: سيرة المقننين جرت على الفصل بين المطلق والمقيد والعام والخاص اما لتدرجية الأحكام أو لضعف المتلقِّي
هو ان سيرة المقننين جرت على الفصل بين المقيدات والمطلقات وعلى الفصل بين المخصصات والعمومات، وبتعبير اخر سيرتهم على التدرجية: اما في غير الشارع فلجهلهم بالقيود الثبوتية التي ينبغي ان تلحظ في المطلق لذا فانهم قد يشرعون حكما مطلقا ثم يكتشفون بمرور الزمن خطأهم في الإطلاق فيضيفون قيودا، كما نلاحظ ذلك في مجالس الأمة إذ يلحقون بقانونهم الأول ما يضيقه او يوسعه, واما الشارع فقد يتساءل: لِمَ يضيق او يوسع مع انه محيط؟ فلِمَ لا يذكرها دفعة بل يذكر مطلقا ثم يذكر بعد ذلك القيد؟ والجواب هو: ان السبب في ذلك هو المصلحة العامة في التدرجية، ومنها ان المتلّقي في مقام التلقي كثيراً ما لا يمكنه ان يستوعب المادة بكافة جوانبها اي الحكم بكافة قيوده فلا بد ان يتدرج فيه معه، كما ذكرنا ذلك في مقام التعليم، فانه في مقام التعليم لا تذكر الأحكام بكل قيودها مرة واحدة إنما القيد يؤخّر عن المقيد، إلى ان يحين وقت الحاجة وقد يحلّ وقت الحاجة بعد سنة، وتفصيله في محله، لكنه إجمالا لا شك فيه وفي ان الأحكام الشرعية والعقلائية تدرجية حتى لو كان العاقل محيطا بالجهات الدخيلة في المصلحة والمفسدة.
هذا هو الوجه الثاني، وهذان دليلان بإيجاز لإثبات هذا المبنى, فاذا قلنا بهذا المبنى فالأمر واضح؛ إذ عليه فان (اعلموا) وان كانت مثبتة وموجبة لكنها مع ذلك تقيد ليتفقهوا فقد تصرفت فيها، هذا ثانيا.
3- المطلق والمقيد: كلاهما واجب، بغرضين
الجواب الثالث[6]: وهو جواب بنائي سلمنا بان المثبتين لا يقيد احدهما الأخر ومع ذلك لنا ان نقول :ان المثبتين مثل (اعلموا) و(يتفقهوا) وان لم يقيد احدهما الأخر موضوعاً لكن مع ذلك نقول هناك تصرف من (اعلموا) في (ليتفقهوا) لكن في دائرة الحكم لا الموضوع.
توضيحه: ان الخيارات ثلاثة بل اربعة ، وليست خيارين كما هو المتوهم، إذ في عالم الثبوت هنالك بدائل محتملة فيما لو وجد مطلق ووجد مقيد موافق له في الجهة، اي سلبا وإيجابا، وحيث ان المثال المعهود المأنوس للذهن هو اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة لذا سنطبق عليه، والكلام في (اعلموا) و(تفقهوا) هو الكلام فيه، تماماً، فلو قال المولى اعتق رقبة وقال اعتق رقبة مؤمنة فهنا احتمالات:
أ- حمل المطلق على المقيد
الاحتمال الأول ان نحمل المطلق على المقيد اي نقيده به، فنقول ان ظاهره غير مراد، وهذا رأي الاخوند إذ يرى ان المتخالفين والمتوافقين سواء في التقييد، وان نوقش فيه بمخالفته لمبناه. فتأمل
ب- حمل المقيد على الأفضلية
الاحتمال الثاني عكس الأول: بان نبقي المطلق على أطلاقه لكن نتصرف في المقيد ونقول ظاهره غير مراد، فظاهره مع انه على الوجوب لكن نحمله على الأفضلية وعلى أكدية الطلب، فنقول اعتق رقبة هو الواجب وهو المبرئ للذمة على إطلاقه، الا ان (اعتق رقبة مؤمنة) يرشد إلى الفرد الأكمل، وهذا خلاف الظاهر لأن ظاهره الوجوب التعييني وان غيره لا يجزي لكن نحمله على الأفضلية جمعاً بين الدليلين، وهذا هو رأي الذين يقولون ان العام والخاص والمطلق والمقيد المثبتين لا يقيد احدهما الأخر بل والخاص يرمز إلى الأفضلية (وحسب ظاهر بعض الكلمات فان الأمر دائر بين الخيارين ولا خيار ثالث، لكن جوابنا يعتمد على الخيار الثالث وهو خيار صحيح واحتمال موجود ثبوتا وفي مقامنا قد يكون هو الأقرب.
ج- هناك غرضان مستقلان وهناك أمران
والخيار الثالث[7] هو ان نقول ان هناك أمران لغرضين مستقلين تمام الاستقلال فهذا واجب وذاك واجب مستقل اخرمن غير تصادم بينهما، وهذا البحث مورد اخذ ورد إذ كيف نتعقل ان المطلق يكون مأمورا به بامر مستقل ولغرض معين والمقيد مأمورا به لأمر مستقل ولغرض آخر مع انه ان كانت كل أفراد المطلق وافية بالغرض فذاك المقيد ليس أمره مستقلا وإنما غاية الأمر أفضلية, وان لم تكن كل الأفراد واجدة للمصلحة الملزمة او المفسدة الملزمة فذاك الامر لابد ان يرفع اليد عنه إلى هذا المقيد، ولا يعقل ان نقول ان الأمرين كلاهما بحاله ويجب امتثالهما معا؟
والجواب: ان هذا متعقل بل واقع[8], فانه إذا احرزنا من الخارج وحدة الغرض ووحدة المأمور به فما ذكر صحيح، أما اذا لم يحرز ذلك من الخارج بان كان هناك غرضان أو احتمل ان يكون غرضان احدهما مترتب على المطلق بما هو مطلق والثاني مترتب على المقيد بما هو مقيد فهنا يجب علينا أمتثالان: امتثال للمقيد بالإتيان بذي القيد وامتثال مرة أخرى للمطلق بالإتيان باي فرد شاء.
ولكي لا يبقى البحث نظرياً ومبهماً فلنمثل بمثال ثم نطبقه على المقام: فانه إذا قال المولى (جئني بماء) وقال (جئني بماء بارد) فإذا علمنا ان هناك مأمورا به واحدا وغرضا واحدا وهو ان يشرب الماء فالأمر كما ذكر من: فاما الوجه الاول او الوجه الثاني: ان الماء البارد هو الأفضل او انه المتعين, اما لو احتملنا ان قوله جئني بماء كان لغرض ان يسقي زرعه ولا فرق عنده فيه بين ان يكون ماءا باردا او عاديا، وان قوله جئني بماء بارد كان ليروي ضمأه, اي احتملنا ان هناك غرضان مترتبان وهناك مأموران وليس مأمورا به واحداً فلا وجه لحمل هذا على ذاك ولا ذاك على هذا، بل على العبد ان يأتي بمائين: ماءا باردا يسقط به أمر (جئني بماء بارد) و(ماء مطلق) ليسقط به امر (جئني ماء) وهذا هو بالضبط تحليلنا الأصولي لكلام الشيخ الطوسي الذي وجده البعض غريبا، ففكروا إلى الغد وانه كيف نطبق هذا الكلام على كلام الشيخ الطوسي من دعواه كون وجوب التفكر في أصول الدين استقلاليا[9]. وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
[1] - قد سبقت بعض المحتملات الأخرى فيه وبحثها في العام الماضي.
[2] - ثم ان الالهام وان دخل في دائرة الاختيار باختِيارية مقدماته ، كتهذيب النفس والدعاء ، الا انه مع ذلك لا يطلق عليه أو على مقدماته (التفقه)
[3] - الكفاية ج1 ص250 حسب طبعة وص393 حسب طبعة أخرى و289 حسب طبعة ثالثة.
[4] - وهو الوجه الذي ذكره الآخوند.
[5] - هنالك مباني في وجه ظهور المطلق في الإطلاق ولا نريد ان ندخل في التفصيل لكن احد المباني حكم العقل والمبنى الثاني الانصراف والمبنى الثالث الظهور وكلامنا في هذا المبنى، وهنا نقتصر على ما يرتبط بالمقام.
[6] - في الجواب الثالث والرابع ستتضح وجه التفرقة بين الامرين بين استظهار وحدة الحكم وعدمه من المطلق والمقيد.
[7] - وهناك خيار رابع هو البناء على تعدد التكليف من قبيل الواجب في الواجب، وسيأتي
[8] - وهنا نكتفي ببرهان الوقوع خارجاً، اما الجواب على شبهة عدم إمكان ذلك فجوابها الفلسفي يترك للأصول، والجواب الواضح هو ان أدل دليل على إمكان الشيء وقوعه. فتأمل
[9] - الا يخرج هذا المورد بهذا الشكل عن مبحث المطلق والمقيد- المقرر. كلا وسيتضح وجهه غداً بإذن الله.
السبت 26 ربيع الآخر 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |