بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(13)
حقيقة الطهارة والنجاسة
وتفصيل القول في حقيقة الطهارة والنجاسة، بما يقصد منه بيان الثمرات المترتبة على ذلك[1] أن الأقوال فيها متعددة بلغت سبعة، اختلف الفقهاء فيها على مر التاريخ.
هما عين الحكم التكليفي
القول الأول: انهما عين الحكم التكليفي فالنجاسة هي عين وجوب الاجتناب والطهارة عدمها.
وقد ذهب إلى هذا القول الشهيد (قدس سره) في الفوائد والوحيد البهباني (قدس سره) وآخرون:
قال الوحيد: (أنّ النّجاسة الشّرعيّة لا معنى لها سوى وجوب الاجتناب عن الصّلاة معها، و[2]الأكل والشّرب بملاقاتها رطباً فضلاً عن أكل نفسها وشربها، وكذا وجوب الإزالة عن المسجد وأمثاله، وغير ذلك من أحكامها. ولا شكّ في أنّ الأصل عدم الوجوب، لأنّه تكليف، والأصل براءة الذمّة، والطّهارة الشرعيّة في مقابل النّجاسة فمعناها عدم تعلّق التكليف بالاجتناب شرعاً)[3]، وقد صرّح (قدس سره) بالثمرة وهي ظاهرة على فرض تمامية المبنى.
وقال المحقق السبزواري (قدس سره): (لأنا لا نسلم ان الأصل في كل شيء الطهارة لأن الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان، وكل منهما يعلم ببيان الشارع ولا شيء يدل على عموم الطهارة في كل شيء إلا ما يخرج بالدليل وربما يوجد ذلك في الماء المطلق حسب)[4]، نعم يحتمل انه يقصد: حكمان شرعيان وضعيان.
وأما الشهيد ففي طهارة الشيخ (قدس سره): (ويظهر من المحكيّ عن الشهيد في قواعده[5]: أنّ النجاسة حكم الشارع بوجوب الاجتناب استقذاراً واستنفاراً. وظاهر هذا الكلام أنّ النجاسة عين الحكم بوجوب الاجتناب)[6].
وأشكل عليه الشيخ (قدس سره) بـ: (وليس كذلك قطعاً؛ لأنّ النجاسة مما يتّصف به الأجسام، فلا دخل له في الأحكام)[7].
وتوضيحه: ان الأحكام الخمسة ومنها الوجوب توصف بها الأفعال لا الأجسام والأشياء لأنها بعث وزجر وشبههما ومتعلقهما الفعل، نقول: الصلاة واجبة، وهي فعل، وكذا الحج... إلخ ونقول: شرب الخمر وأكل الميتة وضرب اليتيم محرمة وهي أفعال، ولا يوصف الجوهر بالأحكام الخمسة أبداً، مع اننا نرى أن النجاسة والطهارة تقعان وصفاً للأجسام، فيقال: يده متنجسة أو طاهرة، والغائط نجس، ولا توصف بهما الأفعال أبداً، فلا يقال: ضربه اليتيم نجس أو عدله طاهر وهو ظاهر.
هما منتزعان من الحكم التكليفي
القول الثاني: انها منتزعة من الحكم التكليفي، وهذا ما حمل الشيخ (قدس سره) كلام الشهيد عليه قال: (فالظاهر أنّ مراده أنّها صفة انتزاعيّة من حكم الشارع بوجوب الاجتناب للاستقذار أو الاستنفار)[8].
وأشكل عليه الشيخ بـ (وفيه: أنّ المستفاد من الكتاب والسنّة أنّ النجاسة صفة متأصّلة يتفرّع عليها تلك الأحكام، وهي القذارة التي ذكرناها، لا أنّها صفة منتزعة من أحكام تكليفيّة نظير الأحكام الوضعيّة المنتزعة منها كالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة)[9].
وسيأتي تشييد كلامه (قدس سره) والاستدلال بظواهر النصوص عليه، وأيضاً الاستشهاد بالعلوم الحديثة فانتظر.
نعم، مبنى الشيخ الذي ذكره في الرسائل[10] هو أن الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية، ولا تتوهم المناقضة، لأن هذا بمنزلة الاستثناء، أي ان المتّبع في كل حكم وضعي لسان دليله، فالشرطية مثلاً منتزعة من الحكم التكليفي إذ ورد الأمر بالوضوء للصلاة في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[11]، وقول الإمام الباقر (عليه السلام): ((إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ وَجَبَ الطَّهُورُ وَالصَّلَاةُ وَلَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُور))[12]، فينتزع منه شرطية الوضوء لها وهكذا.
والطهارة والنجاسة لسان دليلهما كونهما من الصفات المتأصلة، فتكونان، كالبياض والسواد مثلاً إذ هما صفتان قائمتان بالشيء، والمقصود بالمتأصل ما له ما بإزاء في الخارج، عكس الانتزاعي، والمتأصل هو الجوهر والأعراض التسعة:
كمٌ وكيفٌ، وضعُ، أينٌ، له، متى * * * فِعلٌ، مضافٌ، وانفعالٌ ثبتا
والمنتزَع: كإمكان الممكن وزوجية الأربعة التي تنتزع من حاق ذات الشيء من غير أن يكون لها ما بإزاء في الخارج بل وجودها بوجود منشأ انتزاعها.
هما حكمان اعتباريان
القول الثالث: انها أحكام وضعية مجعولة للشارع، لا منتزعة ولا عدمية بل هي اعتبارية وهو ما ذهب إليه بعض كالمحقق التبريزي، كما مضى نقله، وإليه ذهب صاحب المنتقى، كما ذهب إليه السيد الخوئي كما سيأتي ذلك كله.
النجاسة حكم سياسي أو صحي أو إحترازي
القول الرابع: (والذي يتفرع إلى أقوال لدى التدبر) ان النجاسة حكم سياسي، أو اجتماعي، أو صحي، أو احترازي، أو بالتفصيل:
ففي الكافر: هي حكم سياسي لمصلحة تحصين المسلمين، وعليه: فهي قضية خارجية منوطة بالأزمان والظروف، والأمر بيد ولي الأمر، وهو الإمام المعصوم (عليه السلام) وأما الفقيه فالأمر منوط بمدى دلالة الأدلة على ولايته، أو تحديدها بالأمور الحسبية فقط[13].
وفي الخمر: هو حكم صحي، حفاظاً على العقل، وعليه: فلو لم يخمّره لم يحرم أو هو حكم احترازي فيحرم حتى لو لم يخمّر إذ (من حام حول الحمى أو شك أن يقع فيه، فتحها حتى القطرة وحتى من اعتادها فلم تسكره أو من شربها مع مثبّط كيماوي عن فعلها، قال الشيخ: (ثمّ دعوى أنّ حكم الشارع بنجاسة الخمر لأجل التوصّل إلى الفرار عنها ولتزيد نفرة الطباع عنها ليست بأولى من دعوى أنّ حكمه بوجوب التنفّر عنها لأجل قذارة خاصّة فيها)[14]، وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك بإذن الله تعالى.
نعم، يمكن توجيه دعوى الشهيد بما ذكره الشيخ وأجابه بقوله: (إلّا أن تكون دعوى الشهيد (قدّس سرّه) فيما ذكره مستندة إلى ما يظهر من أدلّة تحريم الخمر: من أنّ العلّة فيه هو تخمير العقل[15]، لكنّك خبير بأنّه لا ينافي كون التخمير مستنداً إلى تلك القذارة، كما يومي إليه قوله (عليه السلام) في صفة الخمر: ((مَا يَبُلُّ الْمِيلَ يُنَجِّسُ حُبّاً مِنْ مَاء))[16])[17].
وتوضيحه: ان بعض أدلة تحريم الخمرة تفيد أن العلّة هي تخميرها للعقل وتغطيتها له، فهذا هو سبب الحرمة، وليس أن هنالك نجاسة قائمة به (فليس وصفها بالنجس إلا عبارة عن وجوب الاجتناب).
وأجاب الشيخ (قدس سره) بأن تمامية ذلك لا تنفي اتصافها بالنجاسة (التي دلت عليها أدلة أخرى) فلا مانعة جمع.
والحاصل: ان المستفاد من مجموع الأدلة ان هنا ثلاثة أشياء طولية: الخمرة ← نجاستها ← تخميرها للعقل، وقوله (عليه السلام): ((مَا يَبُلُّ الْمِيلَ يُنَجِّسُ حُبّاً مِنْ مَاء))[18] مومئ؛ لأنّ هذا المقدار (ما يبل الميل وهو أقل من قطرة، بالنسبة إلى الحب الذي يحتوي ألوف القطرات) ليس مخمّراً للعقل ومع ذلك حكم (عليه السلام) بتنجيسه للحب وهو فِرع النجاسة، فدل على أن النجاسة (المثبَتة له) أمر غير تخمير العقل.
النجاسة أمر واقعي
القول الخامس: وهو الذي اختاره الشيخ وهو انها أمر واقعي، قال: (والنجاسة لغةً: القذارة، وشرعاً قذارة خاصّة في نظر الشارع مجهولة الكنه، اقتضت إيجاب حصرها في أُمورٍ مخصوصة، فكلّ جسم خلا عن تلك القذارة في نظر الشارع فهو طاهر نظيف)[19]، وسنوضح عبارته ونضم إليها غيرها ليتضح مقصوده النهائي.
احتمالان في الأمر الواقعي
ولكن نقول: انّ هذا القول يمكن أن يتصور بوجهين:
الأول: ان النجاسة أمر واقعي والشارع إنما كشف عنها، كما أن العرف كشف عنها، فهما مرآتان لأمر واحد، غير أن الشارع وسّع تارة وضيّق أخرى، وهذا يتصور بأحد نحوين: إما انه خطّأ العرف في تشخيصه لبعض المصاديق سلباً وإيجاباً (مع وحدة المطلوب والواقع المراد كشفه) وأما إنه وسّع وضيّق تنزيلاً.
الثاني: ان النجاسة الشارعية أمر واقعي، والنجاسة العرفية أمر واقعي آخر، والنسبة بينهما من وجه.
والثمرة التي تترتب على هذين القولين كبيرة، إذ على الأول: يمكننا كلما شككنا في تصرّف الشارع، نفيُهُ بأصل العدم فيكون العرف هو المرجع، دون الثاني إذ لا تكون لأحدهما، العرف، مرآتية للآخر، الشرع، أصلاً، وللكلام تتمة بإذن الله تعالى.
أسئلة:
- ابحث عن عبارات الشيخ في الرسائل وحاول العثور فيها على ما يخالف مبناه.
- أجرِ بحثاً عن أقوال سائر العلماء، وقارن بينها.
- ما الفرق بين الانتزاعي والاعتباري والمتأصل وغيره.
- ناقش المدعي كون النجاسة للكافر أو الخمر، أحكاماً سياسية أو صحية أو احترازية، أو اذكر مؤيدات لذلك.
- ما الفرق بين الخمر والمسكر وما دليل حرمة هذا وذاك؟
- ما الدليل على حرمة الخمر وإن لم تسكر؟
- هل تصح دعوى حرمة المخدِّرات لأنها مسكرة؟
عن بشير الدَّهان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَا بَشِيرُ! إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِفِقْهِهِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمْ أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلَالَتِهِمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ)) (الكافي: ج1 ص33).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
-------------------------------------
[1] وبعيداً عن البحوث النظرية التي لا تؤثر في الثمرة.
[2] وعن الأكل...
[3] الشيخ وحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص518.
[4] المحقق السبزواري، ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ج1 ص116.
[5] القواعد و الفوائد 2: 85، قاعدة: 175.
[6] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[7] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[8] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[9] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[10] في عدة مواضع، لكنه في موضع بنى على ما بنى عليه المشهور.
[11] سورة المائدة: الآية 6.
[12] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ج1 ص33.
[13] يراجع (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) للأستاذ، و(حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي).
[14] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[15] وقد يستدل له أيضاً بما ورد في الكافي عن أبي إبراهيم (عليه السلام): ((إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُحَرِّمِ الْخَمْرَ لِاسْمِهَا وَلَكِنْ حَرَّمَهَا لِعَاقِبَتِهَا فَمَا فَعَلَ فِعْلَ الْخَمْرِ فَهُوَ خَمْرٌ)) (الكافي: ج6 ص412)، وفي رواية أخرى: ((حَرَّمَهَا لِفِعْلِهَا وَ مَا تُؤَثِّرُ مِنْ فَسَادِهَا)) (الكافي: ج6 ص412)، فتأمل.
[16] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج6 ص413.
[17] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[18] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج6 ص413.
[19] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص19.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(13)
حقيقة الطهارة والنجاسة
وتفصيل القول في حقيقة الطهارة والنجاسة، بما يقصد منه بيان الثمرات المترتبة على ذلك[1] أن الأقوال فيها متعددة بلغت سبعة، اختلف الفقهاء فيها على مر التاريخ.
هما عين الحكم التكليفي
القول الأول: انهما عين الحكم التكليفي فالنجاسة هي عين وجوب الاجتناب والطهارة عدمها.
وقد ذهب إلى هذا القول الشهيد (قدس سره) في الفوائد والوحيد البهباني (قدس سره) وآخرون:
قال الوحيد: (أنّ النّجاسة الشّرعيّة لا معنى لها سوى وجوب الاجتناب عن الصّلاة معها، و[2]الأكل والشّرب بملاقاتها رطباً فضلاً عن أكل نفسها وشربها، وكذا وجوب الإزالة عن المسجد وأمثاله، وغير ذلك من أحكامها. ولا شكّ في أنّ الأصل عدم الوجوب، لأنّه تكليف، والأصل براءة الذمّة، والطّهارة الشرعيّة في مقابل النّجاسة فمعناها عدم تعلّق التكليف بالاجتناب شرعاً)[3]، وقد صرّح (قدس سره) بالثمرة وهي ظاهرة على فرض تمامية المبنى.
وقال المحقق السبزواري (قدس سره): (لأنا لا نسلم ان الأصل في كل شيء الطهارة لأن الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان، وكل منهما يعلم ببيان الشارع ولا شيء يدل على عموم الطهارة في كل شيء إلا ما يخرج بالدليل وربما يوجد ذلك في الماء المطلق حسب)[4]، نعم يحتمل انه يقصد: حكمان شرعيان وضعيان.
وأما الشهيد ففي طهارة الشيخ (قدس سره): (ويظهر من المحكيّ عن الشهيد في قواعده[5]: أنّ النجاسة حكم الشارع بوجوب الاجتناب استقذاراً واستنفاراً. وظاهر هذا الكلام أنّ النجاسة عين الحكم بوجوب الاجتناب)[6].
وأشكل عليه الشيخ (قدس سره) بـ: (وليس كذلك قطعاً؛ لأنّ النجاسة مما يتّصف به الأجسام، فلا دخل له في الأحكام)[7].
وتوضيحه: ان الأحكام الخمسة ومنها الوجوب توصف بها الأفعال لا الأجسام والأشياء لأنها بعث وزجر وشبههما ومتعلقهما الفعل، نقول: الصلاة واجبة، وهي فعل، وكذا الحج... إلخ ونقول: شرب الخمر وأكل الميتة وضرب اليتيم محرمة وهي أفعال، ولا يوصف الجوهر بالأحكام الخمسة أبداً، مع اننا نرى أن النجاسة والطهارة تقعان وصفاً للأجسام، فيقال: يده متنجسة أو طاهرة، والغائط نجس، ولا توصف بهما الأفعال أبداً، فلا يقال: ضربه اليتيم نجس أو عدله طاهر وهو ظاهر.
هما منتزعان من الحكم التكليفي
القول الثاني: انها منتزعة من الحكم التكليفي، وهذا ما حمل الشيخ (قدس سره) كلام الشهيد عليه قال: (فالظاهر أنّ مراده أنّها صفة انتزاعيّة من حكم الشارع بوجوب الاجتناب للاستقذار أو الاستنفار)[8].
وأشكل عليه الشيخ بـ (وفيه: أنّ المستفاد من الكتاب والسنّة أنّ النجاسة صفة متأصّلة يتفرّع عليها تلك الأحكام، وهي القذارة التي ذكرناها، لا أنّها صفة منتزعة من أحكام تكليفيّة نظير الأحكام الوضعيّة المنتزعة منها كالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة)[9].
وسيأتي تشييد كلامه (قدس سره) والاستدلال بظواهر النصوص عليه، وأيضاً الاستشهاد بالعلوم الحديثة فانتظر.
نعم، مبنى الشيخ الذي ذكره في الرسائل[10] هو أن الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية، ولا تتوهم المناقضة، لأن هذا بمنزلة الاستثناء، أي ان المتّبع في كل حكم وضعي لسان دليله، فالشرطية مثلاً منتزعة من الحكم التكليفي إذ ورد الأمر بالوضوء للصلاة في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[11]، وقول الإمام الباقر (عليه السلام): ((إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ وَجَبَ الطَّهُورُ وَالصَّلَاةُ وَلَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُور))[12]، فينتزع منه شرطية الوضوء لها وهكذا.
والطهارة والنجاسة لسان دليلهما كونهما من الصفات المتأصلة، فتكونان، كالبياض والسواد مثلاً إذ هما صفتان قائمتان بالشيء، والمقصود بالمتأصل ما له ما بإزاء في الخارج، عكس الانتزاعي، والمتأصل هو الجوهر والأعراض التسعة:
كمٌ وكيفٌ، وضعُ، أينٌ، له، متى * * * فِعلٌ، مضافٌ، وانفعالٌ ثبتا
والمنتزَع: كإمكان الممكن وزوجية الأربعة التي تنتزع من حاق ذات الشيء من غير أن يكون لها ما بإزاء في الخارج بل وجودها بوجود منشأ انتزاعها.
هما حكمان اعتباريان
القول الثالث: انها أحكام وضعية مجعولة للشارع، لا منتزعة ولا عدمية بل هي اعتبارية وهو ما ذهب إليه بعض كالمحقق التبريزي، كما مضى نقله، وإليه ذهب صاحب المنتقى، كما ذهب إليه السيد الخوئي كما سيأتي ذلك كله.
النجاسة حكم سياسي أو صحي أو إحترازي
القول الرابع: (والذي يتفرع إلى أقوال لدى التدبر) ان النجاسة حكم سياسي، أو اجتماعي، أو صحي، أو احترازي، أو بالتفصيل:
ففي الكافر: هي حكم سياسي لمصلحة تحصين المسلمين، وعليه: فهي قضية خارجية منوطة بالأزمان والظروف، والأمر بيد ولي الأمر، وهو الإمام المعصوم (عليه السلام) وأما الفقيه فالأمر منوط بمدى دلالة الأدلة على ولايته، أو تحديدها بالأمور الحسبية فقط[13].
وفي الخمر: هو حكم صحي، حفاظاً على العقل، وعليه: فلو لم يخمّره لم يحرم أو هو حكم احترازي فيحرم حتى لو لم يخمّر إذ (من حام حول الحمى أو شك أن يقع فيه، فتحها حتى القطرة وحتى من اعتادها فلم تسكره أو من شربها مع مثبّط كيماوي عن فعلها، قال الشيخ: (ثمّ دعوى أنّ حكم الشارع بنجاسة الخمر لأجل التوصّل إلى الفرار عنها ولتزيد نفرة الطباع عنها ليست بأولى من دعوى أنّ حكمه بوجوب التنفّر عنها لأجل قذارة خاصّة فيها)[14]، وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك بإذن الله تعالى.
نعم، يمكن توجيه دعوى الشهيد بما ذكره الشيخ وأجابه بقوله: (إلّا أن تكون دعوى الشهيد (قدّس سرّه) فيما ذكره مستندة إلى ما يظهر من أدلّة تحريم الخمر: من أنّ العلّة فيه هو تخمير العقل[15]، لكنّك خبير بأنّه لا ينافي كون التخمير مستنداً إلى تلك القذارة، كما يومي إليه قوله (عليه السلام) في صفة الخمر: ((مَا يَبُلُّ الْمِيلَ يُنَجِّسُ حُبّاً مِنْ مَاء))[16])[17].
وتوضيحه: ان بعض أدلة تحريم الخمرة تفيد أن العلّة هي تخميرها للعقل وتغطيتها له، فهذا هو سبب الحرمة، وليس أن هنالك نجاسة قائمة به (فليس وصفها بالنجس إلا عبارة عن وجوب الاجتناب).
وأجاب الشيخ (قدس سره) بأن تمامية ذلك لا تنفي اتصافها بالنجاسة (التي دلت عليها أدلة أخرى) فلا مانعة جمع.
والحاصل: ان المستفاد من مجموع الأدلة ان هنا ثلاثة أشياء طولية: الخمرة ← نجاستها ← تخميرها للعقل، وقوله (عليه السلام): ((مَا يَبُلُّ الْمِيلَ يُنَجِّسُ حُبّاً مِنْ مَاء))[18] مومئ؛ لأنّ هذا المقدار (ما يبل الميل وهو أقل من قطرة، بالنسبة إلى الحب الذي يحتوي ألوف القطرات) ليس مخمّراً للعقل ومع ذلك حكم (عليه السلام) بتنجيسه للحب وهو فِرع النجاسة، فدل على أن النجاسة (المثبَتة له) أمر غير تخمير العقل.
النجاسة أمر واقعي
القول الخامس: وهو الذي اختاره الشيخ وهو انها أمر واقعي، قال: (والنجاسة لغةً: القذارة، وشرعاً قذارة خاصّة في نظر الشارع مجهولة الكنه، اقتضت إيجاب حصرها في أُمورٍ مخصوصة، فكلّ جسم خلا عن تلك القذارة في نظر الشارع فهو طاهر نظيف)[19]، وسنوضح عبارته ونضم إليها غيرها ليتضح مقصوده النهائي.
احتمالان في الأمر الواقعي
ولكن نقول: انّ هذا القول يمكن أن يتصور بوجهين:
الأول: ان النجاسة أمر واقعي والشارع إنما كشف عنها، كما أن العرف كشف عنها، فهما مرآتان لأمر واحد، غير أن الشارع وسّع تارة وضيّق أخرى، وهذا يتصور بأحد نحوين: إما انه خطّأ العرف في تشخيصه لبعض المصاديق سلباً وإيجاباً (مع وحدة المطلوب والواقع المراد كشفه) وأما إنه وسّع وضيّق تنزيلاً.
الثاني: ان النجاسة الشارعية أمر واقعي، والنجاسة العرفية أمر واقعي آخر، والنسبة بينهما من وجه.
والثمرة التي تترتب على هذين القولين كبيرة، إذ على الأول: يمكننا كلما شككنا في تصرّف الشارع، نفيُهُ بأصل العدم فيكون العرف هو المرجع، دون الثاني إذ لا تكون لأحدهما، العرف، مرآتية للآخر، الشرع، أصلاً، وللكلام تتمة بإذن الله تعالى.
- ابحث عن عبارات الشيخ في الرسائل وحاول العثور فيها على ما يخالف مبناه.
- أجرِ بحثاً عن أقوال سائر العلماء، وقارن بينها.
- ما الفرق بين الانتزاعي والاعتباري والمتأصل وغيره.
- ناقش المدعي كون النجاسة للكافر أو الخمر، أحكاماً سياسية أو صحية أو احترازية، أو اذكر مؤيدات لذلك.
- ما الفرق بين الخمر والمسكر وما دليل حرمة هذا وذاك؟
- ما الدليل على حرمة الخمر وإن لم تسكر؟
- هل تصح دعوى حرمة المخدِّرات لأنها مسكرة؟
عن بشير الدَّهان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَا بَشِيرُ! إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِفِقْهِهِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمْ أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلَالَتِهِمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ)) (الكافي: ج1 ص33).
[2] وعن الأكل...
[3] الشيخ وحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص518.
[4] المحقق السبزواري، ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ج1 ص116.
[5] القواعد و الفوائد 2: 85، قاعدة: 175.
[6] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[7] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[8] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[9] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[10] في عدة مواضع، لكنه في موضع بنى على ما بنى عليه المشهور.
[11] سورة المائدة: الآية 6.
[12] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ج1 ص33.
[13] يراجع (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) للأستاذ، و(حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي).
[14] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[15] وقد يستدل له أيضاً بما ورد في الكافي عن أبي إبراهيم (عليه السلام): ((إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُحَرِّمِ الْخَمْرَ لِاسْمِهَا وَلَكِنْ حَرَّمَهَا لِعَاقِبَتِهَا فَمَا فَعَلَ فِعْلَ الْخَمْرِ فَهُوَ خَمْرٌ)) (الكافي: ج6 ص412)، وفي رواية أخرى: ((حَرَّمَهَا لِفِعْلِهَا وَ مَا تُؤَثِّرُ مِنْ فَسَادِهَا)) (الكافي: ج6 ص412)، فتأمل.
[16] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج6 ص413.
[17] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص20.
[18] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج6 ص413.
[19] الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، ج5 ص19.