196- مسائل ثلاثة حول قسم ايوب بضرب زوجته 3ــ الاستدلال بآية ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) على جواز التورية. والمناقشة الاولى
الثلاثاء 2 جمادي الاولى 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الاستدلال بالآيات على جواز التورية , ووصلنا الى الآية الثانية والتي استند اليها الشيخ الطوسي في كتاب الخلاف, وهي قوله تعالى:( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ ) , هذا ما مضى.
ثلاث مسائل في المقام:
ولتوضيح المبحث نذكر ثلاث مسائل:
المسالة الاولى: ان انعقاد حلف ايوب( عليه السلام ) دال على عدم مرجوحية المتعلق
اما المسالة الاولى - وقد اشرنا اليها سابقا- فهي: ان ايوب ( عليه السلام ) كان قد حلف على ان يضرب او يجلد-بحسب الرواية- زوجته مئة ضربة او جلدة وانه سينفذ قسمه وحلفه متى عوفي وشفي , ثم تندم على ذلك فنزلت الآية المباركة .
والحلف يشترط في انعقاده ان يكون متعلقة غير مرجوح دينا او دنيا, فلو كان المتعلق مرجوحا فالحلف باطل ( وهل يشترط ان يكون راجحاً ؟ خلاف )
ونكتشف من قوله تعالى:(لا تحنث) ان الله تعالى اعتبر يمين ايوب( عليه السلام ) نافذة صحيحة في حد ذاتها؛ اذ اعتبر مخالفة قسمه حنثا , وذلك يكشف عن ان متعلق حلف ايوب( عليه السلام ) ليس بمرجوح.
اذن : ما دام الحلف قد انعقد شرعا بنص القران الكريم وامضي , فان ذلك يكشف عن كونه غير مكروه ان لم يكشف عن كونه راجحاً.[1]
المسالة الثانية: فتوى بعض العلماء على ذلك
واما المسالة الثانية فهي : ان الشيخ الطوسي في تفسره التبيان قد افتى في ذيل تفسيره اللآية المباركة , وكذلك فعل الفيض الكاشاني في الصافي, على انه لو حلف شخص على ان يضرب اخر مئة جلدة او ضربة وفرضنا كون المتعلق راجحا – على رأي- فان اليمين تنحل وتُبرّ بان يضربه ضربة واحدة بشمراخ فيه مئة من المخاريط[2].
المسالة الثالثة:وجه حلف ايوب ( عليه السلام ) على ضوء روايات متعددة:
واما الكلام في هذه المسالة فطويل ولكن نوجز ذلك فنقول: ان وجه حلف ايوب ( عليه السلام ) على ان يضرب زوجته مئة جلدة
على حسب بعض الروايات-وبحسب استقراء ناقص- هو احد وجوه ثلاثة:
الوجه الاول : ان زوجه ايوب ( عليه السلام ) وهي بنت رافائيل ابن يوسف ( عليه السلام ) واسمها رحمة –وكانت من الصالحات- ذهبت كي تأخذ شيئا من الطعام من قوم او اهل بيت فرأت امرأة منهن ذوائب رحمة فقالت لها :لا اعطيك ما تريدين الا بذوائبك بان تقصيها وتعطينيها كي اجمل بها ابنتي عند زواجها , وقد استجابت رحمة لذلك - بسبب حاجتها - فقصتها واعطتها المرأة , ثم عند رجوعها الى البيت رآها ايوب ( عليه السلام ) فغضب عليها واقسم على ان يضربها مئة جلدة على هذا العمل , وهذه الرواية- لو صحت - فانها تدل على كون فعل رحمة حراما , لم يكن يجوز لها في دينها ان تقص ذوائبها .
الوجه الثاني: وجاء في رواية ثانية ان ايوب ( عليه السلام ) حيث ابتلي ومرض – سبع سنوات او اكثر وفي تلك الفترة مر ال ايوب ( عليه السلام ) بضيق شديد- فخرجت زوجته من البيت فمر بها الشيطان وكان متجسدا بشكل طبيب وحكيم فقال لها : ان علاج مرض ايوب( عليه السلام ) هو ان يأخذ عصفورا فيذبحه بدون ان يذكر اسم الله تعالى ويأكله ثم يشرب عليه الخمر ويلطخ بدنه من دم العصفور فعند ذلك سيشفى, ثم جاءت رحمة الى زوجها النبي( عليه السلام ) فقالت له ذلك فغضب منها وقال لها: الا تعلمين ان هذا الذي رايتيه هو الشيطان , واراد بكلامه ان يغويك ويغويني , فنهاها( عليه السلام ) على ان تعود الى مثل ذلك[3].
ثم ان ذلك الخبيث (الشيطان) قد عرض نفسه مرة اخرى عليها وهو بهيئة انسان بهي الطلعة على حصان احمرفقال لها: مالي اراكم آل ايوب قد تغيرت احوالكم وزالت نعمكم الكثيرة من الغلمان والقصور والمواشي ؟ فقالت رحمة لان الله اراد ان يجرب صبرنا على بلائه, فقال الشيطان: ليس ذلك لذلك بل السبب هو انكم تعبدون اله السماء دون اله الارض وانا اله الارض وقد نزعت منكم النعم المختلفة لعبادتكم غيري فنقمت عليكم وعاقبتكم , ودليل ذلك انني سأريك ما فقد منكم وفي الرواية ( فبقيت متحيره وهي متعجبة ) , ثم اخذها الى شفير الوادي وسحر عينها واراها اولادها و قصورها وغيرها من النعم وقال لها (أنا الان صادق عندكِ ام كاذب؟) فقالت له : لا ادري ما اقول لك حتى ارجع الى ايوب, وعندما جاءت الى ايوب( عليه السلام ) و اخبرته بذلك غضب وقال لها الم انهك عن ان تكلمي الشيطان؟ وهذه هي المرة الثانية فحلف عندئذٍ على عقوبتها و (( فرجعت الى ايوب ، فأخبرتهُ بما رأته جميعه . فقال ايوب( عليه السلام ): إنا لله وانا اليه راجعون ، ويحك - يارحمة – اما تعلمين ان ليس مع الله اله آخر ، وأن الذي اماته الله فلا يقدر احد ان يحييه! قالت نعم . قال ايوب( عليه السلام ) : فلو كنت عاقلة ما أصغيت الى كلامه، ولا اتبعتيه حتى سحر عينيك . فقالت رحمة : يانبي الله ، اغفر لي هذه الخطيئة ، فإني لا اعود الى مثلها ابداً . فقال لها ايّوب( عليه السلام ) : قد نهيتك عن هذا اللعين مرة ، وهذه ثانية ، فلله عليّ نذر لئن عافاني الله مما انا فيه لاجلدنك مائة جلدة على ما كان من مكالمتك لإبليس لعنه الله . وكانت رحمة تقول : ليته قام من بلائه وجلدني مائة ومائة )).
وهذا الوجه على مقتضى القاعدة ؛ لان زوجة ايوب( عليه السلام ) - حسب هذه الرواية - وصلت الى حافة التشكيك او التحير في الوحدانية فاستحقت العقوبة, الا ان رحمة الله تعالى قد وسعتها بعد ذلك فخفف الحكم عليها .[4]
الوجه الثالث:واما الوجه الثالث المذكور في بعض الروايات فهو ان ايوب( عليه السلام ) كان قد نهاها عن ان تأخذ صدقه من الناس؛ اذ الانبياء لا يأكلون الصدقة فخالفته واخذتها[5] ولم تخبره[6] فغضب عليها وحلف ان يعاقبها .
لا مانعة جمع بين الروايات ووجوهها الثلاثة :
وفي مقام التعليق نقول : انه لا مانعة جمع بين كل هذه الوجوه المذكورة, فلعل كلها قد صدرت من زوجة ايوب( عليه السلام ) فطفح به الكيل فحلف على ان يعاقبها .
وليس الكلام الان في تحقيق سند هذه الروايات، اذ المقصود ليس الابيان وجه قسمه بضربها بحسب المحتملات المذكورة في بعض مراسيل الثقاة . فتأمل.
ولكن المهم في مطلبنا وبحثنا انه لا دليل على ان ايوب( عليه السلام ) في الآية والروايات المفسرة لها كان موريا, بل الظاهر انه كان جادا وقاصدا في عقوبة زوجته , والله تعالى بعد ذلك جعل له مخرجا وخفف الامر عنها وعنه , وهذه ليست بتورية.
والمتحصل: ان الآية اجنبية عن التورية فلا يصح الاستدلال بها على جواز التورية ظاهرا .
الآية الثالثة: (ايتها العير انكم لسارقون)
بعد تمام الكلام فيما ذكره الشيخ الطوسي من الآيات التي اراد من خلالها الاستدلال على جواز الحيل الشرعية مستدلا بالآيتين، ننتقل الى اية ثالثة لم يذكرها وهي قوله تعالى في قصة يوسف( عليه السلام ) :(ايتها العير انكم لسارقون).
وموجز القضية:
ان بنيامين وهو اخ يوسف( عليه السلام ) من العمودين، وقد اراد يوسف ( عليه السلام ) في القضية المعروفة ان يستبقية عندهُ فأوعز الى بعضهم ان يضع صواع الملك في رحل بنيامين من اجل ذلك , - ولعل المستظهر ان يوسف ( عليه السلام ) كان قد اتفق مع اخيه من قبل على ذلك فلا يرد الاشكال من هذه الجهة - وهنا عندما وضع الصواع- وهو ما يكال به- في رحل اخية اذن مؤذن بينهم ايتها العير انكم لسارقون , وكما هو معروف وثابت فان اخوة يوسف( عليه السلام ) لم يسرقوا الصواع , ولكن المفهوم من ظاهر الكلام انهم فعلوا ذلك , لكن المقصود الواقعي هو انهم سرقوا يوسف ( عليه السلام ) من ابيه في ماضي الايام , فهذه تورية؛ اذ ظاهر الكلام يدل على شيء بخلاف باطنه اذ اراد (سارقون ليوسف) لكن ظاهر الكلام (سارقون لصواع الملك).
وعليه : فقد تعد هذه الآية دليلا على جواز التورية .
مناقشة الاستدلال بالاية :
لكن الاستدلال بها على جواز التورية مناقش ومستشكل عليه من جهات عدة :
اولاً: يوسف( عليه السلام ) لم يكن هو القائل والمورِّي
1- قيل : ان يوسف( عليه السلام ) لم يكن هو القائل (ايتها العير انكم لسارقون ) , ولعل من نادى هومسؤول مخزن المؤن والبضائع ولم يعلم به يوسف( عليه السلام ) وليس كلام هذا الشخص اذ قد ورى حجة شرعية[7] ؟ !.
الجهة الثانية:ماورد في الآية معنى كلام يوسف( عليه السلام ) لا نفسه
2- وقيل : ان يوسف( عليه السلام ) كان يعلم بما نودي به ولكنه لم ينطق بهذه العبارة والتورية حين امرهم بالاذان والاعلام بل لعله قد وجّه بان ُينادى ويقال (ان الملك قد فقد صواعه)مثلا , ويؤيد هذا الامر ما في تتمة الآية الشريفة فلم يتضمن كلامة تورية. وللكلام تتمه,
وصلى الله على محمد واله الطاهرين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- اذ يوجد هناك خلاف في كون متعلق اليمين لا بد ان يكون راجحا او يكفي كونه مباحا والبعض ذهب الى شرط الرجحان فهو كالنذر من جهة لزوم رجحان المتعلق ، وعلى فرض كون الحكم كذلك في شريعته ، فإنه يدل انعقاد القسم على رجحان متعلقه.
[2] - والشيخ الطوسي كذلك يذكر ان هذه المسالة خلافية
[3] - جاء ذلك في تفسير البرهان نقلاً عن الكتاب الانف الذكر
[4] - لعل عملها كان مزيج قصور وتقصير، ويحتاج ذلك الى بحث كلامي خاص
[5] - جاء ذلك في تفسير القمي فلاحظ
[6] - وعدم اخبارها اياه جاء في كتاب ( تحفة الاخوان ) على ما ينقله عنه تفسير البرهان سورة ص آية 41 - 44
- [7] والفخر الرازي يستشكل بان كلام هذا الشخص اما ان يكون بعلم يوسف( عليه السلام ) او لا والاحتمال الثاني مستبعد فيبقى الاحتمال الاول وهو المتعين اي ان يوسف( عليه السلام ) كان عالما بهذه الفعلة ولم يردع عنها فهي ليست محرمة
الثلاثاء 2 جمادي الاولى 1435هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |