بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(151)
قال الشيخ (قدس سره): (فحاصل الأمر يرجع إلى العمل بالاحتياط في المسألة الأصولية -أعني الطريق - إذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعية، فالعمل مطلقاً على الاحتياط، اللهم...).[1]
وملخص الكلام بما يتضمن بيان تسلسل كلام الشيخ والمحتملات، أنّ الاحتياط على ثلاثة أقسام:
أنواع الاحتياط: الكبير، المتوسط والصغير
الأول: الاحتياط الكبير الكلي التام في محتملات الأحكام، وهذا هو الذي طرحه الأعلام في المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد حيث كان نصيبه الرفض التام لما يستوجبه من العسر والحرج على الأنام.
الثاني: الاحتياط الصغير، وذلك في أطراف الطرق والأمارات فقط، وذلك هو ما يحتمله كلام الشيخ في صدر جوابه الرابع عن الفصول.
الثالث: الاحتياط المتوسط، وهو ما صرح به الشيخ (قدس سره) في نهاية الجواب الرابع (فالعمل مطلقاً على الاحتياط) أي: أ: الاحتياط في المسألة الأصولية أي الأمارات والطرق بالعمل بها بأجمعها ب: والاحتياط في المسألة الفقهية أي الأحكام ولكن لا مطلقاً ليكون كالأول، بل إذا دلّ عليه أصل عملي كالاستصحاب وكان مفاد الأمارة النفي.
ولكنّ هذا الاحتياط المتوسط (الاحتياط في الأمارات وفي الأحكام المدلول عليها بالأصول) قد يواجَه بنفس الإشكال الذي توجّه على الاحتياط الكامل التام وهو لزوم العسر والحرج، وذلك هو ما أشار إليه الشيخ بقوله: (اللهم إلا أن يقال: إنه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة، كالشك في الجزئية وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف، والنافية له بعد العلم الإجمالي بوجوب العمل في بعضها على خلاف الحالة السابقة، إذ يصير حينئذٍ كالشبهة المحصورة، فتأمل).[2]
وتوضيحه مع تحقيقه في ضمن نقاط:
لزوم العسر في الاحتياط المتوسط أيضاً
الأولى: إن العسر والحرج قد يدعى لزومهما من الاحتياط المتوسط أي ما كان في الصور الثلاثة (أ موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة الفرعية ب- موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف ج- موارد الاستصحابات النافية).
هل إجراء الاحتياط في الشك في الجزئية مخالف لمبنى الشيخ؟
الثانية: إن الصورة الأولى التي ذكر الشيخ لزوم الاحتياط فيها لولا الحرج، أشكل عليها المحقق اليزدي بأن الاحتياط فيها مخالف لمبناه العام قال (قدس سره): (وفي هذا الكلام أنظار:
الأول: أنه جعل الشك في الجزئية من موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة، والتحقيق أنه من موارد البراءة وهو مختار المصنف أيضاً.).[3]
أقول: ولكن يمكن دفع هذا الإشكال عن الشيخ بأن اختياره للبراءة لدى الشك في الجزئية إنما كان في صورة الانفتاح، ويمكن لمن يقول بالبراءة في صورة الانفتاح أن يقول بالاحتياط في صورة الانسداد، كما أنه يمكن لمن يقول بحرمة القياس لدى الانفتاح أن يقول بجوازه لدى الانسداد، كما قال به بعض الأعلام[4]، فلا يصح إلزامه ههنا أي على الانسداد، بمبناه على الانفتاح.
وقد يستدل لهذا التفصيل: بأنه على الانفتاح ووجود الأمارات والطرق العلمية يُلتزم بالبراءة لدى الشك في الجزئية لعوده لُـبَّـاً إلى الشك في التكليف، من حيث الشك في سعة التكليف وضيقه، فالضيق متيقن والزائد مشكوك فيه، أما في صورة الانسداد فإنه وإن لم نقل بعوده إلى الشك في المكلف به (بدعوى أن عنوان الصلاة هو المتعلق للأمر فعند الشك في جزئية جلسة الاستراحة مثلاً يشك في الواقع في محقق ذلك العنوان فيما إذا لم يأت بها، وهو مجرى الاشتغال) بل التزمنا بأنه من الشك في التكليف، لكن نقول بالاحتياط فيه أيضاً وذلك لأنه الأصل لدى الانسداد في كل موارد الشك في التكليف كما ذهب إليه الشيخ في جوابه الرابع عن الفصول، فتدبر.
ايضاحات هامة لكلام الشيخ (قدس سره)
الثالثة: إن المستظهر أن قوله (قدس سره) (اللهم إلا أن يقال...) استثناء من قوله (فالعمل مطلقاً على الاحتياط) وليس استثناءً من الاحتياط في المسألة الأصولية خاصة، ولذا فإن المستثنيات تنوعت بين الاحتياط في المسألة الفرعية كالصورة الأولى (الشك في الجزئية) وبين الاحتياط في المسألة الأصولية كالصورة الثالثة (الاستصحابات النافية لللتكليف).
الرابعة: إن الصورة الثانية في كلام الشيخ يراد بها: (موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف، أي مع كون الأمارات على خلافها) لأن هذه الحالة هي التي طرح الشيخ عليها إشكال أن في العمل بالأمارة طرحاً للأصول المعتبرة، لا فيما لو تطابقت الأمارة مع الأصل، والاحتياط يكون حينئذٍ في المسألة الفرعية أي بالعمل على طبق الاستصحاب خلافاً للأمارة النافية (وهي أصولية).
الخامسة: إن الصورة الثالثة في كلام الشيخ يراد بها: (الاستصحابات النافية للحكم، أي مع كون الأمارة مثبتة للحكم ومخالفة للاستصحاب) كما سبق.
السادسة: إن المحتمل في الظرف وهو (بعد العلم الإجمالي...) أن يكون متعلقاً لكل من (الاستصحابات المثبتة للتكليف، والنافية له) وهو الذي استظهره المحقق اليزدي فأشكل على الشيخ بعدم صحة درج الاستصحابات المثبتة في المقام لأجل العلم الإجمالي، ولعله يأتي بيانه، لكننا نستظهر أنه متعلق بالاستصحابات النافية فقط فلا يرد إشكال اليزدي، فتدبر.
هل العلم الإجمالي المخالف للاستصحاب من الشبهة المحصورة؟
السابعة: إن العلم الإجمالي بوجوب العمل في بعض الاستصحابات (النافية، أو النافية والمثبتة) على خلافها، قد يتصور كونه من شبهة الكثير في الكثير فيكون من دائرة الشبهة المحصورة، وقد يتصور أنه من شبهة القليل في الكثير فيكون من الشبهة غير المحصورة، بيانه:
إنّ الاستصحابات النافية الجارية في الأحكام الكلية، كما هو مورد البحث كما سبق لا الاستصحابات الجارية في الموضوعات، هي كثيرة جداً لأن هناك الألوف من الأحكام الكلية المحتملة في جميع شؤون المكلفين مما يحتمل أن يكون الشارع قد حكم فيها بما يخالف الاستصحابات العدمية، بل لعلها أي استصحابات العدم، تبلغ عشرات الألوف، ألا ترى أن الأحكام الوضعية في القوانين المدنية في كافة البلاد تبلغ عشرات الألوف إن لم تكن مئات الألوف في شتى شؤون حياة الناس كالضرائب والسفر والاقامة والحضر وعمران المدن وبناء المحلات والدور وقيودها والاستيراد والتصدير والزواج والطلاق والمعاملات كلها والزراعة والصناعة.. الخ، وحينئذٍ نقول: إننا نعلم ونحن في باب الانسداد أنه قد وردت من الشارع أمارات على خلاف استصحاب العدم في العديد من الموارد لكن كم هي نسبة ما نقطع به؟ لعلها لا تزيد على الواحد بالمائة أو الخمسة بالمائة إذ غاية الأمر أن نقطع اجمالاً بأن الشارع جاء بألف حكم أو خمسة آلاف حكم على خلاف عشرات أو مئأت الألوف من أعدام الأحكام أي الاستصحابات العدمية، فنسبة ما نعلم إجمالاً بمخالفته للاستصحابات العدمية ربما تبلغ الواحد بالمأة منها أو أكثر بقليل، فهي من شبهة القليل في الكثير فليست منجِّزة.
وعليه: لا يسقط هذا العلم الاجمالي البسيط، الاستصحابات العدمية الكلية أبداً، لأنه من قبيل الشبهة غير المحصورة، فهذا مما يمكن أن يوجه به قول الشيخ (فتأمل)، ولكن ماذا نوجّه به ما سبقه من أنه اعتبره كالشبهة المحصورة؟ سيأتي غداً بإذن الله تعالى، في ضمن البحث عن دعوى أن الاستصحابات العدمية ليست كثيرة جداً لخروجها غالباً عن مورد الابتلاء والداخل منها فيه قليل فتكون من شبهة الكثير في الكثير.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً يُرِيدُ بِهَا شَيْنَهُ وَهَدْمَ مُرُوءَتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ وَلَايَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ فَلَا يَقْبَلُهُ الشَّيْطَانُ))
(الكافي: ج2 ص358)
-------------------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص446.
([4]) كالمنسوب إلى صاحب القوانين، والمنسوب إلى السيد الوالد أو هو ما طرحه صناعياً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص446.