بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(82)
النوع الرابع: كافة الظنون المتعلقة بالكتاب والسنة
وقد يقال: بأن الأصل حجية كافة الظنون التي تتعلق بالكتاب والسنة حتى الضعيفة منها، سواءً الظنون المتعلقة بالسند أم المتن أم الدلالة أم الترجيح في صورة التعارض، وذلك على الرغم من القول بأن الأصل العام في الظن عدم الحجية.
وقد ارتأى عدد من الأصوليين هذا الرأي، قال المحقق الشيخ محمد تقي الهروي الحائري([1]) المعاصر للشيخ الأنصاري في (رسالة في نفي حجية مطلق الظن) (المقام الثاني: في إثبات حجية الظنون المخصوصة والطرق الشرعية: أي: الكتاب والسنة، وجميع الظنون المتعلّقة بهما سنداً، ومتناً، ودلالةً، وتعارضاً)([2]).
وقال: (وقد علم منه أنّ الظنَّ الحاصل من ظواهر الكتاب، وأخبار الآحاد حجةٌ قطعاً، سواءٌ كان حصولهُ بسبب عدالة الراوي، أو تبيُّنِ حاله([3])، أو انجبار روايته([4])، أو غير ذلك من الأمور الموجبة للوثوق والإطمئنان. وسواءٌ كان العدالة أو التبيّن معلوماً، أو مظنوناً من قرائن الأحوال، أو من أقوال أرباب الرّجال، وسواءٌ كان حصول الظن بالمعنى المراد من الكلام ومدلوله العرفي بواسطة قول اللغوي، أو النحوي، أو الصرفي، أو بانضمام أصالة عدم الزيادة، والنقيصة، وعدم القرينة المخرجة للكلام عن ظاهره، إلى غير ذلك.
وبالجملة، فنحن ندّعي حصولَ القطعِ من الأدلة السابقة بحجية الظنون الحاصلة من ظاهر الكتاب والسنّة، والظنون المتعلقة بهما سنداً، ومتناً، ودلالةً)([5]).
وتوضيحه: أنه قد يقال:
حجية الظنون المتعلقة بسند الحديث
أولاً: بحجية كافة الظنون المتعلقة بسند الحديث وأن المعتبر فيه أحد أمور ثلاثة على سبيل البدل: العدالة، الوثاقة([6])، التبيّن.
يكفي لإحراز العدالة مطلق الظن
أ- وأن العدالة يكفي فيها الظن المطلق بها من غير توقف على أحد الأمور الثلاثة التي اشترطها صاحب المعالم وهي شهادة عدلين بكون الراوي عادلاً، أو شهادة القرائن المتعاضدة المتكثرة، واشتراط الصحبة المؤكدة والشهرة، قال: (تعرف عدالة الراوي بالإختبار بالصحبة المؤكدة والملازمة بحيث يظهر أحواله ويحصل الإطلاع على سريرته، حيث يكون ذلك ممكناً، وهو واضح ومع عدمه، باشتهارها بين العلماء وأهل الحديث، وبشهادة القرائن المتكثرة المتعاضدة، وبالتزكية من العالم بها وهل يكفي فيها الواحد، أو لابد من التعدد؟ قولان، اختار أولهما العلامة في التهذيب، وعزاه في النهاية إلى الأكثر، من غير تصريح بالترجيح. وقال المحقق: "لا يقبل فيها إلا ما يقبل في تزكية الشاهد، وهو شهادة عدلين" وهذا عندي هو الحق.
لنا: أنها شهادة، ومن شأنها اعتبار العدد فيها، كما هو ظاهر. وأن مقتضى اشتراط العدالة اعتبار حصول العلم بها. والبينّة تقوم مقامه شرعاً، فتغني عنه. وما سوى ذلك يتوقف الإكتفاء به على الدليل)([7]).
ولذا قال المحقق الهروي الحائري: (كما أنّ عدم الإكتفاء في معرفة العدالة بمطلق الظن، بل اشتراط الصحبة المتأكدة المطلعة على السريرة، أو شهادة القرائن المتعاضدة المتكثرة، أو شهادة العدلين، ونحو ذلك، كما اختاره صاحب المعالم، لا وجه له أيضاً)([8]) وناقشه بـ: (إنّ المعروف من العاملين بأخبار الآحاد أنّهم اكتفوا في عدالة الرواة بالوجوه الظنية والأمارات الضعيفة، وكيف لا يكون كذلك؟! مع أنّه يلزم منه الخروج عن الشريعة وتخريب الفقه؛ إذ لا يكادُ يوجَدُ خبرٌ جميعُ سلسلة سنده كان ثابت العدالة بأحد الأنحاء المذكورة، ولا سيما إذا قلنا بأنّ العدالة هي الملَكَةُ.
ومن اختار أحد هذين المذهبين، فقد اختلَّ أمره في الفقه، ولا يمكنه الجريُ على مختاره في كثير من المسائل، وربما يقولُ: الحكم بلا دليل مشكلُ، ومخالفة الأصحاب أشكلُ، أو بالعكس.
وبالجملة، فحجية الأخبار المنجبرة، وكذا الإكتفاء بمطلق الظن في العدالة ممّا لا ينبغي التأمل فيه)([9]).
كما يكفي التبيّن الظني
ب- وأن العدالة ليست هي الملاك الوحيد لتصحيح السند بل والتبيّن أيضاً لشهادة آية النبأ بذلك قال: (فما ذهب إليه بعض المتأخرين من أن خبر غير العادل ليس بحجةٍ أصلاً، وإن كان منجبراً بعمل الأصحاب أو غيره، لا وجه له)([10]) وأوضحه بـ: (لأنّه خلاف المعروف من الأصحاب مع أن مقتضى آية النّبأ هو العمل بخبر غير العدل بعد التثبت والتبيّن، بل مدار الشريعة في الأعصار والأمصار كان على ذلك بالبديهة، كما قاله المحقق البهبهاني أيضاً.
وقال أيضاً: "جميع تأليفات جميع الفقهاء مبنيّةٌ على ذلك، بل ضعافهم أضعاف الصحاح إلا النادر من المتأخرين، بل النادر أيضاً في كثير من المواضع عمل بالمنجَبِرِ، مصرّحاً بأنّه وإن كان ضعيفاً، إلا أنّه عمل به الأصحاب"([11]).
ونقل عن المحقق: "أنّه بالغ في التَّشنيع على من اقتصر على الصحيح"([12]))([13]).
و(على هذا، فاشتراطُ العدالة في قبول الخبر ليس لعدم حجية خبر غير العدل، بل لأنّ العدالة شرطٌ في قبول الخبر من دون حاجة إلى التبيُّن؛ إذ بعد التبيُّن، خبر الفاسق أيضاً حجة عندهم بلا شُبهةٍ، فيكون المعتبر في قبول الخبر أحد الأمرين من العدالة والتبيّن)([14]).
وحاصل كلامه أنه يحصل التبيّن في خبر الفاسق بمطلق الظن ولو بمطابقة الشهرة الفتووية له، أو أي أمر آخر.
ج- والأمر في الوثاقة ظاهر مما سبق.
حجية الظنون المتعلقة بمتن الحديث
ثانياً: وقد يقال بحجية كافة الظنون المتعلقة بالمتن لما ذكره H (وقد عُلِم مما ذكرناه إلى الآن حجية الظنون المتعلّقة بمتون الأخبار أيضاً من قول اللغوي والنحوي ونحوهما، وأصالة عدم الزيادة والنقصان، وشبههما؛ فإنّ سيرة العلماء – قديماً وحديثاً – كان على الإكتفاء بالظنون المذكورة)([15]) ويقصد من نحوهما قول الصرفي وشبهه، كما انه يقصد حجية أقوال اللغويين والنحاة وأضرابهم إذا تعلقت بإيضاح كلمة وردت في متن الروايات، وإن لم نقل بحجية قولهم عموماً، أي أننا وإن قلنا بان الأصل عدم حجية قول اللغوي والنحوي والصرفي لكننا نقول بحجية قولهم في خصوص تفسير مفردات الروايات؛ للوجوه الآتية لاحقاً.
حجية الظنون المتعلقة بدلالته
ثالثاً: والظنون المتعلقة بالدلالة، فإن هؤلاء الأصوليين يرون حجيتها وإن كانت ضعيفة جداً كما في العام الذي ابتلي بكثرة تخصيصه جداً، وكما فيما لو حدث مجرد ظن مطلق بأن المولى في مقام البيان فينعقد حينئذٍ الإطلاق للمطلق بنظرهم أو إذا ظن فقط بأنه لا يوجد قدر متيقن في مقام التخاطب أو بعدم وجود قرينة على الخلاف.
حجية الظنون في باب التعارض
رابعاً: وقد يقال بحجية الظنون في باب التعارض، وذلك كما لو وردت 7 روايات وعارضتها 8 روايات أخريات، أو روى إحدى الروايات أربعة بينما روى الأخرى خمسة فإن الترجيح للأخريات، وأن التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غير المنصوصة لا يقتصر على ما قاله الشيخ الأنصاري؛ لالتزام هؤلاء بالتعدي إلى المرجحات المورثة للظن الضعيف أيضاً. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً كَسَرَتْ قُلُوبَهُمْ خَشْيَتُهٌ فَأَسْكَتَتْهُمْ عَنِ الْمَنْطِقِ وَإِنَّهُمْ لَفُصَحَاءُ عُقَلَاءُ، يَسْتَبِقُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الزَّكِيَّةِ لَا يَسْتَكْثِرُونَ لَهُ الْكَثِيرَ وَلَا يَرْضَوْنَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْقَلِيلِ، يَرَوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَشْرَارٌ وَإِنَّهُمْ لَأَكْيَاسٌ وَأَبْرَارٌ))
(تحف العقول: ص392).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) المتوفى 1299هـ.
([3]) فالكلام عن القائل والراوي.
([4]) فالكلام عن القول والرواية.
([6]) الوثاقة إضافة منّا على قول المحقق الحائري.
([7]) معالم الدين وملاذ المجتهدين، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم المقدسة: ص203-205.
([11]) الفوائد الحائرية: ص448.
([1]) المتوفى 1299هـ.