بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(3)
من ثمرات البحث عن الحقيقة العرفية
وحيث أن البحث عن الحقيقة العرفية، مما يتوقف عليه تحقيق حال المسألة مورد البحث[1] وحيث لم تبحث كما ينبغي في الفقه ولا في الأصول لذلك ينبغي البحث إجمالاً عنها بما قد ينتج تشييداً صناعياً لعدد من أهم المسائل الآتية في كتاب الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها، فنقول:
هنالك العديد من الثمرات الأصولية والفقهية والمنطقية والبلاغية التي تترتب على تحقيق حال (الحقيقة العرفية).
ففي الأصول: يضاف في بحث (الحقيقة الشرعية) إلى احتمالها واحتمال الحقيقة اللغوية في عناوين موضوعات الشارع، احتمال كونها، أو بعضها، حقائق عرفية.
وفي المنطق والبلاغة: يضاف إلى عنواني المشترك اللفظي والمشترك المعنوي، عنوان المشترك التشكيكي، كما سيتضح.
وفي الفقه: الثمرات التي تترتب على ذلك كثيرة وهامة: فمنها: مورد البحث وهو الطهارة، كما سيأتي مفصلاً، ومنها: التحديدات الواردة في الروايات في مبحث الكر، بالأشبار، وفي مبحث الصلاة بالفرسخ في المسافة التي يقصر عندها، وفي مبحث الزكاة، بالوسق والصاع[2] في الغلات الأربع وغيرها.
الفرق بين المقادير المتصلة والمنفصلة
توضيح ذلك: ان المقادير المنفصلة، كأسماء الأعداد الواردة مثلاً في صحيحة الحسين بن بشار ((وَمِنَ الذَّهَبِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَاراً نِصْفُ دِينَارٍ))[3] وصحيحة الفضلاء ((فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ))[4] ونظائرها لا ريب في تطابق اللغة والشرع والعرف عليها إذ جرى كل من الأخيرين على الأول، نعم قد يُتجوَّز بالسبعين مثلاً عن الكثرة لكنه خارج محل البحث[5].
أما المقادير المتصلة كالفرسخ والميل الواردين في القصر والتمام والأشبار الواردة في تحديد الكر والقدم والقدمين والأربعة أقدام الواردة في ظل الشاخص، والوسق والصاع والرطل الواردة في نصاب الزكاة وغيرها، فيجري فيها الخلاف: أن المراد بها معانيها اللغوية الدقية أو معانيها العرفية (المسامحية) بعد الفراغ عن عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيها.
تخالف السيرة الفقهائية مع الإطلاقات العرفية
والسبب هو أن السيرة الفقهائية جرت على خلاف الإطلاقات العرفية فإن (الّذي يظهر من الإطلاقات العرفية التسامح بما لا يعتد به[6]، ألا ترى أنه لو قال أحد: مشيت فرسخاً، وكان المقدار الممشي عليه أقل من فرسخ بمائة قدم، لا يكذبه العرف حينئذ، بل يصدقونه، مع أن العلماء لا يغتفر عندهم شبر في الزيادة والنقصان فيما إذا وقع الفرسخ في حيّز الحكم الشرعي.
وبالجملة: فعمل العلماء مناف للإطلاقات العرفية، وكون تلك الألفاظ حقائق عرفية في تلك المسامحات، كان يقتضي أن يكون عمل العلماء على طبقها، حيث إنّه إذا وقع التعارض بين حمل اللفظ في الخطابات الشرعية على معناه اللغوي، وبين حمله على معناه العرفي، فالأصل حمله على الثاني)[7].
والمحتملات في هذه الألفاظ ثمانية، أشار المجدد الكبير إلى عدد منها وأضفنا لها غيرها:
الاشتراك اللغوي اللفظي أو المعنوي
الأول: أن تكون هذه الألفاظ مشتركاً لفظياً لغوياً، بين الزائد والناقص والمتوسط بينهما، لكنه مستبعد جداً بل هو مقطوع العدم، إذ لا ريب في أن واضعي اللغة لم يضعوا كل واحد من هذه الألفاظ ثلاث مرات، ولا ان القبائل المختلفة تفرد كلّا منها بوضعٍ لأحدها.
الثاني: أن تكون مشتركة معنىً[8]، بأن يكون واضع اللغة قد وضعها للجامع بين الزائد والناقص والمتوسط، وهو محتمل لكنه لا دليل عليه، ولا استحالة فيه لإمكان الجامع الاعتباري حتى بين الأضداد والنقائض فكيف بالوجوديات والمراتب؟
الاشتراك العرفي اللفظي أو المعنوي
الثالث: أن تكون مشتركاً لفظياً، عرفياً، بالوضع التعيّني التدريجي، بأن تكون موضوعة لغةً للمعنى المعهود إلا أن العرف لما أكثر استعمالها في الأقل والأكثر دون قرينة صارت حقائق عرفية فيها، وهذا المعنى كلاحقه، محتمل بل لعله المستظهر إن لم نصر إلى المعنى الثامن الآتي؛ لوضوح أن العرف يستعملون ألفاظ الأوزان والمقادير في الأقل والأكثر، غير الفاحشين، دون عناية ولا قرينة.
الرابع: أن تكون مشتركة معنىً عرفاً، بأن يكونوا قد أكثروا استعمالها في الجامع، فصارت حقائق فيها بالوضع التعيّني.
كونها مجازات في الزائد والناقص
الخامس: انها مجازات، عرفاً ولغةً، في الزائد والناقص، وعليه: لا تعارض بين العرف واللغة والشرع، فتكون السيرة الفقهائية المتشددة في الأوزان والمقادير على القاعدة.
ولكن يرد عليه: أن علائم الحقيقة الأربعة في الاستعمال في الزائد والناقص، لدى العرف، متحققة، إذ يرون صحة حمل الفرسخ وغيره من المقادير والأوزان على الناقص شبراً أو غراماً أو شبهها، دون عناية، ولا يرون صحة السلب، كما انه يتبادر إلى ذهنهم الأعم، والإطّراد لديهم متحقق؛ بل الأمر كذلك حتى في الأوزان المبنية على الدقة، كالكيلو المبني على الغرامات، (مقابل الرطل والوسق والصاع وغيرها المبنية على المشككات كما سيأتي)، فلو باعه كيلو حنطة وكانت أقل بغرام مثلاً صح الحمل ومنع السلب.. وسيأتي مزيد بيان فانتظر.
الحقيقة الادعائية فيهما
السادس: الحقيقة الادعائية، بالتفسير الآتي: وهو أن التصرف فيها يكون في الأمر التكويني – الثبوتي – وعالم الخارج والمستعمل فيه لا في عالم اللفظ والاستعمال، توضيحه: انه إذا قال: (زيد أسد) فتارة يطلق لفظ أسد على زيد مع انه غير الموضوع له[9] فهو مجاز، فقد تصرف في الأمر الإثباتي – اللفظي أي في الاستعمال أي في اتجاه سهمه (إذ كان مشيراً إلى المعنى غير الحقيقي).
ولكنه تارة يتصرف في أمر عقلي – ثبوتي بأن يتصرف في عالم الواقع – ادعاءً، بأن يدعي بأن زيداً الخارج، داخل واقعاً تنزيلاً في دائرة الأسود أي انه ينقله، ادعاءً، من دائرة البشر إلى دائرة الأسود، ثم يستعمل الأسد فيه، فهو حينئذٍ استعمال للفظ في الموضوع له، والتصرف إنما هو فيه لا في الاستعمال في غير ما وضع له، إذ الموضوع له هو (الأسد الخارجي) وحيث انه في رتبة سابقة ادعى ان زيداً أسد خارجي، وأن هذا الادعاء مقبول عرفاً وبلاغةً، فقد استعمل الأسد في قوله (زيد أسد) في الأسد الخارجي.
فإذا تم ذلك وثبت أن العرف يستعمل الفرسخ مثلاً في الزائد والناقص أيضاً بنحو الحقيقة الادعائية، دخل في دائرة {بِلِسانِ قَوْمِه} ولم يكن من المسامحة العرفية المرفوضة والتي لا تعدو المعنى السابع الآتي.
لكن استعمال العرف هذه الألفاظ بنحو الحقيقة الادعائية بحاجة إلى دليل، واستعمال الآحاد لا يثبت به جَرى العرف.
التسامح العرفي
السابع: التسامح العرفي، بمعنى ان العرف يذعن بأن استعمال هذا المقدار أو الوزن في الزائد والناقص مجاز ويذعن بأن الشرع جعل موضوعه الفرسخ بما له من المعنى اللغوي، لكنه يتسامح فيقول مثلاً: وما الفرق بين فرسخ إلا شبر والفرسخ؟
ومن الواضح ان ذلك ليس في حيطة صلاحية العرف لجهلنا بملاكات الأحكام التي صبت على موضوعاتها، فهذا هو الذي ينكره الفقهاء وهو الذي ينبغي أن ينكر، لا المعنى الثامن الآتي، ولا حتى المعنى الثالث أو الرابع، إذ لا تسامح فيهما، ولا المعنى السادس إن ثبتت كثرته عرفاً.
كونها موضوعة للوجود المنبسط والمعاني المشككة
الثامن: ان ألفاظها موضوعة للمعاني المشككة، أي بعبارة عرفية: الهلامية، المطاطية، الرجراجة، أو فقل للوجود المنبسط.
بل نقول: ان هذا المعنى هو المستظهر كونه الموضوع له لغةً، وان عليه الجري العرفي أيضاً.
والسر في ذلك، الذي يعدّ برهاناً في الوقت نفسه، أن المقادير والأوزان في السابق حيث لم تكن توجد أجهزة متطورة، كانت مبنية على تشكيكية الموضوع له وعلى وجوده المنبسط ووجوده السعي أو المطاطي، وتشهد لذلك تصريحات الفقهاء واللغويين كافة في بيان حقيقة الفرسخ والرطل ونحوهما.
وهذه بعض الشواهد فقد جاء في تذكرة الفقهاء: (قد عرفت أن المسافة الموجبة للتقصير ثمانية فراسخ، والفراسخ عندهم ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد الذي طوله أربعة وعشرون إصبعا والإصبع سبع شعيرات عرضا وقيل ست والشعيرة سبع شعرات من شعر البرذون)[10]، وهذه التحديدات كلها تشكيكية بل هي من إرجاع أمر مشكك إلى أمر آخر مشكك فالميل أربعة آلاف ذراع، ومعلوم أن الأذرع، حتى المتوسطة، مختلفة، والذراع أربعة وعشرون أصبعاً، والأصبع سبع شعيرات والشعيرة سبع شعرات من البرذون، مع أن الأصبع مشكك وكذا حبة الشعير، وشعر البرذون... والمحصلة النهائية لذلك اختلاف الفرسخ اختلافاً فاحشاً بحسب ثخن شعرات البرذون المتوسطة، بعد إخراج غير المتعارفة كما هو واضح، وليس ذلك خطأ، بل الموضوع له، حسب المستظهر، هو الوجود السعي المنبسط عليها جميعاً.
هذا. وللبحث تتمة ودفع إشكالات فانتظر.
قال الإمام الباقر (عليه السلام): ((الْإِبْقَاءُ عَلَى الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ، قَالَ: وَمَا الْإِبْقَاءُ عَلَى الْعَمَلِ؟ قَالَ: يَصِلُ الرَّجُلُ بِصِلَةٍ، وَيُنْفِقُ نَفَقَةً لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَكُتِبَ لَهُ سِرّاً، ثُمَّ يَذْكُرُهَا وَتُمْحَى، فَتُكْتَبُ لَهُ عَلَانِيَةً، ثُمَّ يَذْكُرُهَا فَتُمْحَى وَتُكْتَبُ لَهُ رِيَاءً)) (الكافي: ج2 ص297)
أسئلة - لماذا يتقدم المعنى العرفي على اللغوي؟
- قال المجدد الشيرازي: (لكن مصير العلماء إلى معانيها اللغوية، إنما هو بسبب قيام قرينة عامة عندهم على إرادة المعاني اللغوية في الخطابات الشرعية من إجماع ونحوه)[11]، هل يوجد غير الإجماع قرينة عامة على سبب عدول العلماء عن المعاني العرفية؟ وهل هذا الإجماع حجة؟.
- عرّف الحقيقة الادعائية بحسب السكاكي، ولاحظ هل يتطابق مع ما عرّفناها به؟
- هل الاحتمال السابع قسيم للمعنى الخامس أو مكمل له؟
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
-------------------------------------
[1] الطهارة، بفروعها.
[2] فقد ورد مثلاً عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: ((مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، مَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسَاقٍ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعاً، فَذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةِ صَاعٍ، فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ يُسْقَى بِالرِّشَاءِ وَالدَّوَالِي وَالنَّوَاضِحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَا سَقَتِ السَّمَاءُ أَوِ السَّيْحُ أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ تَامّاً، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِمِائَةِ صَاعٍ شَيْءٌ، وَلَيْسَ فِيمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ شَيْءٌ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ)) (تهذيب الأحكام: ج4 ص14).
[3] الكافي: ج3 ص515.
[4] الكافي: ج3 ص535.
[5] إذ البحث في المعنى الحقيقي الذي ينصب عليه كلام الشارع من دون قرينة.
[6] أي بالقليل، غير الفاحش.
[7] تقريرات المجدد الشيرازي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث: ج1 ص232.
[8] أو مشتركاً معنوياً.
[9] وعلى انه غير موضوع له.
[10] تذكرة الفقهاء: ج1 ص188.
[11] تقريرات المجدد الشيرازي، موسسة آل البیت علیهمالسلام لإحیاء التراث: ج1 ص232.