234- الثمرة الرابعة : ان تحديد كون القضية حقيقية او خارجية ، هو شأن الفقيه ، وأدلة ذلك ومن ثمرات ذلك : الرد على بعض الحداثويين من دعوى ان بعض الاحكام الشرعية (كإرث المرأة) كانت على نحو القضية الخارجية ـ وتوضيح ان المرجعية في موضوعية الموضوع ، للفقيه وفي مفهوم الموضوع ، للعرف وفي مصداق الموضوع ،للعقل ، حسب المشهور
الأحد 20 ربيع الآخر 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان الكلام حول الثمرات للقضايا الحقيقية والخارجية والنتائج النهائية لذلك وذكرنا بعض الثمرات.
الثمرة الرابعة: ان تحديد كون القضية حقيقية ام خارجية هو شأن الفقيه
وهنا ثمرة اخرى لم نتطرق لها من قبل، وتعد من المسائل المهمة في نفس الوقت فهي ثمرة ومسألة؛ بل مسألتان، وهي ان المرجع في تحديد كون القضية خارجية أم حقيقية من هو؟ وهذه يمكن ان تعد مسألة جديدة كما هي ثمرة من ثمار التفريق بين القضيتين الحقيقية والخارجية حيث تبتني عليه هذه المسألة, فمن هو المرجع في تحديد أن القضية حقيقية (موضوعها الكلي الطبيعي من حيث هو) أم انها قضية خارجية، موضوعها الأفراد المحققة الوقوع في أحد الأزمنة الثلاثة أو في الأكثر من الزمن الواحد، وذات الخصوصيات المكتنفة للأفراد؟
نقول المرجع في ذلك هو الفقيه وليس المكلف، بل ان شئت فقل ليس المرجع العرف بل المرجع هو الشرع, مع ان من المعروف ان الموضوعات تؤخذ من العرف والأحكام تؤخذ من الشرع ، فما هو وجه القول ان المرجع في تحديد ان هذا الموضوع خارجي ام حقيقي هو الفقيه وليس للعرف؟
وجوه ثلاثة تدل على مرجعية الفقيه في التحديد
الجواب على ذلك يتضح ببيان الوجوه التالية:
1- الفقيه أهل خبرة بكلا النوعين
الوجه الاول: هو حكم العقل وذلك لأن الفقيه هو أهل خبرة بكلا نمطي الموضوعين؛ اما العرف فليس خبيرا الا باحدهما (وهو الموضوعات الخارجية) وأما الموضوعات الحقيقية فمما لا تطاله ولا تناله إفهامهم، والمرجع والحَكَم ينبغي ان يكون محيطا بكلا الطرفين كي يحكم، والعرف على فرض خبرويته[1] فهو خبير بالموضوعات الخارجية وليس خبيرا بالموضوعات الحقيقية الشارعية؛ فأذن ليس خبيرا بالطرفين ومحيطا بهما فكيف يكون حَكَماً فيهما وفي تحديد ان الموضوع حقيقي أو خارجي مع انه لا يدرك ولا يحيط خبراً بماهية الموضوع الحقيقي؟
2- بناء العقلاء
الوجه الثاني: بناء العقلاء فان بناءهم فيما لو وجد موضوعان من دائرتين يحتاجان إلى خبروية، على ان المرجع هو المحيط بهما معا لتشخيص أن هذا الصغرى هي صغرى لأية كبرى منهما، وهذه الكبرى نطرحها لكي نستثمرها في موطن كلامنا كما انها تنفع في الفقه كله، وموطن كلامنا هو ان عدم امر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الناسَ بالاجتهاد في أصول الدين هل كان قضية حقيقية ام قضية خارجية؟، وتقدم منا انه لو قلنا انها قضية حقيقية لعارَضَ ذلك ما دل من الأدلة على وجوب الاجتهاد وتقدم عليه؛ لأنه سيكون قرينة صارفة للظاهر عن ظهوره في الوجوب كما تقدم، هذا لو كان قضية حقيقية اما لو كان قضية خارجية فلا تنافي بين الحقيقية وبين الخارجية التي كانت على خلافها لمصلحة كالتدرجية فان الحكم الكلي حينئذٍ يبقى على حاله, وتشخيص ذلك على ما سبق بيد الفقيه فليس للعرف ان يشخِّص وجه سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على عدم الأمر بالاجتهاد في أصول الدين، وانه كان من باب القضية الخارجية ام كان على نحو القضية الحقيقية؟ ليس المرجع هو العرف لأن العرف ليس محيطا بالطرفين فالمرجع هو الفقيه ايضا.
والحاصل: هنا مسألتان؛ الأولى ما مضت من ان المرجع في القضية الحقيقية هو الفقيه والمرجع في القضية الخارجية مبدئيا هو العرف على تفصيل سيأتي، والثانية: انه لو قلنا بذلك فمن هو المرجع عند الشك في ان هذه قضية حقيقية ام خارجية ؟الجواب انه الفقيه ايضا.
ونستثمر هذا البحث استثمارا فقهيا لأهميته ونترك التوسع في الأمثلة والشواهد عليكم.
بطلان كثير من الاجتهادات المعاصرة بناءا على الاصل الذي اسسناه
من هذا البحث ومن هذا الأصل الذي أسسناه، اتضح بطلان كثير من الاجتهادات المعاصرة فيما يرتبط بالتشريع الإسلامي، حيث ان الكثير من اشباه المجتهدين ومن الحداثويين تصدوا لهذه المسألة بالذات في مثل قضايا المرأة، كـ(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) فان البعض تصدى لهذه المسألة وغير لغيرها من العشرات من امثالها استناداً لهذه الدعوى وان هذه قضية خارجية وليست حقيقية بزعم ان الوضع الاقتصادي في ذلك الزمن ووضع المرأة ومعادلتها مع الرجل؛ وان المرأة كانت معالة غير معيلة فلذلك كان الحكم للذكر مثل حض الانثيين؛ أما الان فالمرأة عاملة وهي معيلة والى غير ذلك من الظروف الخاصة التي أوجبت بنظرهم نزول هذا الحكم الخاص في وقت نزوله فينبغي ان يكون لها الآن مثل حظ الذكرين او على الاقل يتساويان!
لكن القضية الخارجية التي بنو عليها تقتضي ان يقولوا ان للمرأة أحياناً مثل حظ الذكرين! بل قد توصلهم إلى القول ان للمرأة كل الحق في بعض الأحيان بل قد توصلهم إلى نسف كل قواعد الإرث حتى في الأنظمة المعاصرة ، وفي كل الاديان كما لو كان أحد ألابناء غنياً والاخر فقيراً ومات الأب فينبغي ان يقول كل الارث يجب ان يعطى للفقير وهذه توالي فاسدة تلزم من كلامهم، مع قطع النظر عن الجواب الحلي العام[2]، ومع قطع النظر عن التعبد.
فنقول: ان المرجع في تحديد ان هذا الحكم هو من الاحكام الحقيقية ام الخارجية، ليس الجامعي او الدكتور او البروفسور حتى لو فرض انه خبير في القضايا الخارجية[3] ولكنه ليس خبيرا في القضايا الحقيقية فليس محيطا بالطرفين فمن اين له ان يحكم بان هذه القضية الشارعية خارجية وليست بحقيقية؟
وهذا بحث تمريني جيد: استقراء الاجتهادات التي تخلط القضايا الحقيقية بالخارجية غير المبنية على اساس عقلائي لأنه ليس خبيرا بالطرفين وسوف تعثرون على العشرات من الامثلة لذلك, وما ذكرناه يعدّ احدى الأجوبة على شبهتهم فلنقتصر في الاستثمار الفقهي على هذا القدر.
فنقول[4]: كلما شك في ان هذه القضية حقيقية او خارجية فانه يكون المرجع هو الفقيه لما ذكرناه.
3- موضوعية الموضوع إنما هي بيد واضع الحكم لأنه موضوعه
الوجه الثالث: لمرجعية الفقيه وهو مفتاح لبحث دقيق نعطي عنوانه وعليكم بالتحقيق حوله، والوجه هو:
لأن الفقيه هو الذي يعرف ان حكم الشارع وضع على ماذا وانه هل وضع على الكلي الطبيعي او وضع على الفرد الخارجي؟ وهذه هي عبارة مبسطة، اما العبارة الدقية الأصولية التي تفتح لنا أفقا آخر فهي ان في كل قضية أربعة أركان:
الأركان الأربعة في كل قضية
الركن الأول: هو الحكم مثل صلاة الجمعة واجبة وجوبا تخييريا او تعيينيا او محرمة في زمن الغيبة، ومثل ان الاجتهاد في اصول الدين واجب تعيينا او تخييرا او حرام حسب رأي البعض القليل من الفقهاء، اذن الركن الاول هو الحكم ولا علينا به الان، واما الاركان الثلاثة الاخرى فترتبط بالموضوع والتفرقة بينها امر دقيق ومهم:
الركن الثاني:موضوعية الموضوع، وهذا هو شأن الفقيه.
الركن الثالث: مفهوم الموضوع.
الركن الرابع: مصداق الموضوع.
وهذه الاركان الثلاثة تختلف، ونشير إلى اصول المباني فيها إشارة: اما موضوعية الموضوع فهي شأن الفقيه، وأما مفهوم الموضوع فهو على المشهور شأن العرف، واما مصداق الموضوع فهو على المشهور فيما وجدت اي مشهور المتأخرين، الذي لا نقبله, ان مرجعه الدقة العقلية لا العرف، ولنبسط ذلك بمثال ثم نطبقه على المقام: الفرسخ, فان موضوع القصر هو السفر مسافة أربعة فراسخ، ومفهوم الفرسخ يؤخذ من العرف حسب المشهور من ان مفهوم الموضوعات بشكل عام يؤخذ منهم، لكن مصداق الفرسخ حسب قول المشهور يؤخذ من العقل – أي تراعى فيه الدقة العقلية - وليس العرف، ولذا لو حدد العرف مفهوم الفرسخ بمقدار وقال مثلاً انه يساوي خمسة ونصف كيلو متراً، فلا فلو كانت المسافة خمسة ونصف كيلو متراً الا سنتمتر واحد وقال العرف ان هذا مصداق للفرسخ فعلى هذا الرأي يقال للعرف ان نطاقك انتهى، وحدُّك إنما هو في دائرة المفاهيم، اما المصاديق فدِّقية، وعليه فإن المسافر الذي نوى السفر إلى مسافة أربعة فراسخ إلا خمسة سانتي متر مثلاً فهذا الشخص صلاته تامة حسب هذا الرأي الدقي، اما السيد الوالد (رحمه الله) وتبعه العبد الفقير، وبعض قليل، فانهم يرون ان العرف مرجع في المصاديق ايضا وليست الدقة العقلية هي المراعاة وكان هذا لتوضيح الاطار العام للمسألة واما مسألتنا فهي في موضوعية الموضوع، اي كون هذا موضوعاً أو ذاك فانه يؤخذ من الشرع أي ان هذا الحكم الشارعي التكليفي رُتِّب على ماذا؟ وهل رتب على هذا الموضوع او ذاك الموضوع؟ وكذا الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية وغيرها, اذن موضوعية الموضوع لا كلام انها تؤخذ من الشرع، إذ يعود ذلك إلى سؤاله عن انه حمل حكمه على ماذا؟ فهذا يؤخذ من الشارع، وبعد ان نأخذه من الشارع وان موضوع حكمه هو الماء أو الوطن او الفرسخ، نسأل العرف ما هو مفهوم الوطن سعة وضيقا وما هو مفهوم الفرسخ ثم نرجع للدقة العقلية في مصداق الوطن.
وما نحن فيه إنما هو بحث عن موضوعية الموضوع، لأنه عند الشك في ان القضية خارجية او حقيقية يكون مرجع الشك ان موضوع الشارع ما هو؟ هل هو الكلي الطبيعي او الفرد الخارجي؟ فلا بد ان يسأل من الشرع الذي يمثله الفقيه الخبير، الجامع للشرائط لا غير، ففي مثالنا السابق يُسأل الشارع عن قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) ان موضوعه هو الفرد الخارجي ام الكلي الطبيعي السيال في كل الازمنة وكل الامكنة وكل الحالات والظروف؟ اذن موضوعية الموضوع المرجع فيها هو الشارع وممثله الفقيه قال تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
اذن الامر واضح لا كلام فيه ولا شك ولا نقاش، سواءا في الثمرة الاصولية ام في الثمرات الفقهية الكثيرة جدا في حديثنا مع الحداثويون ايضا,
ولنمثل بمثال آخر: الكر، فانه لا بد ان نسأل الشرع ما هو الكر؟ فإذا أجاب 1200رطل بالعراقي فنسأل حينئذٍ العرف ما هو مفهوم الرطل فاذا قال مثلا ان الرطل يعادل 400 غراماً مثلاً فنقول له دورك إلى هنا انتهى حسب رأي المشهور - وكذلك المد والصاع والذراع وغيرها إذ المسألة سيالة - ثم بعد ان حدد الرطل بـ(400) غرام فلو كان ما في الإناء 400 غراماً الا غراما واحداً فإذا قال العرف هو رطل، يقال له ليس لك هذا ودورك انتهى بتحديد انه 400غرام على رأي المشهور, اللهم الا لو تسامح العرف في المفهوم وقال ان الرطل يعني حوالي 400 غرام أو اقل او أكثر بقليل لكنه خروج عن فرض البحث ورجوع للصورة السابقة، والحاصل: انه لو تسامح العرف في المفهوم فالمرجع هنا العرف وكلامه حجة إذ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) فدوره تحديد المفهوم اما الانطباق فانه عقلي،
وموجز القول: ان الأركان أربعة في كل قضية: الحكم، وموضوعية الموضوع وهو مورد بحثنا وهو شأن الفقيه، ومفهوم الموضوع وهو شأن العرف اذا لم يتصرف فيه الشارع، ورابعا مصداق الموضوع وهو شان العقل هذه المسألة الاولى والثمرة الرابعة في سلسلة مباحثنا.
2.لو ثبت ان هذه قضية خارجية فمن المرجع؟ ههنا تفصيل
اما المسألة الثانية:وهي في نفس الوقت ثمرة ندرجها في هذا المبحث، وهي مبحث متفرع على ما سبق ونشير إلى عنوانها فقط، وما سبق هو انه لو شككنا في ان هذه قضية حقيقية ام خارجية، فعلينا ان نأخذها من الفقيه، إذ يجب ان نأخذ موضوعية الموضوع من الفقيه، اما المسألة المتفرعة فهي: لو ثبت ان هذه القضية خارجية، فهل المرجع العرف؟ ظاهر سياق الكلام حتى الان، يفيد الإيجاب، لكن الحق ان هناك تفصيلاً وان القضية حتى لو ثبت انها خارجية ففي بعض الصور المرجع هو أهل الخبرة من العرف وفي بعض الصور المرجع هو العرف العام وفي بعض الصور المرجع هو الشرع، ومسألتنا من قبيل الصورة الثالثة, وسيأتي الكلام عنها بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1]- سنناقش في ذلك لاحقا؛ بالقول بالتفصيل.
[2] - الذي أشار إليه عدد من الفقهاء ومنهم السيد الوالد في الفقه: الإرث، والفقه : المرأة.
[3]- سياتي انه ليس خبيراً في بعض الصور.
[4]- نرجع إلى اصل المبحث الكلي وتطبيقه الاصولي.
الأحد 20 ربيع الآخر 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |