004- الحقيقة العرفية: الوجود المنبسط - للأوزان والمقادير والطهارة وغيرها
الأربعاء 14 ربيع الأول 1446هـــ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(4)
شواهد على أن الموضوع له هو الوجود المنبسط
والذي ذكرناه أو نذكره من الشواهد الآتية هي أدلة على المدعى وليست أمثلة، والفرق أن المثال لاحق والدليل سابق فبالدليل نشيد المبنى، في كون كثير من عناوين موضوعات الأحكام، في الفرسخ والرطل والطهارة و...، عرفية وكون كثير منها مأخوذة بنحو الوجود المنبسط في الكر ونظائره بل والفرسخ والرطل والطهارة والنجاسة... إلخ
ومن الشواهد: ما ذكره القاموس المحيط: (الـمِيل بالكسر: الملمول، وقدر مدّ البصر، ومنار يبنى للمسافر، أو مسافة من الأرض متراخية بلا حد أو مائة ألف إصبع إلا أربعة آلاف إصبع) ومن البديهي أن مد البصر، للمتوسط من الناس مختلف، فالموضوع له هو الوجود المنبسط لا الحدي وكذا حال المسافة المتراخية بلا حد...
ومنها: ما ذكره بعض الخبراء من (وعليه: فلو كان الفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة وتسعون ألف إصبع، وبما أن الإصبع العربي يعادل سنتميترين تقريباً، فيكون الميل 1.92 كيلو متراً، والفرسخ 5.76 كيلو متراً، وهذا التحديد هو الموافق للأصل عند الشك) فلاحظ قوله (تقريباً) فهذا الوجود التقريبي – المطاطي هو الموضوع له.
وقال بعضهم: (اختلف أهل العلم في مقدار الرطل العراقي بالدرهم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الرطل البغدادي يساوي مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع 4/7 128 درهم، وإلى هذا ذهب الشافعية[1]، والحنابلة[2].
القول الثاني: أن الرطل البغدادي يساوي مائة وثمانية وعشرون درهماً، وإلى هذا ذهب المالكية[3].
القول الثالث: أن الرطل البغدادي يساوي مائة وثلاثين درهما 130 وإلى هذا ذهب الحنفية[4])[5].
وقال الفيومي: (وهو بالبغدادي إثنتا عشرة أوقية، والأوقية إستار وثلث إستار، والإستار أربعة مثاقيل ونصف مثقال، والمثقال درهم وثلاثة أسباع، والدرهم ستة دوانق، والدانق ثمان حبات وخمس حبة، وعلى هذا فالرطل تسعون مثقالاً، وهي مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم)[6].
والشاهد ان الرطل هو، على ما ذكره 4/7, 128 الدرهم، وكل درهم ستة دوانق والدانق ثمان حبات وخمس حبة، والحبة، المقصود بها حبة الحنطة، ولا شك أن المتوسط منها مختلف...
وعليه: فالمجعول له هو الوجود المنبسط على درجات الحب المختلفة.
الثمرة: التحديدات المختلفة صحيحة وليست متعارضة
والعمدة: الثمرة في ذلك إذ عليه: فإن كل التحديدات[7] صحيحة وليست متعارضة إذ التعارض فرع كونها حدّية، كما في الكيلو المعاصر المحدد بالدقة بالغرام والغرام محدد بدقة بأجزاء أصغر مشخصة علمياً[8]، لكن الرطل والفرسخ ونظائرهما، كما ظهر مما سبق، ليست محددة بتحديد دقي فلسفي بل إنما هي محددة بتحديد تشكيكي منبسط له عرض يشمل الحد الأدنى والأوسط والأعلى، من متوسط حبات الحنطة والشعير وشعر البرذون... إلخ.
وعليه: فعالم الثبوت والموضوع له واسع، فكل الآراء التي تدور في هذه الدائرة صحيحة، مادام بعضها يشير إلى الحد الأدنى من المتوسط والبعض يشير إلى الحد الأوسط من المتوسط والبعض يشير إلى الحد الأعلى منه، نعم الخارج عما بين الحدين خارج عن الموضوع له.
ولذا نرى أن تحديد بعضهم الرطل بالغرام، كما جاء في معجم ألفاظ الفقه الجعفري (الرطل: بكسر الراء وفتحها، الذي يوزن به.... (a weight) Ratl * الرطل العراقي: 4، 7 128 درهما: 5، 407 غراما وهو المراد بكلام الفقهاء عند كلامهم على أوزان غير الفضة)[9]، غلط إن أريد به البشرط لائية عن الأقل والأكثر[10]، وذلك لأن الأمر في التحديدات زمن الشارع وما قبله وما بعده لم يكن مبنياً إلا على الوجود السعي، كما سبق.
الوضع لغةً للوجود السّعي
بل ظهر مما سبق أن الوضع لغةً هو كذلك، أي للوجود السعي، وليس جَرْي العرف عليه من المنقول بالوضع التعيّني، بل هو على حسب مرتكزهم عمن تلقوه عمن تلقاه من واضع اللغة، على انه لو كان كذلك[11] لما أضر، لما سبق الاستدلال عليه من صحة الحمل وعدم صحة السلب إلخ.
بل ان القول بأن المعنى المحدد الفلسفي هو الموضوع له لغةً، غير معقول في تلك الأزمنة نظراً لعدم وجود الأجهزة الدقيقة، على أن ذلك لو أمكن فإنما يمكن لو كان واضع هذه الأوزان والمقادير بما لها من التحديدات السابقة[12] هو خبراء الرياضيات، والحساب والهندسة، ودون إثباته خرط القتاد، على أن الواضع أياً كان فإن طريقنا إليه هو العرف العام واللغويون، وكما مضى فإن الفقهاء واللغويين مطبقون على أن الموضوع له هو الفرسخ المقدر بالأميال والأذرع والأصابع والشعيرات وشعرات البرذون... إلخ وكلها ذات وجود مشكك أومنبسط وسعي.
المهذب: الطهارة و... عرفية ذات مراتب
وقد بنى السيد السبزواري في المهذب على كلا الأمرين، في الطهارة والنجاسة، أي على كونهما معنيين عرفيين (وليسا حقيقة شرعية، ولا لغوية مغايرة للعرف) وعلى انهما أمران مشككان ذوي مراتب، وإن لم يحلله بالتحليل الذي ذكرناه ولم يستشهد عليه به، لكن ارتكازه الفقهي – والعرفي هو الذي ساقه إليه، قال: (والطهارة وما يقابلها، من الأمور المتعارفة في جميع الأزمان وفي كل الأديان، والاختلاف إنما هو في المصاديق فقط، فربما يكون شيء طاهراً عند قوم وقذراً عند آخرين، وذلك لا ينافي معهودية أصلهما لدى العقلاء كافة في الجملة.
ولم يرد من الشارع جعل وتأسيس بالنسبة إلى أصل الطهارة والنجاسة.
نعم، كشف عن طهارة أمور لم يتنبّه لها الناس وعن نجاسة أشياء غفل عنها العامة.
الثاني: لا ريب في أنّ لهما مراتب متفاوتة جداً – من الحدثية والخبثية، والمعنوية والظاهرية – ولكل منها درجات مختلفة شدة وضعفاً وما كان كذلك فالتحديد الحقيقي له – بحيث يشمل تمام مراتبه ودرجاته – مشكل، ولذا اختلفت كلمات الفقهاء (قدست أسرارهم) في تحديدهما)[13].
نعم في كلامه مناقشات أخرى:
منها: ان قوله (والاختلاف إنما هو في المصاديق فقط) فيه: ان الاختلاف قد يكون في سعة المفهوم وضيقه.
ومنها: ان التحديد الحقيقي الدقي ممتنع لا انه مشكل، إذ الموضوع له، كما سبق هو الوجود التشكيكي المنبسط لا الدقي، فتأمل. ولكن المناقشات لا تضر بأصل الاستشهاد به.
تنبيه: سيأتي الجواب عما ذكره بعض الفقهاء من عدم التشكيك في الاعتباريات.
واختلاف تحديدات الكرّ، صغرى المقام
وعلى ضوء ذلك يتضح أن اختلاف الفقهاء في تحديد الكر بالكيلو إن قلنا بالمسلك المشهور كان اختلافاً حقيقياً وتعارضاً، وأما على مسلكنا فكل الأقوال صحيحة مادامت تدور في فلك الوجود المنبسط[14].
فمثلاً حدّد الأستاذ السيد الوالد (قدس سره) في الفقه والأستاذ الشيخ الوحيد الخراساني وآخرون الكر بـ 377 كيلواً إلا يسيراً (بالمثقال النجفي) وحدّده الشيخ الفياض بـ 399 كيلواً وحدّده السيد سعيد الحكيم (قدس سره) بـ 464 كيلواً، فعلى الحدية فإن الأقوال متعارضة، فاللازم إما الرجوع إلى المرجحات[15] وإلا فالتساقط والرجوع إلى الأصل العام الفوقاني، وهو المشهور، وإما التخيير كما هو المختار لدى التعارض.
ولكن بناءً على كون الموضوع له هو الوجود السعي فكل المتقاربات منها صحيحة والتخيير بينها واقعي لا ظاهري.
ويصلح ما ذكرناه توجيهاً لمبنى السيد ابن طاووس (قدس سره) في اختلاف روايات الكر وبه يجاب عن إشكال الشيخ المرتضى (قدس سره) عليه إذ وردت في الكر بحسب المساحة أقوال بلغة الثمانية وبحسب الوزن اختلفت الأقوال أيضاً.
لكن مختار السيد ابن طاووس هو، على ما نقله السيد الوالد في الفقه: (ما حكي عن السيد ابن طاووس (رحمه الله) من التخيير بين الروايات ولكن قال شيخنا المرتضى (رحمه الله): "فإن أراد الظاهري فله وجه، وإن أراد الواقعي وحمل الزائد على الاستحباب، فلا يعرف له وجه"[16] انتهى)[17].
أقول: قوله بأن التخيير الظاهري له وجه، وجهه هو ما ذهب إليه غير المشهور من عدم التساقط لدى التعارض، وأما قوله (قدس سره) (لا يعرف له وجه) فقد يجاب بأن وجهه قد يكون ما ذكرناه من كون الوجود السعي للكر هو العاصم وهو وجه حسن، لو تم، لتوجيه القول بالتخيير الواقعي بضميمة الالتزام بكون الحد الأعلى والأوسط، من المتوسط، هو الأفضل في التنزه والتطهير، فإن العرف كذلك يجمع في مثل ذلك.
لا يقال: أن الوجود السعي لو كان هو الموضوع له، لأجزأ أدنى المراتب[18]؟.
إذ يقال: ان ذلك لكذلك، ولكن:
أولاً: الإجزاء كلام في الحكم، وكلامنا عن الموضوع أي الموضوع له في الكر أو الفرسخ... إلخ وأن الوجود السعي يشمل أدنى المراتب كقسيميه، فمن لم يقل بنظرية الوجود المنبسط للموضوع له، عليه أن يلتزم إما بأن الكر موضوع للجامع بين المراتب الثلاثة (المتوسط والزائد والناقص غير الفاحش ماداما في دائرة المتوسط) – كما هو مفاد الاحتمال الثالث والرابع الآنفين في الدرس السابق، أو أن يقول بالمجاز في غير الحد الأدنى من المتوسط، فعليه إقامة الدليل على إجزائهما والقرينة على إلحاقهما وإلا فعليه أن يقول بالوجود المنبسط كما ذكرنا أو يقول بالجامع، وعلى كل منهما يثبت المقصود من سعة الموضوع له في الأوزان والمقادير (والطهارة والنجاسة)، كما سيأتي مزيد إيضاح.
ثانياً: انه وإن أجزا أدنى المراتب، لكن الأوسط والأعلى يحمل على الفضل والاستحباب كما سبق.
الثمرة المنطقية للبحث
تنبيه: ظهرت من مطاوي الكلام الثمرة المنطقية للبحث وهي أن المنطقيين قالوا ان المشترك إما لفظي أو معنوي، فيجب أن نضيف لهما: أو مشترك تشكيكي.
والأول: إذا تعدد الوضع بأن كان لحقائق متباينة أو للأقل والأكثر مع كونه بشرط لا عن الآخر، ومرجعه إلى التباين أيضاً.
والثاني: فيما إذا وضع اللفظ للجامع.
والثالث: فيما إذا وضع اللفظ، كالفرسخ والرطل، للوجود السعي.
وفرقهما أن الثاني من دائرة الكلي والجزئي (إذ الجامع كلي له أفراد) والثالث من دائرة الوجود الشخصي لكن ذو مراتب، وإن شئت فقل الثاني مبني على أصالة الماهية والثالث على أصالة الوجود.
تنبيه: وظهر أيضاً أن مثل النور يندرج في الثاني والثالث معاً بلحاظين، ففي الثاني بلحاظ كونه كلياً له أفراد وفي الثالث بلحاظ أن كل فرد من أفراده حقيقة تشكيكية ذات مراتب فينطبق على جميع المراتب بما له من الوجود السعي مع انه ليس بالنسبة لهما مشتركاً لفظياً ولا معنوياً (بما هي مراتب، لا بما هي أفراد، فتدبر).
هذا. وللبحث مزيد إيضاح ودفع إشكالات فانتظر.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ سُوءاً أَمْسَكَ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ حَتَّى يُوَافِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) (الكافي: ج2 ص445)
أسئلة:
– ابحث عن وجه آخر لتوجيه كلام السيد ابن طاووس (قدس سره).
- أوضح: لماذا لا يختلف البحث بناءً على دعوى أن الموضوع له هو الوجود السعي للأوزان والمقادير، حتى على القول بأن واضع اللغة هو الله تعالى أو آدم بتعليمه {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُوني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين} (سورة البقرة: الآية 31) مع أن الله تعالى محيط بالدقيق من الأمور أشد من إحاطة العلم والأجهزة الحديثة بها؟
- اذكر أدلة غير المشهور على أن المرجع عند تعارض الأدلة هو التخيير لا التساقط.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
-------------------------------------
[1] ينظر: حاشية المحلى على المنهاج 2/16 و 17.
[2] ينظر: المغني 1/295.
[3] ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ 2/131، والشرح ا لكبير 1/447.
[4] ينظر: فتح القدير 2/41، وحاشية ابن عابدين 2/76.
[5] من موقع الاجتهاد http://ijtihadnet.net/
[6] المصباح المنير ص/88.
[7] الدائرة في ذلك الإطار.
[8] الغرام يساوي ألف مليغرام... إلخ.
[9] المصطلحات، إعداد مركز المعجم الفقهي: ص1138.
[10] من 407.5 غراماً.
[11] المنقول تعيّناً.
[12] بكذا من شعر البرذون، وحبات الحنطة... إلخ.
[13] السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذب الأحكام، دار التفسير ـ قم: ج1 ص120.
[14] في هذا القيد دفع دخل فانتبه.
[15] ككون أحدهم أكثر خبروية، وشبه ذلك.
[16] كتاب الطهارة: ص25 سطر 6.
[17] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص283.
[18] في عاصمية الكر و...
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(4)
شواهد على أن الموضوع له هو الوجود المنبسط
والذي ذكرناه أو نذكره من الشواهد الآتية هي أدلة على المدعى وليست أمثلة، والفرق أن المثال لاحق والدليل سابق فبالدليل نشيد المبنى، في كون كثير من عناوين موضوعات الأحكام، في الفرسخ والرطل والطهارة و...، عرفية وكون كثير منها مأخوذة بنحو الوجود المنبسط في الكر ونظائره بل والفرسخ والرطل والطهارة والنجاسة... إلخ
ومن الشواهد: ما ذكره القاموس المحيط: (الـمِيل بالكسر: الملمول، وقدر مدّ البصر، ومنار يبنى للمسافر، أو مسافة من الأرض متراخية بلا حد أو مائة ألف إصبع إلا أربعة آلاف إصبع) ومن البديهي أن مد البصر، للمتوسط من الناس مختلف، فالموضوع له هو الوجود المنبسط لا الحدي وكذا حال المسافة المتراخية بلا حد...
ومنها: ما ذكره بعض الخبراء من (وعليه: فلو كان الفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة وتسعون ألف إصبع، وبما أن الإصبع العربي يعادل سنتميترين تقريباً، فيكون الميل 1.92 كيلو متراً، والفرسخ 5.76 كيلو متراً، وهذا التحديد هو الموافق للأصل عند الشك) فلاحظ قوله (تقريباً) فهذا الوجود التقريبي – المطاطي هو الموضوع له.
وقال بعضهم: (اختلف أهل العلم في مقدار الرطل العراقي بالدرهم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الرطل البغدادي يساوي مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع 4/7 128 درهم، وإلى هذا ذهب الشافعية[1]، والحنابلة[2].
القول الثاني: أن الرطل البغدادي يساوي مائة وثمانية وعشرون درهماً، وإلى هذا ذهب المالكية[3].
القول الثالث: أن الرطل البغدادي يساوي مائة وثلاثين درهما 130 وإلى هذا ذهب الحنفية[4])[5].
وقال الفيومي: (وهو بالبغدادي إثنتا عشرة أوقية، والأوقية إستار وثلث إستار، والإستار أربعة مثاقيل ونصف مثقال، والمثقال درهم وثلاثة أسباع، والدرهم ستة دوانق، والدانق ثمان حبات وخمس حبة، وعلى هذا فالرطل تسعون مثقالاً، وهي مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم)[6].
والشاهد ان الرطل هو، على ما ذكره 4/7, 128 الدرهم، وكل درهم ستة دوانق والدانق ثمان حبات وخمس حبة، والحبة، المقصود بها حبة الحنطة، ولا شك أن المتوسط منها مختلف...
وعليه: فالمجعول له هو الوجود المنبسط على درجات الحب المختلفة.
الثمرة: التحديدات المختلفة صحيحة وليست متعارضة
والعمدة: الثمرة في ذلك إذ عليه: فإن كل التحديدات[7] صحيحة وليست متعارضة إذ التعارض فرع كونها حدّية، كما في الكيلو المعاصر المحدد بالدقة بالغرام والغرام محدد بدقة بأجزاء أصغر مشخصة علمياً[8]، لكن الرطل والفرسخ ونظائرهما، كما ظهر مما سبق، ليست محددة بتحديد دقي فلسفي بل إنما هي محددة بتحديد تشكيكي منبسط له عرض يشمل الحد الأدنى والأوسط والأعلى، من متوسط حبات الحنطة والشعير وشعر البرذون... إلخ.
وعليه: فعالم الثبوت والموضوع له واسع، فكل الآراء التي تدور في هذه الدائرة صحيحة، مادام بعضها يشير إلى الحد الأدنى من المتوسط والبعض يشير إلى الحد الأوسط من المتوسط والبعض يشير إلى الحد الأعلى منه، نعم الخارج عما بين الحدين خارج عن الموضوع له.
ولذا نرى أن تحديد بعضهم الرطل بالغرام، كما جاء في معجم ألفاظ الفقه الجعفري (الرطل: بكسر الراء وفتحها، الذي يوزن به.... (a weight) Ratl * الرطل العراقي: 4، 7 128 درهما: 5، 407 غراما وهو المراد بكلام الفقهاء عند كلامهم على أوزان غير الفضة)[9]، غلط إن أريد به البشرط لائية عن الأقل والأكثر[10]، وذلك لأن الأمر في التحديدات زمن الشارع وما قبله وما بعده لم يكن مبنياً إلا على الوجود السعي، كما سبق.
الوضع لغةً للوجود السّعي
بل ظهر مما سبق أن الوضع لغةً هو كذلك، أي للوجود السعي، وليس جَرْي العرف عليه من المنقول بالوضع التعيّني، بل هو على حسب مرتكزهم عمن تلقوه عمن تلقاه من واضع اللغة، على انه لو كان كذلك[11] لما أضر، لما سبق الاستدلال عليه من صحة الحمل وعدم صحة السلب إلخ.
بل ان القول بأن المعنى المحدد الفلسفي هو الموضوع له لغةً، غير معقول في تلك الأزمنة نظراً لعدم وجود الأجهزة الدقيقة، على أن ذلك لو أمكن فإنما يمكن لو كان واضع هذه الأوزان والمقادير بما لها من التحديدات السابقة[12] هو خبراء الرياضيات، والحساب والهندسة، ودون إثباته خرط القتاد، على أن الواضع أياً كان فإن طريقنا إليه هو العرف العام واللغويون، وكما مضى فإن الفقهاء واللغويين مطبقون على أن الموضوع له هو الفرسخ المقدر بالأميال والأذرع والأصابع والشعيرات وشعرات البرذون... إلخ وكلها ذات وجود مشكك أومنبسط وسعي.
المهذب: الطهارة و... عرفية ذات مراتب
وقد بنى السيد السبزواري في المهذب على كلا الأمرين، في الطهارة والنجاسة، أي على كونهما معنيين عرفيين (وليسا حقيقة شرعية، ولا لغوية مغايرة للعرف) وعلى انهما أمران مشككان ذوي مراتب، وإن لم يحلله بالتحليل الذي ذكرناه ولم يستشهد عليه به، لكن ارتكازه الفقهي – والعرفي هو الذي ساقه إليه، قال: (والطهارة وما يقابلها، من الأمور المتعارفة في جميع الأزمان وفي كل الأديان، والاختلاف إنما هو في المصاديق فقط، فربما يكون شيء طاهراً عند قوم وقذراً عند آخرين، وذلك لا ينافي معهودية أصلهما لدى العقلاء كافة في الجملة.
ولم يرد من الشارع جعل وتأسيس بالنسبة إلى أصل الطهارة والنجاسة.
نعم، كشف عن طهارة أمور لم يتنبّه لها الناس وعن نجاسة أشياء غفل عنها العامة.
الثاني: لا ريب في أنّ لهما مراتب متفاوتة جداً – من الحدثية والخبثية، والمعنوية والظاهرية – ولكل منها درجات مختلفة شدة وضعفاً وما كان كذلك فالتحديد الحقيقي له – بحيث يشمل تمام مراتبه ودرجاته – مشكل، ولذا اختلفت كلمات الفقهاء (قدست أسرارهم) في تحديدهما)[13].
نعم في كلامه مناقشات أخرى:
منها: ان قوله (والاختلاف إنما هو في المصاديق فقط) فيه: ان الاختلاف قد يكون في سعة المفهوم وضيقه.
ومنها: ان التحديد الحقيقي الدقي ممتنع لا انه مشكل، إذ الموضوع له، كما سبق هو الوجود التشكيكي المنبسط لا الدقي، فتأمل. ولكن المناقشات لا تضر بأصل الاستشهاد به.
تنبيه: سيأتي الجواب عما ذكره بعض الفقهاء من عدم التشكيك في الاعتباريات.
واختلاف تحديدات الكرّ، صغرى المقام
وعلى ضوء ذلك يتضح أن اختلاف الفقهاء في تحديد الكر بالكيلو إن قلنا بالمسلك المشهور كان اختلافاً حقيقياً وتعارضاً، وأما على مسلكنا فكل الأقوال صحيحة مادامت تدور في فلك الوجود المنبسط[14].
فمثلاً حدّد الأستاذ السيد الوالد (قدس سره) في الفقه والأستاذ الشيخ الوحيد الخراساني وآخرون الكر بـ 377 كيلواً إلا يسيراً (بالمثقال النجفي) وحدّده الشيخ الفياض بـ 399 كيلواً وحدّده السيد سعيد الحكيم (قدس سره) بـ 464 كيلواً، فعلى الحدية فإن الأقوال متعارضة، فاللازم إما الرجوع إلى المرجحات[15] وإلا فالتساقط والرجوع إلى الأصل العام الفوقاني، وهو المشهور، وإما التخيير كما هو المختار لدى التعارض.
ولكن بناءً على كون الموضوع له هو الوجود السعي فكل المتقاربات منها صحيحة والتخيير بينها واقعي لا ظاهري.
ويصلح ما ذكرناه توجيهاً لمبنى السيد ابن طاووس (قدس سره) في اختلاف روايات الكر وبه يجاب عن إشكال الشيخ المرتضى (قدس سره) عليه إذ وردت في الكر بحسب المساحة أقوال بلغة الثمانية وبحسب الوزن اختلفت الأقوال أيضاً.
لكن مختار السيد ابن طاووس هو، على ما نقله السيد الوالد في الفقه: (ما حكي عن السيد ابن طاووس (رحمه الله) من التخيير بين الروايات ولكن قال شيخنا المرتضى (رحمه الله): "فإن أراد الظاهري فله وجه، وإن أراد الواقعي وحمل الزائد على الاستحباب، فلا يعرف له وجه"[16] انتهى)[17].
أقول: قوله بأن التخيير الظاهري له وجه، وجهه هو ما ذهب إليه غير المشهور من عدم التساقط لدى التعارض، وأما قوله (قدس سره) (لا يعرف له وجه) فقد يجاب بأن وجهه قد يكون ما ذكرناه من كون الوجود السعي للكر هو العاصم وهو وجه حسن، لو تم، لتوجيه القول بالتخيير الواقعي بضميمة الالتزام بكون الحد الأعلى والأوسط، من المتوسط، هو الأفضل في التنزه والتطهير، فإن العرف كذلك يجمع في مثل ذلك.
لا يقال: أن الوجود السعي لو كان هو الموضوع له، لأجزأ أدنى المراتب[18]؟.
إذ يقال: ان ذلك لكذلك، ولكن:
أولاً: الإجزاء كلام في الحكم، وكلامنا عن الموضوع أي الموضوع له في الكر أو الفرسخ... إلخ وأن الوجود السعي يشمل أدنى المراتب كقسيميه، فمن لم يقل بنظرية الوجود المنبسط للموضوع له، عليه أن يلتزم إما بأن الكر موضوع للجامع بين المراتب الثلاثة (المتوسط والزائد والناقص غير الفاحش ماداما في دائرة المتوسط) – كما هو مفاد الاحتمال الثالث والرابع الآنفين في الدرس السابق، أو أن يقول بالمجاز في غير الحد الأدنى من المتوسط، فعليه إقامة الدليل على إجزائهما والقرينة على إلحاقهما وإلا فعليه أن يقول بالوجود المنبسط كما ذكرنا أو يقول بالجامع، وعلى كل منهما يثبت المقصود من سعة الموضوع له في الأوزان والمقادير (والطهارة والنجاسة)، كما سيأتي مزيد إيضاح.
ثانياً: انه وإن أجزا أدنى المراتب، لكن الأوسط والأعلى يحمل على الفضل والاستحباب كما سبق.
الثمرة المنطقية للبحث
تنبيه: ظهرت من مطاوي الكلام الثمرة المنطقية للبحث وهي أن المنطقيين قالوا ان المشترك إما لفظي أو معنوي، فيجب أن نضيف لهما: أو مشترك تشكيكي.
والأول: إذا تعدد الوضع بأن كان لحقائق متباينة أو للأقل والأكثر مع كونه بشرط لا عن الآخر، ومرجعه إلى التباين أيضاً.
والثاني: فيما إذا وضع اللفظ للجامع.
والثالث: فيما إذا وضع اللفظ، كالفرسخ والرطل، للوجود السعي.
وفرقهما أن الثاني من دائرة الكلي والجزئي (إذ الجامع كلي له أفراد) والثالث من دائرة الوجود الشخصي لكن ذو مراتب، وإن شئت فقل الثاني مبني على أصالة الماهية والثالث على أصالة الوجود.
تنبيه: وظهر أيضاً أن مثل النور يندرج في الثاني والثالث معاً بلحاظين، ففي الثاني بلحاظ كونه كلياً له أفراد وفي الثالث بلحاظ أن كل فرد من أفراده حقيقة تشكيكية ذات مراتب فينطبق على جميع المراتب بما له من الوجود السعي مع انه ليس بالنسبة لهما مشتركاً لفظياً ولا معنوياً (بما هي مراتب، لا بما هي أفراد، فتدبر).
هذا. وللبحث مزيد إيضاح ودفع إشكالات فانتظر.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ سُوءاً أَمْسَكَ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ حَتَّى يُوَافِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) (الكافي: ج2 ص445)
أسئلة:
– ابحث عن وجه آخر لتوجيه كلام السيد ابن طاووس (قدس سره).
- أوضح: لماذا لا يختلف البحث بناءً على دعوى أن الموضوع له هو الوجود السعي للأوزان والمقادير، حتى على القول بأن واضع اللغة هو الله تعالى أو آدم بتعليمه {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُوني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين} (سورة البقرة: الآية 31) مع أن الله تعالى محيط بالدقيق من الأمور أشد من إحاطة العلم والأجهزة الحديثة بها؟
- اذكر أدلة غير المشهور على أن المرجع عند تعارض الأدلة هو التخيير لا التساقط.
[2] ينظر: المغني 1/295.
[3] ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ 2/131، والشرح ا لكبير 1/447.
[4] ينظر: فتح القدير 2/41، وحاشية ابن عابدين 2/76.
[5] من موقع الاجتهاد http://ijtihadnet.net/
[6] المصباح المنير ص/88.
[7] الدائرة في ذلك الإطار.
[8] الغرام يساوي ألف مليغرام... إلخ.
[9] المصطلحات، إعداد مركز المعجم الفقهي: ص1138.
[10] من 407.5 غراماً.
[11] المنقول تعيّناً.
[12] بكذا من شعر البرذون، وحبات الحنطة... إلخ.
[13] السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذب الأحكام، دار التفسير ـ قم: ج1 ص120.
[14] في هذا القيد دفع دخل فانتبه.
[15] ككون أحدهم أكثر خبروية، وشبه ذلك.
[16] كتاب الطهارة: ص25 سطر 6.
[17] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص283.
[18] في عاصمية الكر و...