بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(100)
إجراء الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي
سبق: أنّ السيّد القمّي (قدس سره) ذهب إلى أنه لا محذور في أن يجري المكلَّفُ الأصلَ، كاستصحاب عدم كون هذا التراب مغصوباً أو هذا الماء مضافاً أو نجساً، في أحد طرفي العلم الإجمالي مشروطاً بترك الآخر، وأنه حيث قد يستُشكل عليه بأنّه إن ترك كليهما لزم ترخيص الشارع له فيهما، إذ قد تحقّق شرطهما.
فأجاب، بما نعبّر عنه بعبارة أُخرى، بأنّه لا إشكال في ذلك، سواء على مستوى العقل النظري أم على مستوى العقل العملي:
لا إشكال فيه على مستوى جعل الشارع
أ- أمّا على مستوى العقل النظري وجعل الشارع، فلأنه لا تضادّ بين الأحكام الشرعية. (وعليه: فالحكم الواقعي بالحرمة ثابت، ببركة العلم الإجمالي، والترخيص في الطرفين ثابت ببركة جريان الأصلين بعد إذ ترك ارتكابهما، فمادام تاركاً لهما فهو مُرخَّص في اقتحامهما). ويمكن اجتماع الحكم الواقعي بالحرمة مع الحكم الظاهري بالترخيص، كمطلق موارد جريان الأصل عندما يكون على خلاف الواقع.
ولكن قد يُورد عليه، إضافةً إلى الإشكال في المبنى من أن التضاد والتناقض ممتنعان في كل العوالم، أنّ اجتماع الظاهري والواقعي وإن صحّ، لكن ذلك ما لم يصل الواقعي إلى مرتبة التنجز، وإلّا فإنه لا يُعقل جعل حكم ظاهري على الضدّ منه أو النقيض. وفي المقام، الفرضُ قيامُ العلم الإجمالي، واجتماعُ شروطه من كون الشبهة محصورة، وكون الأطراف مورد الابتلاء... إلخ؛ فقد تنجز في مرتبة سابقة على جريان الأصل، فلا يمكن أن يجري الأصل، فإنّه محكومٌ به لا العكس. فتدبّر.
وفيه: أن ذلك لكذلك لو لم يتدخل الشارع، وإلا فإنّ له أن لا يعتبر العلم الإجمالي منجزاً في أحد الطرفين (الذي اختار المكلَّف إجراء الأصل فيه) بل في كليهما، بناءً على أنه مقتضٍ لحرمة المخالفة القطعية لا علّة. وفيه: أنه علّة على الطريقية.
ولا إشكال فيه على مستوى عمل المكلَّف
ب- وقال: ولا يرد إشكال على مستوى العقل العملي، أي على مستوى فعل المكلَّف، لأنّه إذا تركهما رخّص له الشارع فيهما (أي رخّص بأن يتيمّم بهما فعلاً)، ولا محذور في هذا عملاً، إلّا[1] على مستوى التشريع والعقل النظري، وقد سبق الجواب عنه. فإنّ مجرد الترخيص في المحرّم، وهو المعلوم إجمالاً بينهما، لا يستلزم ارتكابه.
فإن قلت: إنه مادام قد رخّص له فيهما، فله أن يرتكبهما.
قلت: بمجرد أن يرتكب أحدهما، فقد انتفى شرط ترخيص الآخر (إذ شرط ترخيص ذاك أن يترك هذا، ولكنه لم يتركه وقد فعله، فقد حرُم عليه ذاك)، فلم يعد مرخّصاً فيه، فلا يوجب ترخيص الشارع له فيهما إن تركهما، إيقاع المكلَّف ولا وقوعه، عملاً، في الحرام.
وقد يُجاب بلزوم الإشكال لو فعلهما معاً.
وفيه: إنّه إذاً ليس تاركاً لهما حينئذٍ.
إشكالان على إجراء الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي
ولكن يبقى إشكالان على دعواه (قدّس سرّه) جريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي:
1- إنه مخالف لبناء العقلاء وطريقتهم
الأول: إنّ هذا مخالف لبناء العقلاء وطريقتهم، سواء في الشؤون الخطيرة، أم العادية، أم حتى في المنفّرات والمكروهات؛ ألا ترى أنه لو وقع في أحد الإناءين سمّ، أو بول ممّا هو ممنوع عندهم أيضاً، أو ذباب، أو بصاق، ممّا هو منفّر عندهم، فإنّه لا يوجد عاقل يُجري الاستصحاب في أحد الإناءين، في الصور الثلاث، فيشربه إلا لو كان مما لا بأس به عنده حتى مع العلم التفصيلي به.
وذلك واضح، بناءً على أنّ عمدة الدليل على حجية الاستصحاب هو بناء العقلاء، وأن الروايات إنما هي مرشدة له.
وأمّا على القول بأنّها ممضية له، فالظاهر أنّ الأمر كذلك، إذ الظاهر إمضاؤها لما بنى عليه العقلاء، بدون زيادة ولا نقيصة إلا فيما نُصّ عليه، وإلّا لوجب الإلفات. بعبارةٍ أخرى: بناء العقلاء بقيوده بمثابة القرينة الحافّة التي تمنع انعقاد الإطلاق لأدلّة الاستصحاب، فلا تشمل ما لا يرى العقلاء شموله له، إلا إذا نصّ الشارع عليه.
وأمّا على القول بأنّها تعبّدٌ صرف، فللقول بذلك مجال[2]، إلا أن يرد عليه بأنّه خلاف مرتكز المتشرّعة، كما سبق، ولذا بنى المشهور على لزوم اجتنابهما.
2- إنه من الترجيح بلا مرجح
الثاني: إنه[3] ترجيح بلا مرجح، ودعوى إن إرادة المكلَّف مرجّحة غير نافعة، بعد لزوم كون المرجّح مما دل عليه الدليل. توضيحه: إنه سبق (ويمكن أن نتبرع لمبناه ببعض الوجوه:
منها: أنّ قولهم: الأصل لا يجري في أحد الطرفين نظراً لمعارضته بالأصل الجاري في الطرف الآخر ولا مرجح، يمكن أن يجاب فلسفياً بأن المرجح هو اختيار المكلف لأحدهما، فهو كما أجيب به عن شبهة طريقي الهارب وماءي الشارب، من انّ المرجح هو إرادة الشخص، فليس إذاً من الترجّح بلا مرجح، وفيه ما فيه؛ إذ الظاهر لزوم كون المرجح قائماً بأحدهما لا بأمر أجنبي)[4].
وتوضيحه: أوّلًا، مبنىً: إنّ الترجيح بلا مرجّح يعود إلى الترجّح بلا مرجّح، وهو محال، لأنّه يعني وجود المعلول بلا علّة، وعليه: فلا يمكن أن تتعلق إرادتك بأحد الطرفين إلا بمرجح، فإن رُفض هذا المبنى بالقول بعدم رجوعه إليه، وأن الإرادة بذاتها مرجّحة من دون أن تحتاج إلى مرجّح خارج عنها، كما هو المنصور، أجبنا:
ثانيًا: إنّ الترجيح بلا مرجّح، وإن أمكن وقوعاً، لكنه لا دليل عليه في المقام إثباتاً، أي لا يوجد دليل على أن الشارع فوّض للمكلَّف اختيار أحد إجراء أحد الأصلين. توضيحه:
المرجِّح ثلاثة أنواع، ثالثها ليس حجة
إنّ المرجّح على ثلاثة أقسام: فإمّا أن يقوم بالمتعلَّق، أو بالدليل، أو هو قائم بأمرٍ ثالثٍ أجنبي، كالإرادة.
فأما الترجيح بحسب المرجّح الكائن في المتعلَّق، ككون أحدهما أهمّ (ككون أحد الغريقين، نبياً والآخر عادياً)، وهو المندرج في باب التزاحم، فلا شكّ فيه، بحسب حكم العقل والعقلاء والمتشرّعة.
وأما الترجيح بحسب المرجّح لأحد الدليلين على الآخر، وهو المندرج في باب التعارض، فلا إشكال في إمكانه ووقوعه: فأمّا في التعارض المستقرّ، فالترجيح بحسب المرجّحات السندية (أو حتى الجهوية، على رأي)، وأمّا في غير المستقرّ، فالترجيح بحسب الدلالة: من حكومة أو أظهريّة (الخاص أظهر من العام، والأدلّة الثانوية حاكمة على الأوليّة، وإن لم تكن أظهر إلا بحسب مسلك المحقّق العراقي).
وأمّا الترجيح بغيرهما، كإرادة المكلَّف، فإنه وإن أمكن أن يوكل الشارع الأمر إلى اختيار المكلَّف، لكن لا دليل عليه.
اعتراض: يُرفع اليد عن إطلاق دليل الأصل الأحوالي فيفيد التخيي ر ولكن قد يُعترض بوجود الدليل على تخيير المكلّف (فتكون إرادته هي المرجّح حينئذٍ)، وهو الدليل الدال على حجية الأصل نفسه، وذلك بما ذكروه من أن للدليل الدال على حجية الأصل، كصحيحة زرارة الدالة على حجية الاستصحاب، إطلاقين: إطلاقاً أفرادياً، إذ تشمل به الصحيحة كلا الترابين المشتبهين، وإطلاقاً أحوالياً، إذ تشمل حالاتهما أيضاً، أي أن الاستصحاب جارٍ في هذا الطرف، سواء ءأجرّيته في الطرف الآخر أم تركته، وبالعكس، والتعارض في الواقع ناشئ من الإطلاق الثاني لا الأول، لأننا إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الأحوالي لم يصطدم الأصلان إذ كان معناه نفس التخيير الذي ذكره السيد القمي، إذ المفاد حينئذٍ هو: استصحب هذا الطرف، ولكن لا مطلقاً، بل إذا تركت الطرف الآخر، وبالعكس، ولا تعارض ولا صدام بينهما، فإذا كان التعارض ناشئاً من الإطلاق الأحوالي، رفعنا اليد عنه فقط، ولا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الإفرادي. وعليه: يشمل كلا الترابين الاستصحابُ، لكن في حالة ترك الآخر، لا مطلقاً (أي لا مع إجراء الاستصحاب في الآخر أيضاً). وستأتي مناقشة ذلك بإذن الله تعالى.
عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): «أَنَّ السَّعِيدَ كُلَّ السَّعِيدِ حَقَّ السَّعِيدِ مَنْ أَحَبَّ عَلِيّاً فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَأَنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ حَقَّ الشَّقِيِّ مَنْ أَبْغَضَ عَلِيّاً فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ»
الأمالي (للصدوق): ص182
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين