191- تفصيل مناقشتنا لمبنى الميرزا النائيني: الطرق العقلائية حيث انها فطرية لا تحتاج الى الامضاء ولو بعدم الردع
الثلاثاء 5 شعبان 1438هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(191)
2- الطرق العقلائية مقتضِيات للحجية
الدفاع الثاني([1]): ان الطرق العقلائية وإن كانت فطرية إلا انها مقتضِيات للحجية وليست عللاً تامة لها، لذلك فانها بحاجة إلى إمضاء.
توضيحه: انه وإن سلمنا – كما بنى عليه الميرزا وكما هو المنصور – ان مبدأ الطرق العقلائية وسيرتهم على عمل بما هم عقلاء هو (فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها الله تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظا للنظام)([2]) لكن ذلك لا يدفع الحاجة إلى الإمضاء إلا لو كانت هذه الطرق المودعة في الفطرة قطعية إذ القطعي حجيته ذاتية فلا يتوقف على جعل ولا يحتاج إلى إمضاء، لكنها ظنية لوضوح ان خبر الثقة (وكذا قول الخبير والظواهر ونظائرها كواشف ظنية عن الواقع فإذا كانت كواشف ظنية احتاجت إلى متمِّم الجعل أي احتاجت إلى إمضاء ليتمَّم به جعلها وكاشفيتها، والحاصل: ان الله أودع فينا طرقاً ظنية فكون الشيء والطريق فطرياً لا يغني عن حاجته إلى الإمضاء، إلا إذا كانت طريقيته تامة وليست كذلك الطرق العقلائية المعروفة.
الجواب: بل هي علل على مبنىً، ومقتضيات متمَّمه بالفطرة على غيره
ولكن هذا الدفاع غير مجدي إذ يرد عليه:
المسالك في (الحجية) ونتائجها في المقام
أولاً: ان المسالك والمباني في الحجية مختلفة وعليها جميعاً لا يجدي هذا الجواب، وسيكون مدار البحث الآن حول حجية خبر الثقة بالذات:
الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية أو صحة الاحتجاج
المسلك الأول والثاني: ان الحجية تعني المنجزية والمعذرية، كما هو مسلك الآخوند، وعليه: فان العقلاء يرون خبر الثقة – بحدوده – منجِّزاً قطعاً أي موجباً لاستحقاق العقاب بالمخالفة إن طابق الواقع فخالفه ومعذِّراً قطعاً إن لم يطابق فوافق؛ ألا ترى انهم لا يشكون في استحقاق العبد للعقاب إذا خالف الأمر الواصل إليه بحجة عقلائية متذرعاً بانه يحتمل الخلاف؟.
وكذلك الحال لو ذهبنا إلى ان الحجية باقية على معناها اللغوي: من ما يصحّ به احتجاج المولى على عبده أو العكس إذ يرى العقلاء صحة الاحتجاج بخبر الثقة قطعاً.
الحجية بمعنى الكاشفية التامة
المسلك الثالث: ان الحجية تعني الكاشفية التامة هذا كبرى واما صغرى فخبر الثقة كاشف تام عن الواقع ولو بزعم العقلاء فيكون كالقطع، بل هو منه على ظاهر هذا المسلك، مما هو كاشف تام عن الواقع بنظر القاطع فلا يعقل ان يحتاج في حجيته إلى جعل أو إمضاء ولو بعدم الردع. كما لم يقل أحد([3]) بحاجة القطع إلى الإمضاء ولو بعدم الردع.
التزام النائيني بكون خبر الثقة مورِثاً للقطع لدى العقلاء
وهذا المسلك في خبر الثقة هو ما التزمه الميرزا النائيني بنفسه قال: (وأمّا السيرة العقلائية: فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلى الآيات الناهية([4]) نسبة الورود بل التخصص، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن، لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصص عن العمل بالظن، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأن تكون رادعة عن السيرة العقلائية القائمة على العمل بخبر الثقة فانّه مضافا إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات الناهية يلزم الدور المحال؛ لأن الردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقف على أن لا تكون السيرة مخصصة لعمومها، وعدم كونها مخصصة لها يتوقف على أن تكون رادعة عنها)([5]).
فالتزامه بالتخصص صريح في أنه يرى خبر الثقة من دائرة القطع لا الظن إذ لا يعقل بعد ان اخرجه من الظن ان يراه من الشك أو الاحتمال وكذا هو صريح قوله (لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن) وقوله (فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصص عن العمل بالظن) وقوله (فانّه مضافا إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات الناهية).
والحاصل: انهم حيث لم يلتفتوا إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع فهم قاطعون بالفعل ككل قاطع حيث لا يلتفت إلى احتمال مخالفة قطعه للواقع وإلا لما كان قاطعاً، فإذا ضممنا مسلكه ههنا إلى كبراه في المقام من ان الطريقة العقلائية (ناشئة عن فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها الله تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظا للنظام) ظهر انه لا يعقل مع الالتزام بالكبرى والصغرى القول بحاجة خبر الثقة إلى الإمضاء ولو بعدم الردع. إلا لو قلنا بحاجة القطع أو الدليل القطعي إلى الإمضاء، وسيأتي إشكال على ما ذكرناه وجواب عنه بإذن الله تعالى.
ويمكن تقريب دعواه بملاحظة حال الناس فعندما يخبر الأخ أخاه مثلاً بأن أباه قال له أفعل كذا، فانه لو لم توجد قرينة خارجية فانه لا يكاد يشك ولا يكاد يحتمل الخلاف بل لا يخطر بباله إلا لو وجد عامل خارجي.
نعم، نحن لا نقبل هذا المسلك فانه وإن صح في الجملة لكنه لا يصح بالجملة ولعله يأتي نقده لاحقاً.
الحجية بمعنى الكاشفية الأعم من الناقصة
المسلك الرابع: ان الحجية تعني الكاشفية الأعم من الناقصة النوعية فتحتاج إلى متمِّم الكشف، وعليه: فحجية مثل خبر الثقة تحتاج إلى متمِّم الكشف لأنها طرق ظنية فيحتاج إلى إمضاء الشارع ولو بعدم الردع لتتميم الكشف.
والجواب على هذا أولاً: عدم الحاجة إلى متمم الكشف في الحجج العقلائية، كما سيأتي لاحقاً بيانه بإذن الله تعالى.
متمِّم كشف الحجج العقلية هو العقل نفسه
ثانياً: سلمنا لكن، متمِّم كشف الحجج العقلية هو العقل نفسه فكما رأى العقلاء بما هم عقلاء (مما يعود لادراك العقل أو حكمه كما سبق) طرقاً ككواشف عن الواقع ومشوا عليها فانهم يتمِّمون كشفها أيضاً من غير توقف على تتميم الشارع؛ ألا ترى انهم يمشون عليها مطمئنين سواء أوجد الشارع أم لا، أعلموا به أو لا، وكان بمتناولهم السؤال منه أو لا؟ ولذا لا نجد العقلاء سألوا الرسول والأئمة (عليهم السلام) عن حجية خبر الثقة المخبِر عن أحكامهم وأقوالهم (عليهم السلام) وما ذلك إلا لقطعهم بانه هو الطريق الكاشف التام – حسب مسلك الميرزا – أو لتتميمهم الكشف ووضوحه لديهم بالبداهة العقلية بحيث لم يجدوا حاجة أبداً للسؤال عن حجيته
بل الواقع في الروايات هو السؤال عن الصغرى الذي يؤكد ارتكازية الكبرى لديهم وغنائها عن السؤال، وتقرير الإمام (عليه السلام) بل بناؤه على ما قاله السائل مؤكد لارتكازهم، فلاحظ مثلاً قوله "قَالَ: قُلْتُ لَا أَكَادُ أَصِلُ إِلَيْكَ أَسْأَلُكَ عَنْ كُلِّ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي، أَفَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ آخُذُ عَنْهُ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي؟ فَقَالَ: نَعَمْ"([6])
ولاحظ تفريعه (عليه السلام) الأخذ عنه (عليه السلام) على كونه ثقة في "الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي"([7]) مما يظهر منه مفروغية مدارية الوثاقة. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=====================
قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): "الْمُؤْمِنُ مِنْ دُعَائِهِ عَلَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُدْفَعَ عَنْهُ بَلَاءٌ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهُ" تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص280.
...............................................
الثلاثاء 5 شعبان 1438هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |