بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(152)
دليلان على كثرة الاستصحابات الحكمية العدمية
سبق (إنّ الاستصحابات النافية الجارية في الأحكام الكلية، كما هو مورد البحث، كثيرة جداً، لا الاستصحابات الجارية في الموضوعات، فإنها أجنبية عن مباحث باب الانسداد)([1]).
بعبارة أخرى: يدل على كثرتها جداً أمران:
شهادة القوانين الوضعية
الأول: شهادة الأحكام الوضعية في القوانين المدنية؛ إذ نرى مثلاً في أحكام الزواج والطلاق ومسؤوليات الزوج والزوجة وحقوقهما وحقوق الأولاد وما أشبه ذلك، ألوف القوانين والأحكام، وكذلك نجد لأجل تنظيم العقود من بيع وشراء وهبة وصلح وإجارة ومساقاة ومزارعة، الألوف إن لم يكن عشرات الألوف من القوانين، وكذلك هناك في القضاء ألوف الأحكام وفي الإرث مئات الأحكام أو أكثر وفي التعزيرات ألوف الأحكام، وفي الوصية والعهد والقسم كذلك، كما نرى في التجارة ألوف القوانين وفي الصناعة الألوف وفي الزراعة الألوف... وغيرها كثير جداً.
وكثرة المحتملات الواقعية
الثاني: إنه حتى مع قطع النظر عن الأحكام الوضعية في القوانين المدنية وعن كل ما جعله العقلاء، فإن الموضوعات من دائرة الأحوال الشخصية، وفقه المجتمع، وفقه الحكومات، مما يحتمل فيها في حد ذاتها أن يكون الشارع قد جعل لها أحكاماً، تبلغ أضعاف أضعاف الأحكام المجعولة في القوانين المدنية، إذ كل فعل وحركة وسكنة وتصرف شخصي أو معاملي أو عبادي فإنه مما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل له حكماً، والاستصحابات العدمية تنفيها بأجمعها.
فذلك كله مما يُثبت كون دائرة الاستصحابات العدمية واسعة جداً، وأما الأمارات التي علم إجمالاً مخالفة مؤدياتها للاستصحابات العدمية، فإن المتيقن منها إجمالاً قد لا يزيد على ألف حكم، أي أقل من واحد بالمائة([2])، فهي من شبهة القليل في الكثير، فلا يُسقط هذا العلم الإجمالي الاستصحاباتِ العدميةَ عن الحجية، وعليه: يكون في العمل بالأمارات المثبتة للأحكام، مع عدم ثبوت حجيتها إذ الفرض الانسداد، طرحاً لهذه الاستصحابات رغم حجيتها فهو طرح للأصول المعتبرة، فلا يجدي الجواب بوجود العلم الإجمالي بالخلاف لاسقاطها عن الحجية لأنه من الشبهة غير المحصورة كما ظهر، فلابد من التماس جواب آخر، كالأجوبة الأربعة التي ذكرناها في درس أسبق.([3])
الاستصحابات العدمية قليلة، لخروج أكثرها عن مورد الابتلاء
لا يقال: بل الاستصحابات العدمية، قليلة، وليست كثيرة جداً ليكون العلم الإجمالي بوجود أمارات على خلافها من شبهة القليل في الكثير، بل هو من شبهة القليل في القليل فالشبهة كالمحصورة؛ وذلك لأن أكثرها خارج عن مورد الابتلاء والداخل من الاستصحابات العدمية في مورد الابتلاء قليل جداً؛ ألا ترى أن المشغول بالدرس أو التدريس أو الصلاة أو إعداد الطعام أو الزراعة أو ما أشبه ذلك، غير مبتلى بالفعل بكل الأحكام المتعلقة بالبيع والشراء والصلح والإجارة والنكاح والطلاق والقضاء و...الخ، فلا تجري الأصول العدمية في حقه لخروجها عن مورد الابتلاء، ويبقى الداخل بالفعل في مورد ابتلائه قليلاً جداً.
الجواب: ليس الابتلاء شرطاً في الاستصحابات الحكمية
إذ يقال: أولاً: إن ذلك من الخلط بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية الكلية، فإن اشتراط أن تكون الأطراف كلها لدى العلم الإجمالي محل الابتلاء، كي يكون العلم الإجمالي منجزاً، خاصٌّ بالشبهة الموضوعية دون الحكمية فإنه في الشبهات الحكمية عموماً ولدى إجراء الاستصحابات الكلية العدمية، لا يشترط ذلك أبداً.
توضيحه:
إن الشبهة الموضوعية مما كانت من أطراف العلم الإجمالي، كما لو سقطت قطرة دم في أحد إنائين، لا يكون العلم الإجمالي فيها منجزاً إذا كان أحد الأطراف خارج محلّ الابتلاء، لعودة الشك إلى الشك في التكليف إذ الطرف الخارج عن محل الابتلاء لا يعقل تكليف العبد بتجنبه لأنه لغو، وهذا الطرف الداخل في محلّ الابتلاء الشك فيه بدوي، وذلك كله عكس الشبهات الحكمية مطلقاً وفيما إذا كانت مورداً للعلم الإجمالي.
والسبب في ذلك هو أن المجعول في موارد الشبهات الحكمية وفي استصحابها، ومحل الشك في موارد العلم الإجمالي بها، هو الحكم الكلي بنحو القضية الحقيقية أما المجعول في الشبهات الموضوعية لدى العلم الإجمالي فهو الحكم الجزئي، وموضوع الحكم الكلي هو الطبيعي، عكس موضوع الحكم الجزئي فإنه موضوع جزئي، والمخاطب بالحكم الكلي هو النوع أما المخاطب بالحكم الجزئي في الشبهة الموضوعية وفي أطراف العلم الإجمالي فيها فهو الشخص.
فهذه فروق ثلاثة بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية مطلقاً واستصحابها ولدى العلم الإجمالي المتعلق بها، ويترتب عليها: أنّ الشبهات الحكمية لا يشترط فيها ابتلاء الشخص بها فعلاً، بل لا يشترط حتى وجود مكلف ما فعلاً، بل المشترط ابتلاء النوع بها ولو في ضمن أحدهم غير الموجود حين إنشاء الحكم، فإن ثمرة إنشاء الحكم تتحقق بوجود الفرد الواحد في أحد الأزمنة، فهذه الثمرة يكفي فيها تحققها في الجملة ولا يشترط تحققها في كافة الأفراد؛ ألا ترى أن إنشاء الحكم إنما هو لأجل المحركية وأنه لو قطع المولى بأن العبد لا يتحرك أبداً كان إنشاؤه لغواً (إلا بتخريج ما، ككونه لإلزامه وإفحامه مثلاً([4])) لكن إنشاء الحكم بنحو القضية الحقيقية يكفي فيه انبعاث أحد المكلفين وتحركه عن الأمر، في مصححية إنشائه كحكم كلي مجعول على طبيعي موضوعه.
وكذلك الحال في استصحاب الأحكام الكلية العدمية وفي منجزية العلم الإجمالي لدى الدوران بين حكمين كليين، فإنه لا يشترط كونها كلها مورد ابتلاء كل المكلفين، بل يكفي أن تقع مورد ابتلاء أحدهم على سبيل البدل، فظهر أن الاستصحابات العدمية للأحكام الكلية كلها جارية وإن لم يكن هذا المكلف بشخصه مبتلى بأكثرها إذ إنها لم تجعل بنحو القضايا الشخصية ولا الخارجية بل بنحو القضايا الحقيقية.
ويكفي في صحة الاستصحاب وفي التنجز، الابتلاء زمناً ما
ثانياً: سلمنا، ولكن يكفي في تنجز العلم الإجمالي، وفي صحة تشريع الاستصحابات العدمية، كونها مورد ابتلائه في امتداد الزمن، وإن لم تكن مورد ابتلاء المكلف الآن، وذلك بناء على منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات، وصحة جعل الأحكام المنحلة بتعدد الأوقات المتعاقبة، فعلى هذا المبنى فإن الاستصحابات العدمية وإن لم تكن مورد ابتلائه فعلاً، ولا كان طرفا العلم الإجمالي مورد ابتلائه فعلاً، يكفي مصححاً لجعلها وتنجيز العلم الإجمالي في حق المكلف ابتلاؤه بها مستقبلاً. نعم هذا ليس بسعة دائرة ما لو لم نشترط ابتلاء هذا المكلف بشخصه حتى تدريجياً، فتدبر.
هل الاحتياط([5]) قبل إعمال قواعد التعارض أو بعده؟
تنبيه: أشار المحقق اليزدي إلى مبحث مهم تمّم به كلام الشيخ في الجواب الرابع، وهو أن الاحتياط في الطرق بالعمل بها بأجمعها الذي التزم الشيخ بأنه المرجع لدى الانسداد، لا الظن الفصولي، أ- هل يراد به الاحتياط بعد إعمال قواعد التعارض بين الأمارات المتعارضة بأن نُسقط المرجوحَ منها، حسب قواعد باب التعارض، وإنما نحتاط بالعمل بالراجح منها، رغم عدم كون أي منها حجة إذ الباب باب الانسداد على الفرض، ب- أو يراد العمل بالاحتياط من دون إعمال قواعد التعارض بمعنى أنه لو تعارضت أمارتان أخذنا بالمثبتة منهما وتركنا النافية وإن كانت النافية أقوى حسب قواعد باب التعارض، كمطابقتها للشهرة أو مخالفتها للعامة أو كون راويها الأعدل الأفقه الأصدق الأورع مثلاً، بعد فرض أنه على الانسداد لم تثبت حجية خبر العدل الضابط بالخصوص؟
الظاهر أن هذا الأخير هو الأصح وذلك لأن الشيخ اختار بحسب الجواب الرابع وجوب الاحتياط في باب الانسداد (أي الاحتياط المتوسط كما سبق، لا الكبير) ومقتضاه العمل بالأمارة المثبتة مطلقاً، وإن كانت أضعف سنداً ودلالةً؛ لأنه إذا عمل بالمثبت برأت ذمته قطعاً إن كان مكلفاً بمؤداه، وإن لم يكن مكلفاً لم يضره العمل به، أما إذا عمل بالنافي فترك الامتثال فإنه يضره إذا كان النافي مخالفاً للواقع وكان مكلفاً به عند ربه.
والحاصل: إن الاشتغال اليقيني بالتكاليف الواقعية، حسب المقدمة الأولى من مقدمات الانسداد يستدعي البراءة اليقينية بالاحتياط بالعمل بكل الطرق (وهو مما لا يلزم منه الحرج، عكس الاحتياط المذكور في المقدمة الثالثة الذي يسلتزم الحرج لأنه احتياط في الاحكام المحتملة كلها) أما العمل بالأمارة النافية، وإن كانت أقوى فغاية الأمر أن يوجب براءة ظنية (بظنٍ لم يثبت اعتباره) والامتثال اليقيني مقدم على الظني، كما قرره الشيخ في الجواب الرابع.
قال المحقق اليزدي (قدس سره): (بقي هنا شيء وهو: أن المراد بالاحتياط في العمل بالطرق المشكوكة الحجية ما هو، فنقول: إنه يحتمل وجهين:
الأول: أن يؤخذ بالأمارات التي لا معارض لها مطلقاً سواء كانت مما تثبت التكليف أو تكون نافية له.
وأما الأمارت المثبتة للتكليف التي تعارضها أمارات أخر نافية لها فمقتضى الاحتياط فيها الأخذ بالأمارات المثبتة لا النافية، إذ الأمارات النافية لا تنافي العمل بالأمارات المثبتة، لأنّ مفادها عدم الوجوب وعدم الحرمة مثلاً ولا محذور في فعل غير الواجب وترك غير الحرام، ولو عمل بالأمارات النافية في الفرض المذكور لزم طرح الأمارات المثبتة وهو مخالف للاحتياط الذي بنينا الكلام عليه.
الثاني: أن يؤخذ بالأمارات غير المتعارضة مطلقاً ويعمل في الأمارات المتعارضة بقواعد التعارض من التعادل والترجيح التي تستفاد من تلك الأمارات أيضاً.
وأظهر الاحتمالين هو الاحتمال الأول، إذ على الاحتمال الثاني قد يرجح الأمارة النافية على المثبتة ويؤخذ بها وهو خلاف الاحتياط المقصود)([6]).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً يُرِيدُ بِهَا شَيْنَهُ وَهَدْمَ مُرُوءَتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ وَلَايَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ فَلَا يَقْبَلُهُ الشَّيْطَانُ)) (الكافي: ج2 ص358)
--------------------------------------
([1]) الدرس (151) بتصرف.
([2]) إن فرضنا العدميات مائة ألف، وهي أكثر.
([4]) مما يعود إلى أن الإنشاء حينئذٍ صوري، فتأمل.
([5]) بالعمل بالأمارات والطرق كلها.
([1]) الدرس (151) بتصرف.