بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول مراسيل الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه، وان كل الروايات التي وردت فيه هي روايات معتبرة ، وقد ذكرنا اشكالين على ذلك، الاشكال الاول، وهو انه لا يعلم ان الشيخ الصدوق كان في توثيقه لهذه الروايات قد سلك مسلك وثاقة الراوي وتوثيق المخبرين، إذ لعله قد سار على مسلك عقلائي اخر وهو وثاقة الرواية وتوثيق الخبر والمضمون، وعلى هذا الاحتمال الاخير سيكون توثيقه حدسيا اجتهاديا، ومعه فلا حجية لقوله على المجتهدين الآخرين.
وقد ذكرنا الأجوبة عن هذا الاشكال،
وكان الجواب الاول هو: ان تصريحات الشيخ الصدوق وفي مواطن متعددة تشهد وتثبت ان مسلكه ومنهجه هو وثاقة الرواة وتوثيق المخبرين، وذكرنا في ذلك تصريحا له نقله الشيخ الطوسي.
اشكال على ما تقدم : هل منهج الصدوق توثيق الرواي؟
وقد استشكل على ذلك بإشكال وهو:
سلمنا ان تصريح الشيخ الصدوق في بعض المواضع يدل على انه انتهج منهج توثيق المخبرين في ذلك الموطن، ولكن اثبات الشيء لشيء لا ينفي ما عداه، ولعل الشيخ الصدوق في المورد الذي ذكره قد سلك هذا المسلك، إلا انه قد سار بالمسلك العقلائي الآخر من خلال توثيق الخبر والمضمون في بقية الروايات.
جواب الاشكال:
وفي مقام الجواب نقول: انه عند تتبع كلمات الشيخ الصدوق (قده) في مختلف المواضع والمواطن نجد ان مسلكه العام هو ماذكره من كلامه المتقدم وهو توثيق الرواة كطريق عام له، هذا اولا,
وثانيا:لو فرض انه لم يحصل لشخص اطمئنان من كلماته في المواطن الخاصة، فان ملاحظة السيرة العملية للشيخ الصدوق ترشدنا الى ذلك ايضا، فانه لو تتبعنا كتبه المختلفة لوجدنا انه لم يعتمد إلا على منهج توثيق الرواة والسند، واما وجود مورد او موردين على خلاف ذلك فانه لا يقدح بالمنهج العام له.
وثالثا: ان نفس تصريحه السابق الذكر يكفي لشهادته بكبراه الكلية حيث قال في الديباجة: "بل قصدت الى ايراد ما افتي به واحكم بصحته..." وقد سبق منا ان الصحيح باصطلاح القدماء وكذا عند المتأخرين مرتبط بالسند لا بالمتن، ولذا فعبارته صريحة – وإلا فظاهرة- في المراد.
ورابعا : اننا نستند الى كلام السيد المرتضى(قده) هنا وهو كلام مفتاحي، ويحتاج الى بحث في محله، حيث يقول:
"...اكثر اخبارنا متواترة"، وكلام السيد المرتضى وقوله في كون الروايات متواترةمبني على الوضع في ذلك الوقت حيث وجود الاصول الاربعمائة,لا في هذا الوقت وذلك للفاصل الزمني الكبير وضياع كثير منها أو أكثرها، وعليه فالشيخ الصدوق – بناء على ذلك –لم يكن بحاجة الى تصحيح الرواية بالمضمون، أي: انه لم يكن بحاجة لتوثيق الرواية لعجزه عن توثيق الرواة بل المستظهر اعتماده على المتواتر أو الصحيح، من دون حاجة لغيرها.
توضيح واضافة:
تواتر الروايات لدى القدماء
اننا نلاحظ في هذا الزمن انه كلما قرب العهد بمرجع معين مثلاً امكن تحصيل التواتر على آرائه لمن تقصّد ذلك، لكثرة تلامذته والمعاشرين له وكذلك الحال في سائر الأزمان، فلا ينبغي استبعاد أو استغراب دعوى التواتر في تلك الحقبة لوجود هذه الاصول، علما ان هذه الاصول قد أدمج كثير منها في مثل كتاب الكافي– وبقية الكتب الاربعة – ولم تنعدم بالمرة ,
واما حال بقية الروايات فانها قطعية بأحد القرائن الاربعة , وهي المطابقة والموافقة للكتاب الكريم او الموافقة للسنة المعلومة او الاصول العقلية او الاجماع.
والخلاصة: انه من كل ذلك يحصل الاطمئنان –إن لم يكن القطع – بان الشيخ الصدوق في روايات الفقيه هو بصدد التوثيق السندي لها وان رواياته ان لم تكن متواترة وقطعية فهي ظنية بالظن المعتبر.
الاشكال الثاني : لعل توثيق الصدوق حدسي
وهو: انه حتى لو سلمنا بان الشيخ الصدوق وثق سلسلة السند وتوثيقه هو للراوي لا الرواية والمضمون، لكن هذا التوثيق منه لعله حدسي فلا ينفع في المقام، لأن التوثيق الحدسيليس بحجة في حق المجتهد الاخر.
جواب الاشكال:
وجواب الاشكال – اضافة لما مضى -:
اولا: ان الاصل في التوثيق والجرح ان يكون حسيا لا حدسيا، ونقصد من الاصل ظاهر الحال، وعلى ذلك سيرة العقلاء والمتدينين،
ولنضرب مثالا في المقام لتقريب الفكرة للأذهان، فانه لو اخبر احدهم بان فلانا صادق اللهجة، فالمتبادر العرفي من كلامه بانه قد عرف ذلك عن حس,أي: انه قد عاشره وسمع كلماته باستمرار، وعرف منها الصدق، وليس توثيقه للهجته مبتنيا على الحدس كأن يكون أبوه مثلا من الصالحين ويتصف بصدق اللهجة والولد على سر ابيه، فان الامر لا يكون عادة كذلك
وبتعبير اخر: كلما كان هناك طريق مطروق للحس، فالأصل في الاخبار هو كونه كذلك لا ان هناك حدسا بذلك، هذا هو الجواب الاول.
ثانياً :
كيف صح الاعتماد على توثيق الشيخ النجاشي لمختلف الرواة مع انه عندما يقول ان فلانا ثقة فلعله اعتمد على الحدس لا الحس؟وهذا الاشكال جار في توثيقات بقية الرجاليين كالكشي وابن محبوب وغيرهم من المتقدمين، او حتى من المتأخرين، والجواب فإذا كانوا يقبلون توثيقات المتقدمين – وهم يقبلونها رغم احتمال الحدس فيها – كذلك فليقبلوا توثيق الصدوق الإجمالي لرواة (الفقيه).
والحل: انهم عندما يقولون ان فلانا ثقة او انه فطحي او ماشابه ذلك ,فظاهر حالهم انهم ينقلون ذلك عن حس، وهو اما حس مباشر او عن حس غير مباشر كنقله عن الوسائط.
اذن ما دمنا نقبل توثيقات الشيخ النجاشي فكذلك فلابد من قبول توثيقات الشيخ الصدوق فهو من اعاظم اهل الخبرة وعبارة الشيخ الطوسي في الفهرست تدل على ذلك .
الإشكال بتعارض روايات (الفقيه)
وقد ذكرنا اشكالا سابقا واشرنا له اشارة واجبنا بجواب قد مضى ,
ونضيف الان جوابا آخر حيث انه قد استشكل على كلام الشيخ الصدوق في تصحيح كافة روايته في الفقيه بانه قد روى احيانا روايتين متعارضتين، مع انه لا يمكن الفتوى بهما معا وقد ذكر في ديباجته ان ما اذكره هو ما افتي به واحكم بصحته. وقد اجبنا بان وجود خبرين متعارضين لا يخدش بحجية كلام الصدوق العام؛ فان اهل الخبرة – وعلى ذلك بناء العقلاء – عندما يبنون على ان خبر الواحد حجة مثلا أو عندما يصرحون به فانهم يلاحظون الخبر بما هو هو، مع قطع النظر عن المعارض، ولو وجد لدخل في باب التعارض وما يجري فيه من الاقوالهناك، هذا ما مضى.
واما جوابنا الاخر فهو: لعل الشيخ الصدوق كان يرى جمعا عرفيا بين ذينك الحديثين واللذينرآهما المستشكل متناقضين، فلا يرد بهما الاشكال اصلا، والحاصل انه لا يعلم ثبوت التعارض بينهما عند الشيخ الصدوق ليستشكل بنقله لهما، على تصحيحه كلي ما ورد في كتابه.
وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين