بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(137)
ملخص كلام الفصول وإشكالي الشيخ عليه
كان البحث في إشكالات الشيخ ((قدس سره)) على صاحب الفصول ((قدس سره)) حيث ذهب الأخير إلى نصب الشارع طرقاً إلى أحكامه التي لا يُشَكّ في كوننا مكلفين بها، وأنه حيث عجزنا عن الوصول إليها بالعلم، أي حيث لم يمكننا معرفة أي طريق بالذات هو الذي جعله الشارع ونصبه نظراً لفرض إنسداد باب العلم، فإن تعيينه لا بد أن يكون، بحكم العقل، بالظن([1]).
وأجاب عنه الشيخ بـ(وفيه: أولاً: إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعية، كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها)([2]) إلى آخر كلامه.
وأشكل عليه أيضاً بـ(وثانياً: سلّمنا نصب الطريق، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم، بيان ذلك:أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور - الذي كان كثيراً في الزمان السابق لكثرة القرائن - ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان، أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبيّنة الشرعية أو الشياع مع إفادته الظن الفعلي بالحكم، ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان)([3]) إلى آخر كلامه.
وقد مضت مناقشات عديدة لهذين الجوابين، فلننتقل إلى جوابه الثالث وهو قوله:
الإشكال الثالث: يجب الأخذ بالقدر المتيقن، دون الظن
(وثالثاً: سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية - من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والإستقراء والأولوية الظنية -، إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه. فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه، وإلا فالمتيقن من الباقي.
مثلاً: الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحد بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول - فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب([4]) الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل.
نعم، لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين واحتمل نصب كل منهما، صحّ تعيينه بالظن بعد الإغماض عمّا سيجيء من الجواب)([5]).
إيضاح وتنبيه
وإجماله بعبارة أخرى: إنه حتى مع تسليم نصب الشارع طرقاً إلى أحكامه وتسليم وصولها إلينا، فإنه لا يتم كلام الفصول بالرجوع إلى الظن في تعيين الطرق، إذ المشكلة، في مفروض البحث، أنها وصلت مختلطة بغيرها فلا يمكننا حينئذٍ تمييز الطريق المنصوب من غيره ولذا قال: (سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية) فـ(وجوده في جملة ما بأيدينا) يعني اختلاط الحجة باللاحجة، وحينئذٍ يبرز أمامنا طريقان:
الأول: التمسك بالظن في تعيين الطريقِ المنصوبِ المجملِ المرددِ بين مجموعةٍ من الطرق، وهو ما اختاره الفصول.
الثاني: الأخذ بالقدر المتيقن من الطرق، وهو ما اختاره الشيخ؛ فإنه عند الدوران بينهما يتعين الثاني لأنه مبرئ للذمة قطعاً لأن الفرض أنه القدر المتيقن من الطرق، والإشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، أما الطريق الأول فهو ظني، والأصل عدم إغناء العمل بالظن عن الحق أي عدم كاشفيته عن الواقع بل حرمته: أما عدم إغنائه فلقوله تعالى: ((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً))([6])، وأما حرمته فلحرمة إسناد الأحكام إلى الشارع بغير حجة إذ يقول تعالى: ((قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ))([7]) والظن لم تثبت حجيته فكيف نعيّن الطريق المنصوب من الشارع ونعتبره هو الحجة علينا، بظنٍ لم تثبت حجيته؟
تنبيه: الظاهر أن مقصود الشيخ ((قدس سره)) من القدر المتيقن القدر المتيقن من الأقوال لصريح قوله: (مثلاً: الخبرُ الصحيح والإجماعُ المنقول متيقنٌ بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحدٌ بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول)([8]).
والحاصل: أننا نختار الطريق الذي أجمع الكل عليه دون ذلك الذي اختلف فيه فنأخذ به فإنه القدر المتيقن من بين الأقوال.
المناقشات:
ولكن قد يورد عليه بوجوه:
1- لا يصح إطلاق القول بمرجعية القدر المتيقن
الأول: أن القدر المتيقن بحسب الأقوال قد لا يورث للمجتهد إلا الظن، فلا يصح إطلاق القول بمرجعيته.
بعبارة أخرى: إطلاق القول بمرجعيته، نقض للغرض لأنه يتضمن تأييداً لصاحب الفصول الذي يرى حجية الظن في تعيين الطريق المنصوب.
بعبارة ثالثة: النسبة بين القدر المتيقن الأقوالي وبين اليقين هي العموم من وجه، كما أن النسبة بينه وبين الظن هي العموم من وجه، فلا يصح القول بـ(إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه) إلا بتقييده بما إذا أفاد اليقين، كما يوهمه ظاهر لفظ القدر المتيقن، أو الإلتزام بإطلاق حجيته وإن أفاد الظن فيكون إذعاناً بقول الفصول في الجملة بل مطلقاً لأنه مجرد تفصيل في الصغريات، وان القدر المتيقن بين ما يفيد اليقين فهو حجة على رأي الشيخ والفصول بل على كل المسالك، وما يفيد الظن فهو حجة على رأي الشيخ حسب إطلاق كلامه، كصاحب الفصول.
2- لا يوجد قدر متيقن وافٍ بالأحكام
الثاني: ما أشكل به عليه المحقق اليزدي بقوله: (قوله: وثالثاً سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية من أقسام الخبر، إلى آخره([9])، يمكن أن يورد عليه: بمنع وجود القدر المتيقّن الوافي بالمقصود بحيث لا نحتاج إلى تعيين الطريق بالظن، لأنّ القدر المتيقّن في المرتبة الأولى بحسب الأقوال هو الخبر الصحيح الأعلائي الموثوق الصدور مع إفادته الظن الفعلي، ولا ريب أنّ هذه المرتبة لا تكفي في الفقه لندرتها جداً ولا متيقن فيما بعد ذلك، بل يدور الأمر بين الخبر الصحيح أو الخبر الموثوق الصدور أو المفيد للظن الفعلي مثلاً، وليس بين المذكورات قدر متيقّن، فيحتاج في تعيين الطريق المنصوب إلى الظن)([10]).
وقوله: (الصحيح الأعلائي) الصحيح هو ما رواه الإمامي العدل الضابط و(الأعلائي) ما زكّى رواتَه في كامل سلسلة الإسناد إماميان عدلان ضابطان، وقوله (الصحيح) يشير إلى مسلك وثاقة الرواة([11]) وقوله (الموثوق الصدور) يشير إلى مسلك وثاقة الروايات، بعبارة أخرى: وثاقة الصادر (سنداً) ووثاقة الصدور (مضموناً) أي ولو باحتفافه بقرائن أخرى، رغم ضعف سنده، كمطابقة مضمونه للكتاب وشبه ذلك.
وقوله: (بل يدور الأمر بين الخبر الصحيح) أي بلا وثوق بصدوره و(أو الخبر الموثوق بصدوره) أي بلا وثاقة الرواة (أو المفيد للظن الفعلي) أي الشخصي إذ قد لا تفيد الأدلةُ النوعية الظنَّ الشخصي، وهناك من يرى أن الأخبار وسائر الأدلة لا تكون حججاً إلا إذا حصل للمجتهد الظن الشخصي بها أما لو بقي في مرحلة الإستنباط شاكاً فلا تتم عليه الحجة بمجرد أن الأكثر أو النوع يرونها حجة، فإن نظر سائر المجتهدين ليس حجة على المجتهد بل هو حجة على العامي فقط. فتأمل
3- القدر المتيقن إما متيقن حقيقي أو إضافي
الثالث: وجه لطيف يعتمد على تمهيد مقدمة وهي أن القدر المتيقن إما قدر متيقن حقيقي وإما قدر متيقن إضافي، فإن كان قدر متيقناً حقيقياً أريد به اليقين فإنه يخرج عن مبنى البحث، وهو الإنسداد، إذ مع اليقين لا مجال حتى للعلمي فكيف بالرجوع إلى الظن أو غيره؟.
وإن كان قدراً متيقناً إضافياً، أي غير مورث لليقين، كان ظناً، وقد سبق ان الظن ليس بحجة، فإذا التزم ((قدس سره)) بحجية الظن حينئذٍ في تعيين الطريق كان إذعاناً لرأي الفصول في قالب رده!
أ- الحقيقي مفيد للعلم، فقد خرجنا عن الإنسداد
وقد أشار إلى الشق الأول من الإشكال المحقق التبريزي في قوله: (لا يقال: إنّ القدر المتيقّن الحقيقي كالخبر الصحيح المزكى رجال سنده بتزكية عدلين، المفيد للوثوق، والمقبول عند الأصحاب، وغير ذلك من القيود التي اختلفت كلمة الأصحاب بانتفاء أحدها، ممّا تقدّم عند الإستدلال على حجيّة الأخبار - معدوم الوجود أو في نهاية القلّة، بل هو معلوم الإعتبار، وخارج من مسألة إعمال الظنّ المطلق في تعيين الطّريق)([12]).
ب- والإضافي ظني، فهو تسليم للفصول
كما أشار إلى الشق الثاني بقوله: (وأمّا المتيقّن الإضافي بحسب الأقوال والأدلّة فهو لا ينفك عن الظنّ بالإعتبار، فالأخذ به أخذ بمطلق الظنّ في تعيين الطّريق، فهو عين مدّعى الخصم)([13]). وللبحث تتمة وإيضاح وصلة فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ)) (نهج البلاغة: الحكمة 92)
---------------------------
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص439.
([3]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص443.
([4]) أي وبعد وجوب، فإنه معطوف على وجود.
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444-445.
([6]) سورة يونس: الآية 36، وسورة النجم: الآية 28.
([7]) سورة يونس: الآية 59.
([8]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444.
([9]) فرائد الأصول: ج1 ص444.
([10]) السيد محمد إبراهيم اليزدي النجفي، حاشية فرائد الأصول، دار الهدى ـ قم، ج1 ص602- 603.
([11]) (المقصود من الوثاقة ههنا الأعم من الصحة بالمعنى الأخص).
([12]) الميرزا موسى التبريزي، أوثق الوسائل في شرح الرسائل، الناشر: كتبي نجفي ـ قم، ج1 ص213.
([13]) المصدر.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(137)
كان البحث في إشكالات الشيخ ((قدس سره)) على صاحب الفصول ((قدس سره)) حيث ذهب الأخير إلى نصب الشارع طرقاً إلى أحكامه التي لا يُشَكّ في كوننا مكلفين بها، وأنه حيث عجزنا عن الوصول إليها بالعلم، أي حيث لم يمكننا معرفة أي طريق بالذات هو الذي جعله الشارع ونصبه نظراً لفرض إنسداد باب العلم، فإن تعيينه لا بد أن يكون، بحكم العقل، بالظن([1]).
وأجاب عنه الشيخ بـ(وفيه: أولاً: إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعية، كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها)([2]) إلى آخر كلامه.
وأشكل عليه أيضاً بـ(وثانياً: سلّمنا نصب الطريق، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم، بيان ذلك:أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور - الذي كان كثيراً في الزمان السابق لكثرة القرائن - ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان، أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبيّنة الشرعية أو الشياع مع إفادته الظن الفعلي بالحكم، ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان)([3]) إلى آخر كلامه.
وقد مضت مناقشات عديدة لهذين الجوابين، فلننتقل إلى جوابه الثالث وهو قوله:
الإشكال الثالث: يجب الأخذ بالقدر المتيقن، دون الظن
(وثالثاً: سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية - من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والإستقراء والأولوية الظنية -، إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه. فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه، وإلا فالمتيقن من الباقي.
مثلاً: الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحد بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول - فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب([4]) الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل.
نعم، لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين واحتمل نصب كل منهما، صحّ تعيينه بالظن بعد الإغماض عمّا سيجيء من الجواب)([5]).
إيضاح وتنبيه
وإجماله بعبارة أخرى: إنه حتى مع تسليم نصب الشارع طرقاً إلى أحكامه وتسليم وصولها إلينا، فإنه لا يتم كلام الفصول بالرجوع إلى الظن في تعيين الطرق، إذ المشكلة، في مفروض البحث، أنها وصلت مختلطة بغيرها فلا يمكننا حينئذٍ تمييز الطريق المنصوب من غيره ولذا قال: (سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية) فـ(وجوده في جملة ما بأيدينا) يعني اختلاط الحجة باللاحجة، وحينئذٍ يبرز أمامنا طريقان:
الأول: التمسك بالظن في تعيين الطريقِ المنصوبِ المجملِ المرددِ بين مجموعةٍ من الطرق، وهو ما اختاره الفصول.
الثاني: الأخذ بالقدر المتيقن من الطرق، وهو ما اختاره الشيخ؛ فإنه عند الدوران بينهما يتعين الثاني لأنه مبرئ للذمة قطعاً لأن الفرض أنه القدر المتيقن من الطرق، والإشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، أما الطريق الأول فهو ظني، والأصل عدم إغناء العمل بالظن عن الحق أي عدم كاشفيته عن الواقع بل حرمته: أما عدم إغنائه فلقوله تعالى: ((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً))([6])، وأما حرمته فلحرمة إسناد الأحكام إلى الشارع بغير حجة إذ يقول تعالى: ((قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ))([7]) والظن لم تثبت حجيته فكيف نعيّن الطريق المنصوب من الشارع ونعتبره هو الحجة علينا، بظنٍ لم تثبت حجيته؟
تنبيه: الظاهر أن مقصود الشيخ ((قدس سره)) من القدر المتيقن القدر المتيقن من الأقوال لصريح قوله: (مثلاً: الخبرُ الصحيح والإجماعُ المنقول متيقنٌ بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحدٌ بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول)([8]).
والحاصل: أننا نختار الطريق الذي أجمع الكل عليه دون ذلك الذي اختلف فيه فنأخذ به فإنه القدر المتيقن من بين الأقوال.
المناقشات:
ولكن قد يورد عليه بوجوه:
1- لا يصح إطلاق القول بمرجعية القدر المتيقن
الأول: أن القدر المتيقن بحسب الأقوال قد لا يورث للمجتهد إلا الظن، فلا يصح إطلاق القول بمرجعيته.
بعبارة أخرى: إطلاق القول بمرجعيته، نقض للغرض لأنه يتضمن تأييداً لصاحب الفصول الذي يرى حجية الظن في تعيين الطريق المنصوب.
بعبارة ثالثة: النسبة بين القدر المتيقن الأقوالي وبين اليقين هي العموم من وجه، كما أن النسبة بينه وبين الظن هي العموم من وجه، فلا يصح القول بـ(إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه) إلا بتقييده بما إذا أفاد اليقين، كما يوهمه ظاهر لفظ القدر المتيقن، أو الإلتزام بإطلاق حجيته وإن أفاد الظن فيكون إذعاناً بقول الفصول في الجملة بل مطلقاً لأنه مجرد تفصيل في الصغريات، وان القدر المتيقن بين ما يفيد اليقين فهو حجة على رأي الشيخ والفصول بل على كل المسالك، وما يفيد الظن فهو حجة على رأي الشيخ حسب إطلاق كلامه، كصاحب الفصول.
2- لا يوجد قدر متيقن وافٍ بالأحكام
الثاني: ما أشكل به عليه المحقق اليزدي بقوله: (قوله: وثالثاً سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية من أقسام الخبر، إلى آخره([9])، يمكن أن يورد عليه: بمنع وجود القدر المتيقّن الوافي بالمقصود بحيث لا نحتاج إلى تعيين الطريق بالظن، لأنّ القدر المتيقّن في المرتبة الأولى بحسب الأقوال هو الخبر الصحيح الأعلائي الموثوق الصدور مع إفادته الظن الفعلي، ولا ريب أنّ هذه المرتبة لا تكفي في الفقه لندرتها جداً ولا متيقن فيما بعد ذلك، بل يدور الأمر بين الخبر الصحيح أو الخبر الموثوق الصدور أو المفيد للظن الفعلي مثلاً، وليس بين المذكورات قدر متيقّن، فيحتاج في تعيين الطريق المنصوب إلى الظن)([10]).
وقوله: (الصحيح الأعلائي) الصحيح هو ما رواه الإمامي العدل الضابط و(الأعلائي) ما زكّى رواتَه في كامل سلسلة الإسناد إماميان عدلان ضابطان، وقوله (الصحيح) يشير إلى مسلك وثاقة الرواة([11]) وقوله (الموثوق الصدور) يشير إلى مسلك وثاقة الروايات، بعبارة أخرى: وثاقة الصادر (سنداً) ووثاقة الصدور (مضموناً) أي ولو باحتفافه بقرائن أخرى، رغم ضعف سنده، كمطابقة مضمونه للكتاب وشبه ذلك.
وقوله: (بل يدور الأمر بين الخبر الصحيح) أي بلا وثوق بصدوره و(أو الخبر الموثوق بصدوره) أي بلا وثاقة الرواة (أو المفيد للظن الفعلي) أي الشخصي إذ قد لا تفيد الأدلةُ النوعية الظنَّ الشخصي، وهناك من يرى أن الأخبار وسائر الأدلة لا تكون حججاً إلا إذا حصل للمجتهد الظن الشخصي بها أما لو بقي في مرحلة الإستنباط شاكاً فلا تتم عليه الحجة بمجرد أن الأكثر أو النوع يرونها حجة، فإن نظر سائر المجتهدين ليس حجة على المجتهد بل هو حجة على العامي فقط. فتأمل
3- القدر المتيقن إما متيقن حقيقي أو إضافي
الثالث: وجه لطيف يعتمد على تمهيد مقدمة وهي أن القدر المتيقن إما قدر متيقن حقيقي وإما قدر متيقن إضافي، فإن كان قدر متيقناً حقيقياً أريد به اليقين فإنه يخرج عن مبنى البحث، وهو الإنسداد، إذ مع اليقين لا مجال حتى للعلمي فكيف بالرجوع إلى الظن أو غيره؟.
وإن كان قدراً متيقناً إضافياً، أي غير مورث لليقين، كان ظناً، وقد سبق ان الظن ليس بحجة، فإذا التزم ((قدس سره)) بحجية الظن حينئذٍ في تعيين الطريق كان إذعاناً لرأي الفصول في قالب رده!
أ- الحقيقي مفيد للعلم، فقد خرجنا عن الإنسداد
وقد أشار إلى الشق الأول من الإشكال المحقق التبريزي في قوله: (لا يقال: إنّ القدر المتيقّن الحقيقي كالخبر الصحيح المزكى رجال سنده بتزكية عدلين، المفيد للوثوق، والمقبول عند الأصحاب، وغير ذلك من القيود التي اختلفت كلمة الأصحاب بانتفاء أحدها، ممّا تقدّم عند الإستدلال على حجيّة الأخبار - معدوم الوجود أو في نهاية القلّة، بل هو معلوم الإعتبار، وخارج من مسألة إعمال الظنّ المطلق في تعيين الطّريق)([12]).
ب- والإضافي ظني، فهو تسليم للفصول
كما أشار إلى الشق الثاني بقوله: (وأمّا المتيقّن الإضافي بحسب الأقوال والأدلّة فهو لا ينفك عن الظنّ بالإعتبار، فالأخذ به أخذ بمطلق الظنّ في تعيين الطّريق، فهو عين مدّعى الخصم)([13]). وللبحث تتمة وإيضاح وصلة فانتظر.
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ)) (نهج البلاغة: الحكمة 92)
---------------------------
([3]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص443.
([4]) أي وبعد وجوب، فإنه معطوف على وجود.
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444-445.
([6]) سورة يونس: الآية 36، وسورة النجم: الآية 28.
([7]) سورة يونس: الآية 59.
([8]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444.
([9]) فرائد الأصول: ج1 ص444.
([10]) السيد محمد إبراهيم اليزدي النجفي، حاشية فرائد الأصول، دار الهدى ـ قم، ج1 ص602- 603.
([11]) (المقصود من الوثاقة ههنا الأعم من الصحة بالمعنى الأخص).
([12]) الميرزا موسى التبريزي، أوثق الوسائل في شرح الرسائل، الناشر: كتبي نجفي ـ قم، ج1 ص213.
([13]) المصدر.