بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
إيضاح كلام المشكيني
سبق كلام المحقق المشكيني (قدس سره): (وعلى الثاني: منع كونه جمعاً عرفيّاً، لأنّ الحكم الوضعي: إمّا أن يكون مجعولا مستقلاّ، أو شيئاً كشف عنه الشارع وأخبر به، أو منتزعاً من التكليف:
وعلى الأوّل - كما هو مختاره في كثير من المقامات - يحصل التعارض من الأخذ بظاهر الدليلين، للزوم اجتماع المثلين، والأمر يدور بين ما ذكره من الحمل وبين حمل القيد على فائدة أخرى من غلبة أو غيرها، لكن الظهور الإطلاقي الانحلالي أظهر عند العرف من ظهور القيد في كونه دخيلا في الحكم.
وكذلك على الثاني، كما هو واضح لمن تأمّل.
وأمّا الثالث: فلأنّه وإن كان بحسب اللُّبّ تابعاً للتكليف، ولذا قال الأستاذ: بأنّه لا بدّ من حمل المطلق - حينئذٍ - إلاّ أنّه في مقام الإثبات لـمّا كان بطريق العموم الانحلالي يقدّم على ظهور القيد عندهم.
فالحقّ هو العمل بإطلاق المطلق في الحكم الوضعي مطلقاً، كما نقل[1] عن المشهور)[2].
وسبق ان قوله (للزوم اجتماع المثلين) يجب أن نضيف له: أو (الخلف) ونضيف الآن (أو اللغوية) فتدبر.
1- والأمر على المبنى الأول واضح، أي على مبنى أن يكون الشارع قد جعل سببية البيع للانتقال وسببية العقد للزوجية وسببية الغسل للطهارة، أي بناء على أن النجاسة والطهارة ليستا حقائق تكوينية بل هي مجعولة للشارع وان سببية الغسل مجعولة له أيضاً، وقد سبق بيانه.
2- وعلى المبنى الثاني الأمر كذلك، وتوضيحه: ان الوضعيات قد يقال بكونها إخباريات، وكونها إخبارية تتصور على نحوين:
الأول: ان الشارع في قوله: البيع سبب الانتقال / العقد سبب الزوجية / الغسل سبب الطهارة، مخبر عن حقيقة تكوينية.
الثاني: أن يكون مخبراً عن بناء عقلائي اعتباري.
أما الأول فبأن يقال: بأن للإنشاء أثراً تكوينياً خارجياً على حدوث انتقال الملكية وتحقق الزوجية (وللغسل أثر تكويني في تحقق الطهارة) وإنها هي أيضاً بدورها حقائق واقعية تكوينية خارجية (وان الملكية والزوجية ونظائرها هي من أنواع الطاقة مثلاً، فإنها وإن كانت غير مرئية لكنها موجودة خارجاً كما الاشعة الكهرومغناطيسية وكذا الجاذبية وأشعة جاما وغيرها فإنها موجودة لكن غير مرئية).
وأما الثاني: فبأن يقال: ان الزوجية أمر اعتباري مما تواضع عليه العقلاء وكذا الملكية والنجاسة[3] والشارع في قوله البيع سبب و... مخبر عما بنى عليه العقلاء.
وعلى كلا التقديرين فإن نفس المحذور السابق في المبنى الأول بنفس التقرير السابق يجري على هذا المبنى ولكن مع تطويل المسافة بحلقة واحدة، إذ يتوسط اخبار الشارع عن سببية المطلق (التكوينية أو العقلائية) وسببية المقيد (كذلك) فحينئذٍ يسأل: إذا كان المطلق هو السبب (واقعاً أو عند العقلاء) لما كان القيد قيداً، هذا خلف... إلخ ما ذكرناه هنالك.
مناقشة معه، تأييداً للكفاية
3- وأما على المبنى الثالث، فإن الظاهر صحة مبنى الكفاية وعدم تمامية إشكال تلميذه المشكيني إذ ليست كلمة (العموم الإنحلالي) وحياً منزلاً أو نصاً شرعياً كي ندور مداره بل المقياس، كما هو مذعن به، هو العرف، وإذا سلّمنا بأن الإلزاميين المثبتين يقيد أحدهما الآخر (وان ظهور القيد أقوى من ظهور المطلق الانحلالي) فحيث ان الوضعي منتزع منه ولا وجود له واقعاً ولا في عالم الإثبات إلا به، فإنه يتبعه قهراً وعرفاً، فتفكيك المشكيني بينهما، وهما الطوليان التابع أحدهما للآخر خارجاً وفي عالم الوجود اللفظي أيضاً، غريب.
كما يرد على ما ذكره في المبنى الأول من (وعلى الأوّل - كما هو مختاره في كثير من المقامات - يحصل التعارض من الأخذ بظاهر الدليلين، للزوم اجتماع المثلين، والأمر يدور بين ما ذكره من الحمل وبين حمل القيد على فائدة أخرى من غلبة أو غيرها، لكن الظهور الإطلاقي الانحلالي أظهر عند العرف من ظهور القيد في كونه دخيلا في الحكم) انّ الأمر تابع لمناسبات الحكم والموضوع وغيرها مما يراه العرف، ولا إطلاق لأظهرية الظهور الإطلاقي الانحلالي؛ فإن صِرف الانحلال إلى الأفراد لا يولّد اقوائيةً لظهوره من ظهور القيد؛ الا ترى انه لو قال: (خبر الإمامي حجة) ثم قال: (خبر الإمامي الثقة حجة) استظهر العرف التقييد، وكذا لو قال: (إكرام الضيف يدرّ الرزق) وقال: (إكرام الضيف المتقي يدرّ الرزق)، وذلك لخصوصية المادة فيهما، عكس ما لو قال: (إكرام الضيف يدرّ الرزق) وقال: (إكرام الضيف العالم يدرّه)، فإن العرف يستفيد الاقوائية أو الأفضلية إذا كان عالماً، لا التقييد. وكذا العرف يفرق بين قوليه: (البيع العربي سبب للنقل) و(البيع غير الضرري سبب للنقل) الواردين بعد (البيع سبب للنقل).
احتمال وجود خصيصتين في المقيد كافية، في حجة المطلق
ويمكن أن يستدل على تقديم ظهور المطلق على المقيد، في الوضعيين المثبتيين، انتصاراً للسيد المرتضى (قدس سره) بوجه آخر لطيف وهو:
ان المقيد يفيد، غاية الأمر، ان في القيد خصيصة اقتضت ترتب المحمول، أي الحكم عليه (لو لم نقل بانه جيء به لأنه غالبي أو أفضلي) فهو يفيد نفي الحكم من جهته أي إذا فقدت خصيصته (كالعربية – وكونه ماء – في أمثلتنا السابقة) فإنه يترتب الحكم من هذه الجهة، لكنه لا يفيد نفي وجود خصيصة أخرى في سائر أفراد المطلق تقتضي ثبوت الحكم له أيضاً وكما يحتمل في المقيد أن تكون فيه خصيصة واحدة قائمة بمجموع المقيد والقيد يحتمل أن تكون فيه خصيصتان (وعليهما يترتب أن المطلوب متعدد). احداها قائمة بالمطلق، والأخرى قائمة بالمقيد خاصة (إضافة إلى قيام خصيصة المطلق به). فإذا جرى هذا الاحتمال كفى، إذ بمجرد وجود هذا الاحتمال فإن المطلق كافٍ في الدلالة على حكمه لسائر الأفراد، أي حيث شمل (اغسل) الغسل بمطلق المائع فإن (اغسل بالماء) غاية الأمر انه يدل على انتفاء الحكم بالمطهرية الناشئة خصوصاً من حيث انتفاء المائية ولكنه لا يدل على انتفاء المطهرية من حيثية أخرى (على انه لو دل – فبالمفهوم وهو أضعف من منطوق اغسل الانحلالي) فلا تعارض في هذه المرحلة أي ليس المقيد معارِضاً في هذه المرحلة.
وبعبارة أخرى: الطاردية أو الاحترازية في القيد إما مطلقة أو هي في الجملة، وقوله: (البيع العربي سبب – الغسل بالماء سبب الطهارة) المسلّم منه إنما هو الطاردية في الجملة (أي من جهة فقدان خصوصية العربية) ولا يفيد الطاردية المطلقة أي فقدان كل خصوصية أخرى تقتضي ثبوت الحكم.
بوجه آخر: قد تكون لثبوت الحكم عدة مقتضيات على سبيل البدل، أحدها القائمة بالمقيد، ويوجد غيرها قائمة بالمطلق، فيكفي الإطلاق في المطلق لإحرازه من غير معارضة المقيد له، أي ان (البيع بالعربية سبب) يطرد وجود خصوصيته في غيره من الأصناف، كالبيع بالفارسية، لكنه ساكت عن وجود خصوصية أخرى بديلة، في الفارسية مثلاً، تقتضي ثبوت الحكم له.
على أن القيد لو كان له مفهوم، خرج عن مبنى المبحث ومحله وهو المطلق والمقيد المثبتان ودخل في المتنافيين.
المطلق إذا كان في وقت الحاجة فهو نص فيعارض المقيد
ومما قد يستدل به للسيد المرتضى ما نقل عن الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره) من أن المقيد إنما يتقدم على المطلق، إذا لم يكن المطلق صريحاً في دلالته على الإطلاق وإلا فإنهما يتعارضان، وعلى ضوء ذلك فصل بين كون المطلق متعرضاً لحكم ترخيصي مع كونه في وقت العمل والحاجة، فلا ريب حينئذٍ في انه مراد جدي للمولى، ولا يعقل ان يحمل على المقيد لأنه يستلزم إلقاء العبد في المفسدة، إذا كان محرماً أو تفويت المصلحة إذا كان واجباً، عكس ما لو كان المطلق دليلاً تحريمياً فإن إطلاقه وإن لم يكن مراداً جداً غير ضار إذ غاية الأمر اجتناب العبد عنه، عن المباح، وليس هذا بضرر.
فقد نقل عنه قوله: (إن حمل المطلق على المقيد يكون في الحالات التي لا يتوافر فيها دليل صريح على إطلاق المطلق، وذلك لأن المطلق في مثل هذه الظروف يكون له حكم النص، ولا يمكن العدول عنه وحمله على المقيد. وبالتالي، يجب التعامل مع الدليلين وفقاً لقواعد باب التعارض. ثم يضيف: من الحالات التي يجب فيها اعتبار المطلق صريحاً في إطلاقه هي عندما يذكر حكماً ترخيصياً بشكل مطلق في وقت الحاجة إلى بيان الحكم، لأنه إذا لم يكن المراد الجدي من الدليل المطلِق للترخيص مطابقاً لظاهره الذي هو الإطلاق، فإن هذا يؤدي إلى الوقوع في المفسدة أو تفويت المصلحة. وذلك لأنه قد يحدث أن المكلف يقدم على فعل نفس الفرد المحرم غير المحكوم بالإباحة استناداً إلى الترخيص المطلق، قبل أن يطّلع على الدليل المقيد.
ولكن إذا كان الدليل المطلق تحريماً وكان بعض أفراده في الواقع مباحاً، فإن المكلف لن يقع في مفسدة أو يفوت مصلحة إذا ترك الفعل بسبب جهله بالدليل المقيد، لأنه لم يتضرر بتركه للمباح.
من هنا، يمكن للمتكلم أن يحكم بالتحريم معتمداً على الدليل المقيد من دون أن ينشأ عن ذلك أي أثر فاسد. وبالتالي، إذا كان الدليل المطلق ترخيصياً، يجب اعتباره صريحاً في إطلاقه، وان يُعتبر الدليل المقيد معارضاً له. أما إذا كان الدليل المطلق تحريماً، فإنه بقرينة المقيد يُحمل على المقيد، وينطبق ذلك أيضاً على العام والخاص)[4].
وسيأتي إيضاحه بالأمثلة، كما ستأتي مناقشة فيه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق )عليه السلام): ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْرِفُنَا أَنْ يَعْرِضَ عَمَلَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونَ مُحَاسِبَ نَفْسِهِ، فَإِنْ رَأَى حَسَنَةً اسْتَزَادَ مِنْهَا، وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ مِنْهَا لِئَلَّا يَخْزَى يَوْمَ الْقِيامَةِ)) تحف العقول ص301.
أسئلة:
- أوضح الصورة الثالثة من كلام المشكيني (قدس سره) ووجهه، وأوضح إشكالنا عليه.
- أوضح استدلالنا بقضية احتمال الخصيصتين وبيّن ما هو فرقه عن تعدد المطلوب الذي سبق.
- أوضح كلام المحقق الحائري.
- وهل المطلق في وقت الحاجة معارِض للمقيد أو أقوى؟
____________________________
[1] مطارح الأنظار: ص224 سطر4.
[2] كفاية الأصول مع حواشي المحقق المشكيني: ص516-517.
[3] وإن كان الأمر فيها بعيداً جداً، إذ هي إما القذارة العرفية وهي واقعية، أو النجاسة الشرعية المعهودة وهي شرعية وليس أمراً معتبراً عقلائياً.
[4] شيبري زنجاني، موسى، كتاب نكاح، مؤسسة بژوهشي راي برداز: ج7 ص2102.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
إيضاح كلام المشكيني
سبق كلام المحقق المشكيني (قدس سره): (وعلى الثاني: منع كونه جمعاً عرفيّاً، لأنّ الحكم الوضعي: إمّا أن يكون مجعولا مستقلاّ، أو شيئاً كشف عنه الشارع وأخبر به، أو منتزعاً من التكليف:
وعلى الأوّل - كما هو مختاره في كثير من المقامات - يحصل التعارض من الأخذ بظاهر الدليلين، للزوم اجتماع المثلين، والأمر يدور بين ما ذكره من الحمل وبين حمل القيد على فائدة أخرى من غلبة أو غيرها، لكن الظهور الإطلاقي الانحلالي أظهر عند العرف من ظهور القيد في كونه دخيلا في الحكم.
وكذلك على الثاني، كما هو واضح لمن تأمّل.
وأمّا الثالث: فلأنّه وإن كان بحسب اللُّبّ تابعاً للتكليف، ولذا قال الأستاذ: بأنّه لا بدّ من حمل المطلق - حينئذٍ - إلاّ أنّه في مقام الإثبات لـمّا كان بطريق العموم الانحلالي يقدّم على ظهور القيد عندهم.
فالحقّ هو العمل بإطلاق المطلق في الحكم الوضعي مطلقاً، كما نقل[1] عن المشهور)[2].
وسبق ان قوله (للزوم اجتماع المثلين) يجب أن نضيف له: أو (الخلف) ونضيف الآن (أو اللغوية) فتدبر.
1- والأمر على المبنى الأول واضح، أي على مبنى أن يكون الشارع قد جعل سببية البيع للانتقال وسببية العقد للزوجية وسببية الغسل للطهارة، أي بناء على أن النجاسة والطهارة ليستا حقائق تكوينية بل هي مجعولة للشارع وان سببية الغسل مجعولة له أيضاً، وقد سبق بيانه.
2- وعلى المبنى الثاني الأمر كذلك، وتوضيحه: ان الوضعيات قد يقال بكونها إخباريات، وكونها إخبارية تتصور على نحوين:
الأول: ان الشارع في قوله: البيع سبب الانتقال / العقد سبب الزوجية / الغسل سبب الطهارة، مخبر عن حقيقة تكوينية.
الثاني: أن يكون مخبراً عن بناء عقلائي اعتباري.
أما الأول فبأن يقال: بأن للإنشاء أثراً تكوينياً خارجياً على حدوث انتقال الملكية وتحقق الزوجية (وللغسل أثر تكويني في تحقق الطهارة) وإنها هي أيضاً بدورها حقائق واقعية تكوينية خارجية (وان الملكية والزوجية ونظائرها هي من أنواع الطاقة مثلاً، فإنها وإن كانت غير مرئية لكنها موجودة خارجاً كما الاشعة الكهرومغناطيسية وكذا الجاذبية وأشعة جاما وغيرها فإنها موجودة لكن غير مرئية).
وأما الثاني: فبأن يقال: ان الزوجية أمر اعتباري مما تواضع عليه العقلاء وكذا الملكية والنجاسة[3] والشارع في قوله البيع سبب و... مخبر عما بنى عليه العقلاء.
وعلى كلا التقديرين فإن نفس المحذور السابق في المبنى الأول بنفس التقرير السابق يجري على هذا المبنى ولكن مع تطويل المسافة بحلقة واحدة، إذ يتوسط اخبار الشارع عن سببية المطلق (التكوينية أو العقلائية) وسببية المقيد (كذلك) فحينئذٍ يسأل: إذا كان المطلق هو السبب (واقعاً أو عند العقلاء) لما كان القيد قيداً، هذا خلف... إلخ ما ذكرناه هنالك.
مناقشة معه، تأييداً للكفاية
3- وأما على المبنى الثالث، فإن الظاهر صحة مبنى الكفاية وعدم تمامية إشكال تلميذه المشكيني إذ ليست كلمة (العموم الإنحلالي) وحياً منزلاً أو نصاً شرعياً كي ندور مداره بل المقياس، كما هو مذعن به، هو العرف، وإذا سلّمنا بأن الإلزاميين المثبتين يقيد أحدهما الآخر (وان ظهور القيد أقوى من ظهور المطلق الانحلالي) فحيث ان الوضعي منتزع منه ولا وجود له واقعاً ولا في عالم الإثبات إلا به، فإنه يتبعه قهراً وعرفاً، فتفكيك المشكيني بينهما، وهما الطوليان التابع أحدهما للآخر خارجاً وفي عالم الوجود اللفظي أيضاً، غريب.
كما يرد على ما ذكره في المبنى الأول من (وعلى الأوّل - كما هو مختاره في كثير من المقامات - يحصل التعارض من الأخذ بظاهر الدليلين، للزوم اجتماع المثلين، والأمر يدور بين ما ذكره من الحمل وبين حمل القيد على فائدة أخرى من غلبة أو غيرها، لكن الظهور الإطلاقي الانحلالي أظهر عند العرف من ظهور القيد في كونه دخيلا في الحكم) انّ الأمر تابع لمناسبات الحكم والموضوع وغيرها مما يراه العرف، ولا إطلاق لأظهرية الظهور الإطلاقي الانحلالي؛ فإن صِرف الانحلال إلى الأفراد لا يولّد اقوائيةً لظهوره من ظهور القيد؛ الا ترى انه لو قال: (خبر الإمامي حجة) ثم قال: (خبر الإمامي الثقة حجة) استظهر العرف التقييد، وكذا لو قال: (إكرام الضيف يدرّ الرزق) وقال: (إكرام الضيف المتقي يدرّ الرزق)، وذلك لخصوصية المادة فيهما، عكس ما لو قال: (إكرام الضيف يدرّ الرزق) وقال: (إكرام الضيف العالم يدرّه)، فإن العرف يستفيد الاقوائية أو الأفضلية إذا كان عالماً، لا التقييد. وكذا العرف يفرق بين قوليه: (البيع العربي سبب للنقل) و(البيع غير الضرري سبب للنقل) الواردين بعد (البيع سبب للنقل).
احتمال وجود خصيصتين في المقيد كافية، في حجة المطلق
ويمكن أن يستدل على تقديم ظهور المطلق على المقيد، في الوضعيين المثبتيين، انتصاراً للسيد المرتضى (قدس سره) بوجه آخر لطيف وهو:
ان المقيد يفيد، غاية الأمر، ان في القيد خصيصة اقتضت ترتب المحمول، أي الحكم عليه (لو لم نقل بانه جيء به لأنه غالبي أو أفضلي) فهو يفيد نفي الحكم من جهته أي إذا فقدت خصيصته (كالعربية – وكونه ماء – في أمثلتنا السابقة) فإنه يترتب الحكم من هذه الجهة، لكنه لا يفيد نفي وجود خصيصة أخرى في سائر أفراد المطلق تقتضي ثبوت الحكم له أيضاً وكما يحتمل في المقيد أن تكون فيه خصيصة واحدة قائمة بمجموع المقيد والقيد يحتمل أن تكون فيه خصيصتان (وعليهما يترتب أن المطلوب متعدد). احداها قائمة بالمطلق، والأخرى قائمة بالمقيد خاصة (إضافة إلى قيام خصيصة المطلق به). فإذا جرى هذا الاحتمال كفى، إذ بمجرد وجود هذا الاحتمال فإن المطلق كافٍ في الدلالة على حكمه لسائر الأفراد، أي حيث شمل (اغسل) الغسل بمطلق المائع فإن (اغسل بالماء) غاية الأمر انه يدل على انتفاء الحكم بالمطهرية الناشئة خصوصاً من حيث انتفاء المائية ولكنه لا يدل على انتفاء المطهرية من حيثية أخرى (على انه لو دل – فبالمفهوم وهو أضعف من منطوق اغسل الانحلالي) فلا تعارض في هذه المرحلة أي ليس المقيد معارِضاً في هذه المرحلة.
وبعبارة أخرى: الطاردية أو الاحترازية في القيد إما مطلقة أو هي في الجملة، وقوله: (البيع العربي سبب – الغسل بالماء سبب الطهارة) المسلّم منه إنما هو الطاردية في الجملة (أي من جهة فقدان خصوصية العربية) ولا يفيد الطاردية المطلقة أي فقدان كل خصوصية أخرى تقتضي ثبوت الحكم.
بوجه آخر: قد تكون لثبوت الحكم عدة مقتضيات على سبيل البدل، أحدها القائمة بالمقيد، ويوجد غيرها قائمة بالمطلق، فيكفي الإطلاق في المطلق لإحرازه من غير معارضة المقيد له، أي ان (البيع بالعربية سبب) يطرد وجود خصوصيته في غيره من الأصناف، كالبيع بالفارسية، لكنه ساكت عن وجود خصوصية أخرى بديلة، في الفارسية مثلاً، تقتضي ثبوت الحكم له.
على أن القيد لو كان له مفهوم، خرج عن مبنى المبحث ومحله وهو المطلق والمقيد المثبتان ودخل في المتنافيين.
المطلق إذا كان في وقت الحاجة فهو نص فيعارض المقيد
ومما قد يستدل به للسيد المرتضى ما نقل عن الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره) من أن المقيد إنما يتقدم على المطلق، إذا لم يكن المطلق صريحاً في دلالته على الإطلاق وإلا فإنهما يتعارضان، وعلى ضوء ذلك فصل بين كون المطلق متعرضاً لحكم ترخيصي مع كونه في وقت العمل والحاجة، فلا ريب حينئذٍ في انه مراد جدي للمولى، ولا يعقل ان يحمل على المقيد لأنه يستلزم إلقاء العبد في المفسدة، إذا كان محرماً أو تفويت المصلحة إذا كان واجباً، عكس ما لو كان المطلق دليلاً تحريمياً فإن إطلاقه وإن لم يكن مراداً جداً غير ضار إذ غاية الأمر اجتناب العبد عنه، عن المباح، وليس هذا بضرر.
فقد نقل عنه قوله: (إن حمل المطلق على المقيد يكون في الحالات التي لا يتوافر فيها دليل صريح على إطلاق المطلق، وذلك لأن المطلق في مثل هذه الظروف يكون له حكم النص، ولا يمكن العدول عنه وحمله على المقيد. وبالتالي، يجب التعامل مع الدليلين وفقاً لقواعد باب التعارض. ثم يضيف: من الحالات التي يجب فيها اعتبار المطلق صريحاً في إطلاقه هي عندما يذكر حكماً ترخيصياً بشكل مطلق في وقت الحاجة إلى بيان الحكم، لأنه إذا لم يكن المراد الجدي من الدليل المطلِق للترخيص مطابقاً لظاهره الذي هو الإطلاق، فإن هذا يؤدي إلى الوقوع في المفسدة أو تفويت المصلحة. وذلك لأنه قد يحدث أن المكلف يقدم على فعل نفس الفرد المحرم غير المحكوم بالإباحة استناداً إلى الترخيص المطلق، قبل أن يطّلع على الدليل المقيد.
ولكن إذا كان الدليل المطلق تحريماً وكان بعض أفراده في الواقع مباحاً، فإن المكلف لن يقع في مفسدة أو يفوت مصلحة إذا ترك الفعل بسبب جهله بالدليل المقيد، لأنه لم يتضرر بتركه للمباح.
من هنا، يمكن للمتكلم أن يحكم بالتحريم معتمداً على الدليل المقيد من دون أن ينشأ عن ذلك أي أثر فاسد. وبالتالي، إذا كان الدليل المطلق ترخيصياً، يجب اعتباره صريحاً في إطلاقه، وان يُعتبر الدليل المقيد معارضاً له. أما إذا كان الدليل المطلق تحريماً، فإنه بقرينة المقيد يُحمل على المقيد، وينطبق ذلك أيضاً على العام والخاص)[4].
وسيأتي إيضاحه بالأمثلة، كما ستأتي مناقشة فيه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق )عليه السلام): ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْرِفُنَا أَنْ يَعْرِضَ عَمَلَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونَ مُحَاسِبَ نَفْسِهِ، فَإِنْ رَأَى حَسَنَةً اسْتَزَادَ مِنْهَا، وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ مِنْهَا لِئَلَّا يَخْزَى يَوْمَ الْقِيامَةِ)) تحف العقول ص301.
أسئلة:
- أوضح الصورة الثالثة من كلام المشكيني (قدس سره) ووجهه، وأوضح إشكالنا عليه.
- أوضح استدلالنا بقضية احتمال الخصيصتين وبيّن ما هو فرقه عن تعدد المطلوب الذي سبق.
- أوضح كلام المحقق الحائري.
[2] كفاية الأصول مع حواشي المحقق المشكيني: ص516-517.
[3] وإن كان الأمر فيها بعيداً جداً، إذ هي إما القذارة العرفية وهي واقعية، أو النجاسة الشرعية المعهودة وهي شرعية وليس أمراً معتبراً عقلائياً.
[4] شيبري زنجاني، موسى، كتاب نكاح، مؤسسة بژوهشي راي برداز: ج7 ص2102.