265- دفاعاً عن الشيخ في استدلالة برواية المعازف واشكال آخر ـ تحقيق من ( الباطل ) وعدم صحة استدلال الشيخ بامثال ( كل لهو المؤمن باطل ... )
الثلاثاء 2 صفر الخير 1436هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
حرمة اللهو واللعب واللغو والعبث
(27)
مدخلية العلة الغائية في تحريم المعازف والملاهي
سبق استدلال الشيخ برواية ((لَمَّا مَاتَ آدَمُ ( عليه السلام ) شَمِتَ بِهِ إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ فَاجْتَمَعَا فِي الْأَرْضِ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ الْمَعَازِفَ وَالْمَلَاهِيَ شَمَاتَةً بِآدَمَ ( عليه السلام ) فَكُلُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي يَتَلَذَّذُ بِهِ النَّاسُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ذَاك))([1])
كما سبق الإشكال عليه بشاهدين من الرواية على انه ليس (المناط هو مطلق التلهي والتلذذ) كما قال الشيخ، ولنضف شاهداً ثالثاً وهو:
الشاهد الثالث: ان ظاهر الرواية على فرض استفادة التحريم منها([2]) هو مدخلية العلة الغائية وهي الشماتة بآدم ( عليه السلام ) في تحريم المعازف والملاهي ولا أقل من احتمال مدخليتها، ومن الواضح ان هذا العنوان (الشماتة) غير متحقق في مطلق التلهي والتلذذ فان منه اللهو مع الصبي ومع الزوجة وبالسباحة وركوب الخيل والرماية ونظائرها ولا ريب ان منشأها ليس إبليس ولم تجعل شماتة بآدم، بل هو متحقق في خصوص آلات اللهو وبعض أنواع اللهو، فليس المناط هو (مطلق التلهي والتلذذ) بل المسلّم منه – إن لم يكن ظاهره – هو 1- ما وضع وضعاً لهوياً أ- كآلات اللهو فانها موضوعة وضعاً لهوياً ولذا لا يحرم المشترك منها ب- وكبعض أنواع اللهو كالرقص، 2- وما كان بحسب طبعه أو وضعه متناسياً مع الشماتة اما ما جعل لغرض آخر وان قارنه اللهو غالباً أو أحياناً بل حتى دائماً فانه لا يحرم إذ لم يوضع للهو ولا للشماتة ومنه: ملاعبة الصبي والزوجة وأمثال السباحة فان الأول وضع لتنمية الصبي وضمان سلامته النفسية وتوازنه الروحي وشد أواصر المحبه معه ليرشد وينمو ويكبر على الحب والرحمة لا على البغضاء والعداوة وإن لازمه التلذذ والتلهي، والثاني جُعل لحفظ النسل وشد أواصر الأسرة وإن لازمته اللذة وقد جعلها الله تعالى في النكاح ببالغ حكمته إذ لولا التلذذ لاعرض غالب الناس عن ذلك مما يستلزم تحطم الأسرة غالباً وانقطاع النسل، والثالث جعل مقدمة للجهاد أو للصحة الجسمية والنفسية بل والعقلية وان قارنه التلذذ غالباً.
دفاعاً عن الشيخ: الملاهي جمع المصدر الميمي فالمناط التلذذ
ولكن قد يجاب عن القرائن الثلاثة دفاعاً عن الشيخ بان المبنى فيها هو كون (الملاهي) في الرواية جمع الملهاة اسم آلة فيكون عطف الملاهي على المعازف عطفاً للعام على الخاص، لكن ذلك غير معلوم إذ لعل الملاهي هي جمع الملهى مصدراً ميمياً فيكون عطفها على المعازف عطفاً للمبائن على المباين.
الجواب
وفيه: أولاً: ان صِرف الاحتمال لا يفي لكشف المناط الذي ذكره الشيخ، بل لا بد من الدليل بل سبق استظهار البعض ان الملاهي جمع الملهاة فراجع.
ثانياً: سلمنا لكن كون الملاهي جمع الملهي مصدراً لا يتكفل بدفع أي واحد من القرائن الثلاثة الدالة على ان المحرم هو (هذا الضرب من المعازف واللهو) و(ذلك الذي نشأ من فعل إبليس) و(كانت غايته الشماتة). فتدبر جيداً
تحقيق معنى (الباطل) في الآيات والروايات واللغة والعرف
كما سبق استدلال الشيخ على (ما دل على ان اللهو من الباطل بضميمة ما يظهر منه حرمة الباطل) بـ ((كُلُ لَهْوِ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ... ))(([3])) وسبق جوابنا عن الإشكال عليه بان الاستعمال أعم من الحقيقة.
ولكن قد يورد عليه: ان (الباطل) له إطلاقات بعضها عام وبعضها خاص وبعضها أخص ولا محرز لكونه في هذه الروايات بالمعنى الأخص المساوق للحرام.
وتحقيق ذلك يتوقف على تحقيق معاني الباطل وتتبع موارد استعماله فان الظاهر ان له معاني عديدة اما بنحو الاشتراك اللفظي أو بنحو الاندراج تحت الجامع كما سيجيء
ومنها: الفاسد، وهو يشير إلى الشيء في حد ذاته.
ومنها: الزائل، وهو المشير للشيء بلحاظ بقائه واستمراره زمناً، ونظيره تفسيره بـ: الذي لا ثبات له.
ومنها: غير المطابق للواقع، ولم أجد من ذكره من اللغويين، مع انه من أظهر إطلاقاته إذ يقال مثلاً كلام باطل أي غير مطابق للواقع.
ومنها: الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة أو نتيجة له.
ومنها: الحرام الذي لا يجوز فعله.
ولنقتبس أهم ما قاله عدد من أئمة اللغة:
قال في معجم مقاييس اللغة (ذهاب الشيء وقلة مُكثه ولُبثه) أقول: ذهاب الشيء أعم من قلة لبثه إذ قد يطول بقاؤه ثم يذهب فهو باطل بهذا اللحاظ، ثم انه غفل عن المعنى السابق مرتبةً على الذهاب وهو بطلانه في نفسه كشريك الباري.
وقال (سمي الشيطان باطلاً لأنه لا حقيقة لأفعاله) أقول هذا إحدى وجوه تسميته بالباطل وتظهر الوجوه الأخرى بالتدبر.
وقال الراغب: (الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ...)([4]) أقول الباطل في الآية أعم مما فسره به بل يشمله وعدداً آخر من معاني الباطل، وقال (بطل دمه إذا قتل ولم يحصل له ثأر ولا دية) وقال (قيل للشجاع المتعرض للموت، بطل تصوّراً لبطلان دمه).
أقول: اختلفوا في وجه تسمية البطل بالبطل ولعل المستظهر ان وجهه هو ان الأهوال والمخاطر تبطل لديه فلا تأثير لها عليه وعلى عزمه وشجاعته إذ شأن الأهوال ان تخيف الرجال وان تشرِّدهم لكنها تبطل عند مواجهة الأبطال! وقد يكون الوجه: لأنه يبطل لديه دم عدوه إذ لا يقدر أولياؤه على المطالبة به والثأر له أو أخذ الدية منه، وقد يكون الوجه – وهو أضعف - الوجوه انه يبطل دمه باقتحامه في الأهوال.
وقال في لسان العرب (بَطَل يبطل بُطلا وبطولاً. ذهب ضياعاً وخسرانا) وهو منطبق على الذات وعلى الثمرات. فتدبر
وللحديث صلة بإذن الله تعالى.
تنبيه: أهمية علم فقه اللغة
فصلنا في (فقه مبادئ الاستنباط) ان من مبادئ الاستنباط هو علم فقه اللغة، والتدبر في هذا المثال (الباطل) ونظائره، وما أكثرها، يؤكد مدى مدخلية فقه اللغة في عملية الاستنباط، إضافة إلى ان فقه اللغة يفتح أمام ناظري الأصولي الفقيه والمفسر والمتكلم وغيرهم باباً نحو بحر من المعاني.
بل أقول ان علم فقه اللغة لو وُفِّيَ حقه لكان من أهم مظاهر إعجاز الله تعالى في الكون إذ تجلت عظمته في (الكلمات) أيضاً إذ كل كلمة فانها تختزن في داخلها بحراً من المعاني إذ لها ظاهر وبطون وجذور وترابطات و... ولعل ذلك من وجوه أو مصاديق قوله تعالى: ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)([5])
والحاصل: ان كل ما في الكون إعجاز لله رب العالمين ومن مظاهر إعجازه ان له عمقاً وبطوناً لا تتوقف عند حدّ، و(الكلمة) كـ(الذرة) فكلما تطور العلم والعقل والفهم والتجربة ازداد الإنسان معرفة ببعض غرائبها وعجائبها وأبعادها ومتضمَّناتها وعلومها.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) الكافي (ط – الإسلامية) ج6 ص431.
([2]) وإلا فانها تفيد المرجوحية نظراً لتلك العلة الغائية.
([3]) الكافي (ط – الإسلامية) ج5 ص50.
([4]) الحج: 62.
([5]) الكهف: 109.
الثلاثاء 2 صفر الخير 1436هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |