بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
برهان الشيخ على عدم حمل المطلق على المقيد في الوضعيين
سبق كلام الشيخ في مطارح الأنظار:
قال (قدس سره): (هداية في حكم المطلق والمقيد الواردين في مقام بيان الأحكام الوضعية
قد عرفت حكم المطلق والمقيد الواردين في مقام بيان الحكم التكليفي، وأما حكمه في مقام بيان الأحكام الوضعية فالظاهر منهم عدم الحمل[1]، فلو قيل البيع سبب والبيع العربي سبب، يحمل على مشروعية المطلق والمقيد معاً بل لا يكتفي بذلك ويقال بأن السّبب كل واحد من أفراد البيع على وجه العموم الاستغراقي.
فيطالب[2] بالفرق بين الأحكام التكليفية وغيرها من حيث الحمل فيها وعدمه في الوضعية)[3].
وقال: (والجواب إن استظهرنا عدم ورود المطلق في مقام البيان فعلى المختار لا وجه لعدم الحمل ولا نقول به ولا ضير فيه.
وإن استظهرنا وروده في مقامه، فالفرق إنما جاء من خصوص الحكم والمحمول فإن المحمولات مختلفة جدّا، فتارة يكون ثبوت المحمول للموضوع على وجه التخيير مفيداً في مقام البيان كالوجوب، فإن ثبوته لما هو محمول له كالصّلاة على وجه التخيير مما لا غائلة فيه ولا إشكال في كونه مفيداً كما يظهر بالرجوع إلى العرف، وتارة يكون ثبوته له على وجه العموم مفيداً وعلى وجه التخيير لا يعدّ مفيداً وهو ينافي كونه في مقام البيان والإفادة فيصرف بحكم العقل والعادة إلى العموم مثل السببية والمانعية ونحوهما من الأمور التي لا وجه للأخبار بثبوتها على وجه التخيير والإجمال في مقام البيان)[4].
المناقشة: الصور ثلاثة ووِزان الوضعيين كوِزان التكليفيين
ولكن قد يورد عليه: ان الصور ثلاثة، وليست اثنتين، وعليه فإن تفريقه غير فارق، فإن وِزان الحكمين الوضعيين كوِزان التكليفيين الإلزاميين لو وُحِّدت صورتاهما، كما هو مقتضى القاعدة، توضيحه:
انه في مطلق الأحكام الإلزامية كالوجوب مثلاً، في قوله اعتق رقبة مثلاً، يمكن ثبوتاً ويحتمل إثباتاً أن يكون المراد أحد أمور:
أ- أن يكون المراد اعتق رقبة ما أي مجهولة أو مجملة (على أن يبينها لاحقاً مثلاً أو لكي يحتاط إن لم يصله بيان).
ب- أن يكون المراد اعتق رقبة من الرقاب على سبيل البدل، وهو التخيير فيفيد الوجوب التخييري.
ج- أن يكون المراد وجوب عتق الرقبة على سبيل الجمع، أي اعتق كل الرقاب.
لكن الأخير خلاف الظاهر جداً، فهو إما غلط أو مجاز، والأول خلاف كونه في مقام البيان، فبقي الأوسط.
وكذلك الحال في السبب والمانع والشرط وغيرها من الأحكام الوضعية فإنه إذا قال: (البيع سبب) فالممكن ثلاثة صور:
أ- أن يكون المراد أن بيعاً ما سبب، أي بيعٌ مجهول أو مجمل سبب.
ب- أن يكون المراد أن كل بيع على سبيل البدل فهو سبب وهو التخيير، أي انه يفيد تخيير المكلف بين من أفراد البيع فله أن يختار ما يشاء، بأن يبيع بالعربية أو الفارسية أو التركية مثلاً، في هذا المكان أو الزمان أو ذاك، لهذا الرجل أو ذاك، بشرط أو بغيره، نقداً أو نسيئة أو سلماً،... إلخ.
ج- أن يكون المراد أن البيوع كلها بشرط الاجتماع سبب، أي لا يكفي البيع مرة لحصول النقل بل لا بد منه مرة ثانية بالفارسية وثالثة بالتركية أو مرة الآن وأخرى بعد ساعة.. إلخ.
لكن الأخير خلاف الظاهر جداً فهو إما غلط أو مجاز، والأول خلاف كونه في مقام البيان فبقي الأوسط.
وكما لوحظ فإن وِزانهما، التكليفيين والوضعيين وِزان واحد.. وكان المفترض أن يقيس الشيخ (قدس سره) الصورة الثانية من السبب بالصورة الثانية من الوجوب، فيظهر حينئذٍ بوضوح تساوي وزنهما، لكنه حمل الوجوب على الصورة الثانية وحمل السبب على الصورة الأولى ففرّق بينهما، ولو عكس لانعكس الأمر.
بعبارة أخرى: كما ان قوله: بيعٌ مبهمٌ (أو بيع ما – أو بيع مجمل) سببٌ، غير مفيد بل هو خلف إذا فرض كونه في مقام البيان، كذلك قوله (أعتق رقبةً مبهمةً – أو أعتق رقبةً ما – أو: عتقٌ مجملٌ أو رقبةٌ مجملة عتقها، واجب)، غير مفيد بل هو خلف؛ إذ فرض كونه في مقام البيان.
وكما ان قوله (أعتق رقبة، على سبيل البدل – أي مخيّراً، واجب) مفيد وهو بيان لوجوب كل فرد منها على سبيل البدل وانه مخير، كذلك قوله: (البيع على سبيل البدل، أي مخيراً بين افراده، سبب النقل) مفيد، وهو بيان لسببية كل منها على سبيل البدل.
والذين يقولون بحمل المطلق على المقيد في الوضعيين المثبتين، لهم أن يقولوا: ان قوله (البيع سبب) يراد به الصورة الثانية، فلا خلف ولا لغوية، كما كان لهم أن يقولوا: أن قوله اعتق رقبة يراد به الصورة الثانية فلا خلف ولا لغوية، بل ظاهر كليهما هو ذلك، مادام قد افترض كونه في مقام البيان.
نعم، كان ينبغي عليه (قدس سره) أن يقول، أو يدعي، ان ظاهر (البيع سبب) هو الصورة الأولى وان ظاهر (اعتق رقبة) الصورة الثانية. لكن فيه: ان ظاهر (البيع سبب) هو الصورة الثانية، بدون كلام.
ولعله يبدو، على ضوء ما قلناه، غريباً أن يفرِّق مثله، وقد ندر وجود مثله في دقة النظر، بما فرّق به مع وضوح الإشكال عليه بما سبق ولعله من المقرر أو من قصور البيان، والله العالم.
3- المشكيني: الظهور الانحلالي للمطلق أقوى من ظهور المقيد في القيد
ثالثاً: وأشكل المحقق المشكيني على استاذه بقوله: (وحاصل مراده: أنّ التعارض هنا - أيضاً - موقوف على العلم بالاتّحاد، وأنّ الجمع العرفي حمل المطلق على المقيّد.
ويرد على الأوّل:
أوّلا: أنّ الاتّحاد ليس علّة منحصرة للتعارض، بل يتحقّق من جهة جعل الحكم الوضعي للقيد: تارة في ضمن المطلق، وأخرى في دليل المقيّد المستلزم لاجتماع المثلين.
وثانياً: أنّ الاتّحاد معلوم في المقام دائما، كما مرّ في المنفيّين من التكليف، للانحلال هنا مطلقاً، مثبتين كانا أو منفيّين.
وعلى الثاني: منع كونه جمعاً عرفيّاً، لأنّ الحكم الوضعي: إمّا أن يكون مجعولا مستقلاّ، أو شيئاً كشف عنه الشارع وأخبر به، أو منتزعاً من التكليف، وعلى الأوّل - كما هو مختاره في كثير من المقامات - يحصل التعارض من الأخذ بظاهر الدليلين، للزوم اجتماع المثلين، والأمر يدور بين ما ذكره من الحمل وبين حمل القيد على فائدة أخرى من غلبة أو غيرها، لكن الظهور الإطلاقي الانحلالي أظهر عند العرف من ظهور القيد في كونه دخيلا في الحكم.
وكذلك على الثاني، كما هو واضح لمن تأمّل.
وأمّا الثالث: فلأنّه وإن كان بحسب اللُّبّ تابعاً للتكليف، ولذا قال الأستاذ: بأنّه لا بدّ من حمل المطلق - حينئذٍ - إلاّ أنّه في مقام الإثبات لـمّا كان بطريق العموم الانحلالي يقدّم على ظهور القيد عندهم، فالحقّ هو العمل بإطلاق المطلق في الحكم الوضعي مطلقاً، كما نقل[5] عن المشهور)[6].
وكلامه بحاجة إلى مزيد إيضاح نقتصر منه اليوم على كلمة منه وهو توضيح قوله (للزوم اجتماع المثلين) والذي رده بقوله (لكن الظهور الإطلاقي الانحلالي أظهر عند العرف من ظهور القيد في كونه دخيلا في الحكم)، فأقول: هنا إيضاح وتعليق:
كيف يلزم اجتماع المثلين من الحكم بالمطلق والمقيد المثبتين؟
أما الإيضاح: فهو انه يلزم اجتماع المثلين (أو الخلف) لأنه إذا كان المطلق هو السبب، لما كان القيد قيداً هذا خلف، فإذا كان قيداً فكيف يكون المطلق سبباً فإنه إذا كان المقيد سبباً بحده (أي بقيده) لما كان المطلق سبباً فإن كان المطلق سبباً مع ذلك لزم اجتماع المثلين إذ الشيء بشرط شيء (المقيد بحده) غير الشيء اللابشرط فإنه قسيمه فتدبر.
وكذا لو قلنا ان المقيد أي العقد بالعربية فقط هو السبب، فإنه لا يكون المطلق حينئذٍ سبباً (في ضمن فرده الآخر أي العقد بالفارسية) وإلا، أي إذا كان سبباً للزم الخلف (إذ يلزم لغوية القيد وعدم سببية المقيد بما هو مقيد) أو اجتماع المثلين.
قاعدة رفع الشبهات بالرجوع إلى الوجدان
وأما التعليق: - وهو مهم جداً، فهو انه (قدس سره) دَفَعَ شبهة اجتماع المثلين، بترجيح أحد المحتملين مستنداً إلى الظهور العرفي، والوجه العام فيه: ان العرف وإن لم يلتفت تفصيلاً إلى دقائق الإشكالات الفلسفية أو الشبهات الكلامية والأصولية، بل قد لا يفهمها حتى إذا شرحت له، فقد لا يفهم معنى الدور وانه توقف الشيء على ما يتوقف عليه مثلاً ولا يفهم فرقه عن الدور المعي الممكن، لكنه، بما أودع فيه من قوةٍ دّراكة للضروريات والأوليات، يدرك ان الدور محال، وإن لم يستطع تعرفية ويدرك ان الدور المعي ممكن وواقع، كما يدرك استحالة التسلسل بالفعل وفرقه عن التسلسل اللايقفي كما في مراتب الاعداد ونعيم الجنة، وإن لم يستطع تعريف أي منها تعريفاً جامعاً مانعاً.
كما يدرك بفطرته ان الإنسان، وسائر المخلوقات والممكنات، فقير بالذات، وانها كلها محتاجة في ذاتها وأفعالها إلى غيرها بل هي عين الربط والتعلق بعلتها، ( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميد)[7]، (إن الوجود رابط ورابطي / ثمت نفس فهاك واضبط)[8] ومن هنا يدرك الإنسان بفطرته انه لا يعقل وحدته مع واجب الوجود بالذات.. ومن هنا يردّ على من ادعى وحدة الوجود بل الموجود بشهادة الفطرة والوجدان بالبطلان وإن لم يستطع الجواب عن الشبهة بالبيان.. والذي أوقع بعض الفلاسفة في الشبهة هو عجز عقولهم عن ردّ شبهة استحالة وجود غيره جل اسمه وإلا لخلا وجوده منه فكان محدوداً... إلخ، والعقل قد يعجز عن جواب الشبهة، لكن الفطرة والوجدان هي نعم الحكم الفصل، لوضوح أن النظريات تعود إلى الضروريات، وهي أساس العلوم، وهي منغرسة في الذات خِلقةً، فلو احتاجت إلى برهان لزم الدور وعدم حصول العلم للإنسان أصلاً وهو واضح البطلان، نعم غاية الأمر حاجة الإنسان أحياناً إلى المنبّه.
والحاصل: ان السوفسطائي وكذا وحدة الموجودي ونظائرهما، كما لو قال شخص بإمكان الدور وإمكان خلق الشيء لنفسه وإمكان المعلول بلا علة، مهما جاء بأدلة (أي بصورة برهان) على انه (كل ما في الكون وهم أو خيال / أو عكوس في مرايا أو ظلال).[9] أو على (ليس في الدار غيره ديار) أو على الرشح ودوام الفيض وقوع العالم أو إمكان اجتماع النقيضين، كما ادعاه بعض الجدد مستدلين باجتماع النقيضين في عالم الكوانتم حيث تجتمع خواص المادة والطاقة (المتضادة أو المتناقضة) في الـجُسَيم الذي تكون له خواص الموجه وخواص المادة معاً، فإنه يكفي أن نجيبه بأنها شبهة في مقابل البديهة، فإن امكن للشخص الجواب بالبرهان، أي ما صورته البرهان، كان حسناً وإلا كفى الرد بذلك.
ومن هنا جرى داب العبد الفقير في البحوث الفلسفية، كبعض السابقة، والأصولية، كبحث استحالة الترتب كما ذهب إليه الشيخ أو إمكانه كما ذهب إليه تلميذه المجدد الشيرازي، أو بحث استحالة اجتماع الامر والنهي، أو غير ذلك، على الرجوع أولاً إلى الوجدان (وقطع النظر عن استدلالات الطرفين في هذه المرحلة) فإن وجدته ينطق بأمر (كما وجدته ينطق بإمكان الأمر المولوي بالمهم على تقدير عصيان الأهم بل بوقوعه من جميع الناس في مختلف المقامات) بنيت عليه، ثم انطلقت إلى الأدلة، وحاولت الجواب عن دليل مدعي الامتناع فإن امكننا ذلك (كما أوضحت الجواب في بحث سابق) وإلا اكتفيت بانه شبهة في مقابل البديهة، فلا أقبلها وإن لم استطع الجواب الفنّي عنها.
وإلا، فلو فتح هذا الباب، أي باب التمسك بالبرهان[10] في مقابل الوجدان، لما استقر حجر على حجر ولانتفى أساس العلوم، ومما يرشد إلى ذلك أيضاً الشبهة التي طرحها بعض الفلاسفة الجدد مستدلاً للسوفسطائيين باننا كما اننا في المنام نقطع بما نراه مع انه كذب أو خيال (كمن يرى والده الميت في المنام حياً أو يرى نفسه وهو الفقير المعدم غنياً) كذلك قد نكون الآن في حالة اليقظة كذلك، قال: (لعل إلهاً شريراً، حسب كلامه، زرع في أمخاخنا جهازاً يصور لنا الخيالات حقائق، فنرى الساعة 12 ظهراً انه نهار، مع انه ليل واقعاً.. وهكذا!
والجواب: انه خلاف الوجدان وإن احتمله العقل فرضاً احتمالاً، كمخالفة وحدة الموجود للوجدان وإن قال به بعض الفلاسفة جزماً!
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ نَشَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ فِي رَحْمَتِهِ: حُسْنُ خُلُقٍ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَرِفْقٌ بِالْمَكْرُوبِ وَشَفَقَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِحْسَانٌ إِلَى الْمَمْلُوك)) الخصال: ج1 ص225.
أسئلة:
- قرّر كلام الشيخ (قدس سره) بأسلوبك وقرّر جوابنا وناقش هذا أو ذاك.
- تدبر في جميع كلام المحقق المشكيني (قدس سره).
- اذكر عشرة أمثلة للشبهة مقابل البديهة وحاول الجواب الفني عنها.
___________________
[1] لاحظ قوله (قده): (فالظاهر منهم عدم الحمل) وظاهرها النسبة إلى جميع الأصوليين، الكاشفة عن استقرائه مقداراً معتداً به حتى امكنته النسبة هكذا.
[2] أي: وعليه فيطالب.
[3] مطارح الأنظار: ص224.
[4] المصدر.
[5] مطارح الأنظار: ص224 سطر4.
[6] كفاية الأصول مع حواشي المحقق المشكيني: ص516-517.
[7] سورة فاطر: الآية 15.
[8] بل هو معنى حرفي، وصِرف الربط، كما قيل، وهو للتقريب.
[9] الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية: ج1 ص47.
[10] وهو في واقعه صورة برهان.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
برهان الشيخ على عدم حمل المطلق على المقيد في الوضعيين
سبق كلام الشيخ في مطارح الأنظار:
قال (قدس سره): (هداية في حكم المطلق والمقيد الواردين في مقام بيان الأحكام الوضعية
قد عرفت حكم المطلق والمقيد الواردين في مقام بيان الحكم التكليفي، وأما حكمه في مقام بيان الأحكام الوضعية فالظاهر منهم عدم الحمل[1]، فلو قيل البيع سبب والبيع العربي سبب، يحمل على مشروعية المطلق والمقيد معاً بل لا يكتفي بذلك ويقال بأن السّبب كل واحد من أفراد البيع على وجه العموم الاستغراقي.
فيطالب[2] بالفرق بين الأحكام التكليفية وغيرها من حيث الحمل فيها وعدمه في الوضعية)[3].
وقال: (والجواب إن استظهرنا عدم ورود المطلق في مقام البيان فعلى المختار لا وجه لعدم الحمل ولا نقول به ولا ضير فيه.
وإن استظهرنا وروده في مقامه، فالفرق إنما جاء من خصوص الحكم والمحمول فإن المحمولات مختلفة جدّا، فتارة يكون ثبوت المحمول للموضوع على وجه التخيير مفيداً في مقام البيان كالوجوب، فإن ثبوته لما هو محمول له كالصّلاة على وجه التخيير مما لا غائلة فيه ولا إشكال في كونه مفيداً كما يظهر بالرجوع إلى العرف، وتارة يكون ثبوته له على وجه العموم مفيداً وعلى وجه التخيير لا يعدّ مفيداً وهو ينافي كونه في مقام البيان والإفادة فيصرف بحكم العقل والعادة إلى العموم مثل السببية والمانعية ونحوهما من الأمور التي لا وجه للأخبار بثبوتها على وجه التخيير والإجمال في مقام البيان)[4].
المناقشة: الصور ثلاثة ووِزان الوضعيين كوِزان التكليفيين
ولكن قد يورد عليه: ان الصور ثلاثة، وليست اثنتين، وعليه فإن تفريقه غير فارق، فإن وِزان الحكمين الوضعيين كوِزان التكليفيين الإلزاميين لو وُحِّدت صورتاهما، كما هو مقتضى القاعدة، توضيحه:
انه في مطلق الأحكام الإلزامية كالوجوب مثلاً، في قوله اعتق رقبة مثلاً، يمكن ثبوتاً ويحتمل إثباتاً أن يكون المراد أحد أمور:
أ- أن يكون المراد اعتق رقبة ما أي مجهولة أو مجملة (على أن يبينها لاحقاً مثلاً أو لكي يحتاط إن لم يصله بيان).
ب- أن يكون المراد اعتق رقبة من الرقاب على سبيل البدل، وهو التخيير فيفيد الوجوب التخييري.
ج- أن يكون المراد وجوب عتق الرقبة على سبيل الجمع، أي اعتق كل الرقاب.
لكن الأخير خلاف الظاهر جداً، فهو إما غلط أو مجاز، والأول خلاف كونه في مقام البيان، فبقي الأوسط.
وكذلك الحال في السبب والمانع والشرط وغيرها من الأحكام الوضعية فإنه إذا قال: (البيع سبب) فالممكن ثلاثة صور:
أ- أن يكون المراد أن بيعاً ما سبب، أي بيعٌ مجهول أو مجمل سبب.
ب- أن يكون المراد أن كل بيع على سبيل البدل فهو سبب وهو التخيير، أي انه يفيد تخيير المكلف بين من أفراد البيع فله أن يختار ما يشاء، بأن يبيع بالعربية أو الفارسية أو التركية مثلاً، في هذا المكان أو الزمان أو ذاك، لهذا الرجل أو ذاك، بشرط أو بغيره، نقداً أو نسيئة أو سلماً،... إلخ.
ج- أن يكون المراد أن البيوع كلها بشرط الاجتماع سبب، أي لا يكفي البيع مرة لحصول النقل بل لا بد منه مرة ثانية بالفارسية وثالثة بالتركية أو مرة الآن وأخرى بعد ساعة.. إلخ.
لكن الأخير خلاف الظاهر جداً فهو إما غلط أو مجاز، والأول خلاف كونه في مقام البيان فبقي الأوسط.
وكما لوحظ فإن وِزانهما، التكليفيين والوضعيين وِزان واحد.. وكان المفترض أن يقيس الشيخ (قدس سره) الصورة الثانية من السبب بالصورة الثانية من الوجوب، فيظهر حينئذٍ بوضوح تساوي وزنهما، لكنه حمل الوجوب على الصورة الثانية وحمل السبب على الصورة الأولى ففرّق بينهما، ولو عكس لانعكس الأمر.
بعبارة أخرى: كما ان قوله: بيعٌ مبهمٌ (أو بيع ما – أو بيع مجمل) سببٌ، غير مفيد بل هو خلف إذا فرض كونه في مقام البيان، كذلك قوله (أعتق رقبةً مبهمةً – أو أعتق رقبةً ما – أو: عتقٌ مجملٌ أو رقبةٌ مجملة عتقها، واجب)، غير مفيد بل هو خلف؛ إذ فرض كونه في مقام البيان.
وكما ان قوله (أعتق رقبة، على سبيل البدل – أي مخيّراً، واجب) مفيد وهو بيان لوجوب كل فرد منها على سبيل البدل وانه مخير، كذلك قوله: (البيع على سبيل البدل، أي مخيراً بين افراده، سبب النقل) مفيد، وهو بيان لسببية كل منها على سبيل البدل.
والذين يقولون بحمل المطلق على المقيد في الوضعيين المثبتين، لهم أن يقولوا: ان قوله (البيع سبب) يراد به الصورة الثانية، فلا خلف ولا لغوية، كما كان لهم أن يقولوا: أن قوله اعتق رقبة يراد به الصورة الثانية فلا خلف ولا لغوية، بل ظاهر كليهما هو ذلك، مادام قد افترض كونه في مقام البيان.
نعم، كان ينبغي عليه (قدس سره) أن يقول، أو يدعي، ان ظاهر (البيع سبب) هو الصورة الأولى وان ظاهر (اعتق رقبة) الصورة الثانية. لكن فيه: ان ظاهر (البيع سبب) هو الصورة الثانية، بدون كلام.
ولعله يبدو، على ضوء ما قلناه، غريباً أن يفرِّق مثله، وقد ندر وجود مثله في دقة النظر، بما فرّق به مع وضوح الإشكال عليه بما سبق ولعله من المقرر أو من قصور البيان، والله العالم.
3- المشكيني: الظهور الانحلالي للمطلق أقوى من ظهور المقيد في القيد
ثالثاً: وأشكل المحقق المشكيني على استاذه بقوله: (وحاصل مراده: أنّ التعارض هنا - أيضاً - موقوف على العلم بالاتّحاد، وأنّ الجمع العرفي حمل المطلق على المقيّد.
ويرد على الأوّل:
أوّلا: أنّ الاتّحاد ليس علّة منحصرة للتعارض، بل يتحقّق من جهة جعل الحكم الوضعي للقيد: تارة في ضمن المطلق، وأخرى في دليل المقيّد المستلزم لاجتماع المثلين.
وثانياً: أنّ الاتّحاد معلوم في المقام دائما، كما مرّ في المنفيّين من التكليف، للانحلال هنا مطلقاً، مثبتين كانا أو منفيّين.
وعلى الثاني: منع كونه جمعاً عرفيّاً، لأنّ الحكم الوضعي: إمّا أن يكون مجعولا مستقلاّ، أو شيئاً كشف عنه الشارع وأخبر به، أو منتزعاً من التكليف، وعلى الأوّل - كما هو مختاره في كثير من المقامات - يحصل التعارض من الأخذ بظاهر الدليلين، للزوم اجتماع المثلين، والأمر يدور بين ما ذكره من الحمل وبين حمل القيد على فائدة أخرى من غلبة أو غيرها، لكن الظهور الإطلاقي الانحلالي أظهر عند العرف من ظهور القيد في كونه دخيلا في الحكم.
وكذلك على الثاني، كما هو واضح لمن تأمّل.
وأمّا الثالث: فلأنّه وإن كان بحسب اللُّبّ تابعاً للتكليف، ولذا قال الأستاذ: بأنّه لا بدّ من حمل المطلق - حينئذٍ - إلاّ أنّه في مقام الإثبات لـمّا كان بطريق العموم الانحلالي يقدّم على ظهور القيد عندهم، فالحقّ هو العمل بإطلاق المطلق في الحكم الوضعي مطلقاً، كما نقل[5] عن المشهور)[6].
وكلامه بحاجة إلى مزيد إيضاح نقتصر منه اليوم على كلمة منه وهو توضيح قوله (للزوم اجتماع المثلين) والذي رده بقوله (لكن الظهور الإطلاقي الانحلالي أظهر عند العرف من ظهور القيد في كونه دخيلا في الحكم)، فأقول: هنا إيضاح وتعليق:
كيف يلزم اجتماع المثلين من الحكم بالمطلق والمقيد المثبتين؟
أما الإيضاح: فهو انه يلزم اجتماع المثلين (أو الخلف) لأنه إذا كان المطلق هو السبب، لما كان القيد قيداً هذا خلف، فإذا كان قيداً فكيف يكون المطلق سبباً فإنه إذا كان المقيد سبباً بحده (أي بقيده) لما كان المطلق سبباً فإن كان المطلق سبباً مع ذلك لزم اجتماع المثلين إذ الشيء بشرط شيء (المقيد بحده) غير الشيء اللابشرط فإنه قسيمه فتدبر.
وكذا لو قلنا ان المقيد أي العقد بالعربية فقط هو السبب، فإنه لا يكون المطلق حينئذٍ سبباً (في ضمن فرده الآخر أي العقد بالفارسية) وإلا، أي إذا كان سبباً للزم الخلف (إذ يلزم لغوية القيد وعدم سببية المقيد بما هو مقيد) أو اجتماع المثلين.
قاعدة رفع الشبهات بالرجوع إلى الوجدان
وأما التعليق: - وهو مهم جداً، فهو انه (قدس سره) دَفَعَ شبهة اجتماع المثلين، بترجيح أحد المحتملين مستنداً إلى الظهور العرفي، والوجه العام فيه: ان العرف وإن لم يلتفت تفصيلاً إلى دقائق الإشكالات الفلسفية أو الشبهات الكلامية والأصولية، بل قد لا يفهمها حتى إذا شرحت له، فقد لا يفهم معنى الدور وانه توقف الشيء على ما يتوقف عليه مثلاً ولا يفهم فرقه عن الدور المعي الممكن، لكنه، بما أودع فيه من قوةٍ دّراكة للضروريات والأوليات، يدرك ان الدور محال، وإن لم يستطع تعرفية ويدرك ان الدور المعي ممكن وواقع، كما يدرك استحالة التسلسل بالفعل وفرقه عن التسلسل اللايقفي كما في مراتب الاعداد ونعيم الجنة، وإن لم يستطع تعريف أي منها تعريفاً جامعاً مانعاً.
كما يدرك بفطرته ان الإنسان، وسائر المخلوقات والممكنات، فقير بالذات، وانها كلها محتاجة في ذاتها وأفعالها إلى غيرها بل هي عين الربط والتعلق بعلتها، ( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميد)[7]، (إن الوجود رابط ورابطي / ثمت نفس فهاك واضبط)[8] ومن هنا يدرك الإنسان بفطرته انه لا يعقل وحدته مع واجب الوجود بالذات.. ومن هنا يردّ على من ادعى وحدة الوجود بل الموجود بشهادة الفطرة والوجدان بالبطلان وإن لم يستطع الجواب عن الشبهة بالبيان.. والذي أوقع بعض الفلاسفة في الشبهة هو عجز عقولهم عن ردّ شبهة استحالة وجود غيره جل اسمه وإلا لخلا وجوده منه فكان محدوداً... إلخ، والعقل قد يعجز عن جواب الشبهة، لكن الفطرة والوجدان هي نعم الحكم الفصل، لوضوح أن النظريات تعود إلى الضروريات، وهي أساس العلوم، وهي منغرسة في الذات خِلقةً، فلو احتاجت إلى برهان لزم الدور وعدم حصول العلم للإنسان أصلاً وهو واضح البطلان، نعم غاية الأمر حاجة الإنسان أحياناً إلى المنبّه.
والحاصل: ان السوفسطائي وكذا وحدة الموجودي ونظائرهما، كما لو قال شخص بإمكان الدور وإمكان خلق الشيء لنفسه وإمكان المعلول بلا علة، مهما جاء بأدلة (أي بصورة برهان) على انه (كل ما في الكون وهم أو خيال / أو عكوس في مرايا أو ظلال).[9] أو على (ليس في الدار غيره ديار) أو على الرشح ودوام الفيض وقوع العالم أو إمكان اجتماع النقيضين، كما ادعاه بعض الجدد مستدلين باجتماع النقيضين في عالم الكوانتم حيث تجتمع خواص المادة والطاقة (المتضادة أو المتناقضة) في الـجُسَيم الذي تكون له خواص الموجه وخواص المادة معاً، فإنه يكفي أن نجيبه بأنها شبهة في مقابل البديهة، فإن امكن للشخص الجواب بالبرهان، أي ما صورته البرهان، كان حسناً وإلا كفى الرد بذلك.
ومن هنا جرى داب العبد الفقير في البحوث الفلسفية، كبعض السابقة، والأصولية، كبحث استحالة الترتب كما ذهب إليه الشيخ أو إمكانه كما ذهب إليه تلميذه المجدد الشيرازي، أو بحث استحالة اجتماع الامر والنهي، أو غير ذلك، على الرجوع أولاً إلى الوجدان (وقطع النظر عن استدلالات الطرفين في هذه المرحلة) فإن وجدته ينطق بأمر (كما وجدته ينطق بإمكان الأمر المولوي بالمهم على تقدير عصيان الأهم بل بوقوعه من جميع الناس في مختلف المقامات) بنيت عليه، ثم انطلقت إلى الأدلة، وحاولت الجواب عن دليل مدعي الامتناع فإن امكننا ذلك (كما أوضحت الجواب في بحث سابق) وإلا اكتفيت بانه شبهة في مقابل البديهة، فلا أقبلها وإن لم استطع الجواب الفنّي عنها.
وإلا، فلو فتح هذا الباب، أي باب التمسك بالبرهان[10] في مقابل الوجدان، لما استقر حجر على حجر ولانتفى أساس العلوم، ومما يرشد إلى ذلك أيضاً الشبهة التي طرحها بعض الفلاسفة الجدد مستدلاً للسوفسطائيين باننا كما اننا في المنام نقطع بما نراه مع انه كذب أو خيال (كمن يرى والده الميت في المنام حياً أو يرى نفسه وهو الفقير المعدم غنياً) كذلك قد نكون الآن في حالة اليقظة كذلك، قال: (لعل إلهاً شريراً، حسب كلامه، زرع في أمخاخنا جهازاً يصور لنا الخيالات حقائق، فنرى الساعة 12 ظهراً انه نهار، مع انه ليل واقعاً.. وهكذا!
والجواب: انه خلاف الوجدان وإن احتمله العقل فرضاً احتمالاً، كمخالفة وحدة الموجود للوجدان وإن قال به بعض الفلاسفة جزماً!
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ نَشَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ فِي رَحْمَتِهِ: حُسْنُ خُلُقٍ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَرِفْقٌ بِالْمَكْرُوبِ وَشَفَقَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِحْسَانٌ إِلَى الْمَمْلُوك)) الخصال: ج1 ص225.
أسئلة:
- قرّر كلام الشيخ (قدس سره) بأسلوبك وقرّر جوابنا وناقش هذا أو ذاك.
- تدبر في جميع كلام المحقق المشكيني (قدس سره).
[1] لاحظ قوله (قده): (فالظاهر منهم عدم الحمل) وظاهرها النسبة إلى جميع الأصوليين، الكاشفة عن استقرائه مقداراً معتداً به حتى امكنته النسبة هكذا.
[2] أي: وعليه فيطالب.
[3] مطارح الأنظار: ص224.
[4] المصدر.
[5] مطارح الأنظار: ص224 سطر4.
[6] كفاية الأصول مع حواشي المحقق المشكيني: ص516-517.
[7] سورة فاطر: الآية 15.
[8] بل هو معنى حرفي، وصِرف الربط، كما قيل، وهو للتقريب.
[9] الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية: ج1 ص47.
[10] وهو في واقعه صورة برهان.