142-المختار: مرجعية (الاحتمال بدرجاته) لا الظن ولا القدر المتيقن الإضافي
الثلاثاء 5 ربيع الأخر 1444هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(142)
المختار: مرجعية (الإحتمال بدرجاته) لدى الإنسداد
سبق أنّ صاحب الفصول ذهب إلى مرجعية الظن الفعلي عند الإنسداد، حيث قال: (... ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدى طُرقُ مخصوصة. وحيث إنّه لا سبيل لنا غالباً إلى تحصيلها بالقطع ولا بطريق يقطع عن السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لأنه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه)([1])
وأنّ الشيخ ((قدس سره)) ذهب في إشكاله الثالث عليه إلى مرجعية القدر المتيقن الإضافي، لا الظن، حيث قال: (إلّا أنّ اللازم من ذلك هو الأخذُ بما هو المتيقن من هذه. فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه، وإلا فالمتيقنُ من الباقي.
مثلاً: الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحد بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول، فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل)([2]).
وقد مضى الفرق بين القولين.
ولكنّ الذي نستظهره هو رأي آخر وهو مرجعية (الإحتمال) وهو جنس له درجات، ودرجاته هي الإحتمال القوي وهو الظن، والإحتمال الضعيف أو المرجوح أو الموهون وهو الوهم، والمتوسط وهو الشك.. ونعتبر ذلك هو الإضافة الجوهرية على البدائل التي طرحها الأعلام في المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد، فهو بديل جديد غير المطروح فيها عادة من الظن، الإحتياط، البراءة، الأصول العملية، القرعة ورجوع الإنسدادي إلى الانفتاحي، فتدبر جيداً.
ولكن هذا المبنى بحاجة أولاً إلى بيان الفرق بينه وبين رأيي الأصفهاني والشيخ، وثانياً: إلى إقامة الدليل عليه.
الفرق بين مرجعية الإحتمال ومرجعية الظن
أما الفرق بين مرجعية الظن ومرجعية الإحتمال بدرجاته فأمور:
الأول: أن (الإحتمال) مقسم للظن وقسيميه، أما الظن فقسم.
الثاني: أن مرجعية (الإحتمال) تشكّل الحل لكل صور معضلة الإنسداد، عكس الظن، فإن القائل بمرجعية الظن لدى الإنسداد، إنما يقدم حلاً ناقصاً لا يفي إلا بحلّ المعضلة لدى وفاء المظنونات بجميع الأحكام أو معظمها، دون ما لو لم تفِ بها، فإنه حينئذٍ ينتقل إلى دائرة المشكوكات، المغايرة موضوعاً للمظنونات، ثم إن لم تفِ أيضاً انتقل إلى دائرة الموهومات المضادة للمظنونات، على أن انتقاله إلى هاتين الدائرتين إنما هو من باب آخر هو الإحتياط([3])، والحاصل: أن عليه تتميم مرجعية الظن لدى الإنسداد، بمرجعية غيره، عكس (الإحتمال) فإنه كما سبق مقسم للثلاثة فإن الإحتمال يصدق بالحمل الشائع الصناعي على الواحد بالمائة، بل الأقل المسمى بالوهم، ويتصاعد ليصل إلى 50% المسمى بالشك، ثم يتصاعد ليصل إلى 99% المسمى بالاطمئنان بل لا ينعدم حقيقةً إلا عند اليقين والعلم.
الثالث: أن الإحتمال مرجع لكونه بدرجاته كاشفاً، بقدره، عكس قسيمي الظن كما ظهر مما مضى.
الفرق بين مرجعية الإحتمال ومرجعية القدر المتيقن
وأما الفرق بين مرجعية القدر المتيقن الإضافي ومرجعية الإحتمال فأمران:
الأول: أن القدر المتيقن الذي طرحه الشيخ، هو القدر المتيقن الإضافي الأقوالي، بحسب ظاهر عبارته إذ قال: (إلّا أنّ اللازم من ذلك هو...).
أما الإحتمال بدرجاته فهو أعمّ إذ لا يقتصر على القدر المتيقن الأقوالي، بل مفاده أن كل ما كان احتماله أقوى من غيره فهو المرجع لدى الإنسداد دون ذلك الغير لأنه أرجح منه عقلاً، سواء كان وجه كونه أقوى كونه المتيقن من القولين، أو أي جهة أخرى ككون احتماله أقوى من جهة مطابقة مضمونه لمقاصد الشريعة وإن لم يقل بحجيتها أحد أو مطابقته للإستقراء الناقص أو حتى مطابقته للقياس الأولوي مع القول بعدم حجيته، فإنه إذا أوجد قوة في الإحتمال، كان المرجع ذلك الإحتمال الأقوى لا القياس الأولوي ليقال إنه مردوع عنه، وبعبارة أخرى القياس الأولوي واسطة في الثبوت([4]) لا العروض.
بل إن حصر الشيخ ((قدس سره)) القدر المتيقن الإضافي بما كان بين القولين أو الأقوال يخالف مختاره العام الذي ردّ به على صاحب الفصول الذي ارتأى حجية الظن بالطريق دون الظن بالواقع فعارضه الشيخ بأن مقتضى القاعدة حجيتهما إذ الملاك الواقع والوصول إليه([5]) سواء عبر الطريق المنصوب أم بدونه، ومع هذا المبنى كيف يحصر الشيخ القدر المتيقن الإضافي في الأقوالي؟
نعم يمكن أن يدافع عنه بأن قوله (إذ لم يقل أحد...) كان من باب التمثيل لا التعيين. فتأمل.
الثاني: أن القدر المتيقن الإضافي موقوف على وجود مضاف إليه أضعف، بل قوامه وجوهره بذاك، فمن دونه لا يتحقق فلا يكون هناك مرجع حينئذٍ لدى الإنسداد، أما الإحتمال فلا يتوقف على وجود محتمل آخر أضعف منه.
لا يقال: لا يعقل ذلك؟
إذ يقال: إنما لا يعقل لو وجد بديل آخر فإنه إما أقوى أو مساو أو أضعف، دون ما لو لم يوجد، إذ يكون من السالبة بانتفاء الموضوع والمقصود بـ(لو لم يوجد) في عالم الإثبات والأدلة ولو الضعيفة عليه، لا في عالم الثبوت والواقع. بل يمكن تصويره في عالم الثبوت أيضاً كما لو دار الأمر بين النقيضين وان هذا إما طريق أو لا، واحتملنا كونه طريقاً بنسبة 30% ولم يكن بديل آخر، فإن نقيض كونه طريقاً هو عدمه وهو ليس بطريق.
سلّمنا، لكنه لا يتوقف على لِحاظه. فتدبر.
الدليل على مرجعية الإحتمال
وأما الدليل على مرجعية الإحتمال فهو، لدى الإنسداد، العقل وترجيح الراجح واللامناصية، وهو نفس الدليل الذي تمسك به الفصول والمشهور لمرجعية الظن (لأنه أرجح من الشك والوهم)([6]) والذي تمسك به الشيخ لمرجعية القدر المتيقن الإضافي باعتبار انه أرجح بالنسبة إلى غيره.
ووجه شهادة العقل واضح: وهو أن الإحتمال بدرجاته راجح ولا يتوقف الحكم بمرجعيته على وجود مرجوح ليكون وجه الحكم هو كونه أرجح، إضافة إلى ذلك فإنهما، أي الفصول والشيخ ينتقلان من الظن إلى الشك (لدى عدم وفاء المظنونات) ثم إلى الوهم لدى عدم وفاء المظنونات والمشكوك بحكم العقل ولو للإحتياط، والإحتمال بدرجاته ليس خارجاً عن الثلاثة فلاحظ.
وبوجه آخر: للإحتمال آثار وأحكام، بما هو هو، كما له آثار وأحكام متفصّلاً بكلٍّ من فصل القوي (فيساوي الظن) والمتوسط المتكافئ (فيساوى الشك) والضعيف (فيكافئ الوهم).
للإحتمال الموهوم أثرٌ
أما الأخير([7])، فلما فصّلناه في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها) من ثبوت الآثار والأحكام للوهم أيضاً وأشكلنا تبعاً لذلك على الشيخ في تثليثه للأقسام فقد ذكرنا: (قال الشيخ: "اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن...".
وهو تقسيم أوليّ بلحاظ (حالات المكلف) باعتبارها موضوعاً للحكم أو ظرفاً له، مجرى له أو دليلاً عليه([8])، فلا يرد عليه تداخل الأقسام من حيث الأحكام.([9])
الحالة الرابعة للمكلف: (الوهم)
والتحقيق: إن البحث عن حالات المكلف، وأنها إما (قطع) أو (ظن) أو (شك)، يقع في جهات، ومنها: أن (المنفصلة) غير حاصِرة، وذلك لوجود حالة رابعة، هي (الوهم)، أي (المحتمل احتمالاً مرجوحاً) في مواطن تكليفه، فهل الأصح الإقتصار على الثلاثة بدعوى أنها هي فقط منشأ الأثر والفائدة؟ أم أن (اللازم) إضافته لتتربع الأقسام؟ لا لرجحان مطابقة الإثبات للثبوت فقط، بل لكونه منشأ الأثر أو مورده أيضاً؟ كما سيأتي إن شاء الله تعالى)([10]).
الإحتمال بما هو هو منشأ للأثر
أما الأول: فلأن الإحتمال بما هو هو، منشأ للأثر وموضوع للأحكام، كما يتصف بالحجية سواء أفسرنا الحجية بالكاشفية أم بمعنى المنجزية والمعذرية أم بمعنى لزوم الإتباع، وهو يتصف بذلك كله في صورة الإنفتاح فكيف بصورة الإنسداد؟
وإتصافه بالحجية ومنشأية الأثر والموضوعية للحكم مما تحفل به المسائل الفقهية كالأصولية:
أما الفقهية، فمثل الإحتمال في الشؤون الخطيرة، كالدماء والفروج، فإنه منجّز، بما هو احتمال، سواء أكان قوياً أم متوسطاً أم ضعيفاً، فهو حكم للمقسم بما هو مقسم.
وكذلك الإحتمال في باب القضاء والحدود والتعزيرات فإن (الحدود تدرأ بالشبهات) فلو حدثت للقاضي شبهة ولو ضعيفة دُرِء الحدُّ.
وقد ذكرنا في كتاب (الحجة): (من أحكام (الوهم) وآثاره:
منها: أن (الإحتمال المرجوح) قد يكون (مسقطاً للحكم) أو (معذراً)، وذلك كما في باب الحدود حيث (تدرأ الحدود بالشبهات) في كل (الأقسام الخمسة) للشبهة، أي سواء كانت شبهة المجتهد المرجع، أم شبهة القاضي، أم شبهة الشاهد، أم شبهة المدعي، أم شبهة المدعى عليه أو الجاني والمتهم([11])، ثم سواء أكانت شبهة حكمية([12]) أم موضوعية،([13]) في الجملة.([14]) وذلك على ما حقق في محله في كتاب الحدود والتعزيرات.([15])
نعم، لابد من صدق (الشبهة) عليه، إذ صرف (احتماله موهوماً) لا يسقط الحد، وعليه فالأثر أثر (الشبهة) لا (الإحتمال)، ويظهر جوابه مما سيأتي في الجواب عن أن (العلم الإجمالي) هو المنجِّز أو (الإحتمال)؟)([16]) وقد حققنا أن الأثر (أي دُرِأ الحدُّ) هو أثر الإحتمال (المقسم) وليس أثر بعض أقسامه. وللبحث صلة فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله ((صلى الله عليه و اله و سلم)): ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: تَذَاكُرُ الْعِلْمِ بَيْنَ عِبَادِي مِمَّا تَحْيَا عَلَيْهِ الْقُلُوبُ الْمَيْتَةُ إِذَا هُمُ انْتَهَوْا فِيهِ إِلَى أَمْرِي))(الكافي: ج1 ص40).
----------------------------------
([1]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص277.
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444.
([3]) لفرض عدم كونها مظنونة.
([4]) (ثبوت الحجية للإحتمال).
([5]) الأقربية للإصابة، بوجه آخر.
([6]) قال في الفصول ص277: (لأنه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه) كما سبق نقله.
([7]) الأخير من الأخيرين.
([8]) فالوهم، كالشك، مثلاً، مجرى للحكم بالبراءة، لا على مسلك حق الطاعة، وهو، كالظن المعتبر، دليل على الحكم، عليه، في الجملة؛ إذ يكون حجة على الإشتغال.
([9]) وأن (الظن) مثلاً، إما ملحق بـ(الشك) إن لم يكن حجة، أو ملحق بـ(القطع) إن كان حجة.
([10]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص205.
([11]) وقد يضاف لها شبهة مُجرِي الحد ـ في الجملة.
([12]) كما لو حدثت للمرجع أو القاضي شبهة في عدم إجراء حد المرتد على (المرتد الأجوائي).
([13]) كما لو حدثت شبهة في كون هذا (حِرزاً) أم لا، أو كونه (ذكراً) لاحتمال كونه (خنثى) أو ما أشبه ـ فتأمل.
([14]) إنما قلنا (في الجملة) لعدم إسقاط (الشبهة) للحدود في كل الصور العشرة، إذ لا تسقط شبهة (الشاهد) الحكمية، الحدَّ وإن أسقطته شبهة المرجع أو القاضي أو الجاني مثلاً.
([15]) وكما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره في موسوعة الفقه، في كتبه التالية (القضاء) (الحدود والتعزيرات) (الحقوق) (القانون) (الدولة الإسلامية).
([16]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص209-210.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
وأنّ الشيخ ((قدس سره)) ذهب في إشكاله الثالث عليه إلى مرجعية القدر المتيقن الإضافي، لا الظن، حيث قال: (إلّا أنّ اللازم من ذلك هو الأخذُ بما هو المتيقن من هذه. فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه، وإلا فالمتيقنُ من الباقي.
مثلاً: الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحد بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول، فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل)([2]).
وقد مضى الفرق بين القولين.
ولكنّ الذي نستظهره هو رأي آخر وهو مرجعية (الإحتمال) وهو جنس له درجات، ودرجاته هي الإحتمال القوي وهو الظن، والإحتمال الضعيف أو المرجوح أو الموهون وهو الوهم، والمتوسط وهو الشك.. ونعتبر ذلك هو الإضافة الجوهرية على البدائل التي طرحها الأعلام في المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد، فهو بديل جديد غير المطروح فيها عادة من الظن، الإحتياط، البراءة، الأصول العملية، القرعة ورجوع الإنسدادي إلى الانفتاحي، فتدبر جيداً.
الأول: أن (الإحتمال) مقسم للظن وقسيميه، أما الظن فقسم.
الثاني: أن مرجعية (الإحتمال) تشكّل الحل لكل صور معضلة الإنسداد، عكس الظن، فإن القائل بمرجعية الظن لدى الإنسداد، إنما يقدم حلاً ناقصاً لا يفي إلا بحلّ المعضلة لدى وفاء المظنونات بجميع الأحكام أو معظمها، دون ما لو لم تفِ بها، فإنه حينئذٍ ينتقل إلى دائرة المشكوكات، المغايرة موضوعاً للمظنونات، ثم إن لم تفِ أيضاً انتقل إلى دائرة الموهومات المضادة للمظنونات، على أن انتقاله إلى هاتين الدائرتين إنما هو من باب آخر هو الإحتياط([3])، والحاصل: أن عليه تتميم مرجعية الظن لدى الإنسداد، بمرجعية غيره، عكس (الإحتمال) فإنه كما سبق مقسم للثلاثة فإن الإحتمال يصدق بالحمل الشائع الصناعي على الواحد بالمائة، بل الأقل المسمى بالوهم، ويتصاعد ليصل إلى 50% المسمى بالشك، ثم يتصاعد ليصل إلى 99% المسمى بالاطمئنان بل لا ينعدم حقيقةً إلا عند اليقين والعلم.
الأول: أن القدر المتيقن الذي طرحه الشيخ، هو القدر المتيقن الإضافي الأقوالي، بحسب ظاهر عبارته إذ قال: (إلّا أنّ اللازم من ذلك هو...).
أما الإحتمال بدرجاته فهو أعمّ إذ لا يقتصر على القدر المتيقن الأقوالي، بل مفاده أن كل ما كان احتماله أقوى من غيره فهو المرجع لدى الإنسداد دون ذلك الغير لأنه أرجح منه عقلاً، سواء كان وجه كونه أقوى كونه المتيقن من القولين، أو أي جهة أخرى ككون احتماله أقوى من جهة مطابقة مضمونه لمقاصد الشريعة وإن لم يقل بحجيتها أحد أو مطابقته للإستقراء الناقص أو حتى مطابقته للقياس الأولوي مع القول بعدم حجيته، فإنه إذا أوجد قوة في الإحتمال، كان المرجع ذلك الإحتمال الأقوى لا القياس الأولوي ليقال إنه مردوع عنه، وبعبارة أخرى القياس الأولوي واسطة في الثبوت([4]) لا العروض.
بل إن حصر الشيخ ((قدس سره)) القدر المتيقن الإضافي بما كان بين القولين أو الأقوال يخالف مختاره العام الذي ردّ به على صاحب الفصول الذي ارتأى حجية الظن بالطريق دون الظن بالواقع فعارضه الشيخ بأن مقتضى القاعدة حجيتهما إذ الملاك الواقع والوصول إليه([5]) سواء عبر الطريق المنصوب أم بدونه، ومع هذا المبنى كيف يحصر الشيخ القدر المتيقن الإضافي في الأقوالي؟
نعم يمكن أن يدافع عنه بأن قوله (إذ لم يقل أحد...) كان من باب التمثيل لا التعيين. فتأمل.
الثاني: أن القدر المتيقن الإضافي موقوف على وجود مضاف إليه أضعف، بل قوامه وجوهره بذاك، فمن دونه لا يتحقق فلا يكون هناك مرجع حينئذٍ لدى الإنسداد، أما الإحتمال فلا يتوقف على وجود محتمل آخر أضعف منه.
إذ يقال: إنما لا يعقل لو وجد بديل آخر فإنه إما أقوى أو مساو أو أضعف، دون ما لو لم يوجد، إذ يكون من السالبة بانتفاء الموضوع والمقصود بـ(لو لم يوجد) في عالم الإثبات والأدلة ولو الضعيفة عليه، لا في عالم الثبوت والواقع. بل يمكن تصويره في عالم الثبوت أيضاً كما لو دار الأمر بين النقيضين وان هذا إما طريق أو لا، واحتملنا كونه طريقاً بنسبة 30% ولم يكن بديل آخر، فإن نقيض كونه طريقاً هو عدمه وهو ليس بطريق.
سلّمنا، لكنه لا يتوقف على لِحاظه. فتدبر.
ووجه شهادة العقل واضح: وهو أن الإحتمال بدرجاته راجح ولا يتوقف الحكم بمرجعيته على وجود مرجوح ليكون وجه الحكم هو كونه أرجح، إضافة إلى ذلك فإنهما، أي الفصول والشيخ ينتقلان من الظن إلى الشك (لدى عدم وفاء المظنونات) ثم إلى الوهم لدى عدم وفاء المظنونات والمشكوك بحكم العقل ولو للإحتياط، والإحتمال بدرجاته ليس خارجاً عن الثلاثة فلاحظ.
وبوجه آخر: للإحتمال آثار وأحكام، بما هو هو، كما له آثار وأحكام متفصّلاً بكلٍّ من فصل القوي (فيساوي الظن) والمتوسط المتكافئ (فيساوى الشك) والضعيف (فيكافئ الوهم).
وهو تقسيم أوليّ بلحاظ (حالات المكلف) باعتبارها موضوعاً للحكم أو ظرفاً له، مجرى له أو دليلاً عليه([8])، فلا يرد عليه تداخل الأقسام من حيث الأحكام.([9])
وإتصافه بالحجية ومنشأية الأثر والموضوعية للحكم مما تحفل به المسائل الفقهية كالأصولية:
أما الفقهية، فمثل الإحتمال في الشؤون الخطيرة، كالدماء والفروج، فإنه منجّز، بما هو احتمال، سواء أكان قوياً أم متوسطاً أم ضعيفاً، فهو حكم للمقسم بما هو مقسم.
وكذلك الإحتمال في باب القضاء والحدود والتعزيرات فإن (الحدود تدرأ بالشبهات) فلو حدثت للقاضي شبهة ولو ضعيفة دُرِء الحدُّ.
وقد ذكرنا في كتاب (الحجة): (من أحكام (الوهم) وآثاره:
منها: أن (الإحتمال المرجوح) قد يكون (مسقطاً للحكم) أو (معذراً)، وذلك كما في باب الحدود حيث (تدرأ الحدود بالشبهات) في كل (الأقسام الخمسة) للشبهة، أي سواء كانت شبهة المجتهد المرجع، أم شبهة القاضي، أم شبهة الشاهد، أم شبهة المدعي، أم شبهة المدعى عليه أو الجاني والمتهم([11])، ثم سواء أكانت شبهة حكمية([12]) أم موضوعية،([13]) في الجملة.([14]) وذلك على ما حقق في محله في كتاب الحدود والتعزيرات.([15])
نعم، لابد من صدق (الشبهة) عليه، إذ صرف (احتماله موهوماً) لا يسقط الحد، وعليه فالأثر أثر (الشبهة) لا (الإحتمال)، ويظهر جوابه مما سيأتي في الجواب عن أن (العلم الإجمالي) هو المنجِّز أو (الإحتمال)؟)([16]) وقد حققنا أن الأثر (أي دُرِأ الحدُّ) هو أثر الإحتمال (المقسم) وليس أثر بعض أقسامه. وللبحث صلة فانتظر.
قال رسول الله ((صلى الله عليه و اله و سلم)): ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: تَذَاكُرُ الْعِلْمِ بَيْنَ عِبَادِي مِمَّا تَحْيَا عَلَيْهِ الْقُلُوبُ الْمَيْتَةُ إِذَا هُمُ انْتَهَوْا فِيهِ إِلَى أَمْرِي))(الكافي: ج1 ص40).
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444.
([3]) لفرض عدم كونها مظنونة.
([4]) (ثبوت الحجية للإحتمال).
([5]) الأقربية للإصابة، بوجه آخر.
([6]) قال في الفصول ص277: (لأنه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه) كما سبق نقله.
([7]) الأخير من الأخيرين.
([8]) فالوهم، كالشك، مثلاً، مجرى للحكم بالبراءة، لا على مسلك حق الطاعة، وهو، كالظن المعتبر، دليل على الحكم، عليه، في الجملة؛ إذ يكون حجة على الإشتغال.
([9]) وأن (الظن) مثلاً، إما ملحق بـ(الشك) إن لم يكن حجة، أو ملحق بـ(القطع) إن كان حجة.
([10]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص205.
([11]) وقد يضاف لها شبهة مُجرِي الحد ـ في الجملة.
([12]) كما لو حدثت للمرجع أو القاضي شبهة في عدم إجراء حد المرتد على (المرتد الأجوائي).
([13]) كما لو حدثت شبهة في كون هذا (حِرزاً) أم لا، أو كونه (ذكراً) لاحتمال كونه (خنثى) أو ما أشبه ـ فتأمل.
([14]) إنما قلنا (في الجملة) لعدم إسقاط (الشبهة) للحدود في كل الصور العشرة، إذ لا تسقط شبهة (الشاهد) الحكمية، الحدَّ وإن أسقطته شبهة المرجع أو القاضي أو الجاني مثلاً.
([15]) وكما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره في موسوعة الفقه، في كتبه التالية (القضاء) (الحدود والتعزيرات) (الحقوق) (القانون) (الدولة الإسلامية).
([16]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص209-210.