بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(153)
تتمة: دعوى الاصفهاني عدم صحة نقل الرهن؛ لامتناعه، أخص من المدعى
سبق إمكان نقل حق الرهن إلى الغير مع بقائه وثيقةً لدَّين الدائن وعدم انقلابه إلى كونه وثيقة لدَّين دائن آخر أو إلى وثيقة لكن لا على الدَّين بل على أمر آخر، وجرى تصويره بـ(فينبغي أن يمثل بمديون دفع سيارته مثلاً رهناً لدين اقترضه من المصرِف، وكان المصرف (وهو الدائن الذي بيده الرهن الذي هو وثيقة لدينه) يخشى من بقاء الرهن بيده أن ينتزعه المديون منه قهراً (لارتباطه ببعض ذوي النفوذ مثلاً) ثم لا يسدد دينه، فينقل حق الرهن (على هذا الدَّين) إلى آخر من ذوي النفوذ لقاء عوض كي تبقى وثيقة دينه كما هي لكن تحت سلطة شخص آخر لا يمكن للمديون أن ينتزعه منه)
([1]).
وعليه: فدعوى الاصفهاني بعدم صحة نقل الرهن مستنداً إلى امتناعه، أخص من المدعى، فهذا إشكال آخر يضاف إلى الإشكال بأن كونه وثيقة للدَّين حكمة أو أن حيثيته تعليلية.. الخ
السر في بقائه وثيقة للدَّين رغم نقله
والسرّ في ما أدعيناه بما يوضح به كيفية بقاء الشيء وثيقة لدين الدائن مع أنه باعه (أي حق الرهن) أو صالح عليه ونقله إلى الغير، هو: أن حق الرهن يعني الحجر على تصرفات المالك الناقلة المفوِّتة لحق الدائن
([2]) من استيفاء دينه منه إذا أخلف المديون ولم يسدد الدَّين، وصحة بيعه له (أي بيع المرتهن وهو الدائن، للرهن) كي يستوفي منه حقه، وأنت ترى أن نقل هذين
الحقين
([3]) للغير (وهو المعبّر عنه بنقل حق الرهن) لا يخل بكونه وثيقة الدَّين إذ انتقلت سلطة الـحَجْر وحق البيع للغير لا غير وأما المتعلق وهو كونه وثيقة الدَّين فلم تتغير بالمرة.
والحاصل: أن حق الرهن يعني الـحَجْر على ملك الغير وجواز بيعه إذا عصى، ليستوثق من دينه، والأخير حاصل غير متغير بنقل الأولين فتدبر.
ثم إن المعاملة هذه عقلائية إذ كلاهما منتفعٍ بها: أما المصرف فلضمان بقاء المرهون وثيقة لدينه، وأما المصالِح معه فلمبلغ يحصل عليه مقابل نقل العين المرهونة إليه وتكفله بإبقائها وثيقة للدين.
حق الحضانة مجعول لرعاية الطفل فلا يصح للأم إسقاطه
وحيث اتضح لك صحة نقل حق الشفعة وحق الرهن، ننتقل إلى حق ثالث تصوره بعض الأعلام لازماً غير قابل للنقل استناداً إلى مناسبات الحكم والموضوع وهو حق الحضانة فقد نقل
([4]) عن العلامة في القواعد والشهيد في المسالك وغيرهما أنه لا يصح إسقاط حق الحضانة استناداً إلى أن هذا الحق مجعول رعايةً لمصلحة الطفل في إرضاعه ورعايته والعناية به، فلا يصح للأم إسقاطه إذ هو حق للغير لا لها.
أجوبة عديدة
ولكن يرد عليه: أولاً: أنه لو فرض أنه جعل لذلك فما الدليل على أنه علّة بل لعله حكمة؟.
بعبارة أخرى: إن أستفيد ذلك من مناسبات الحكم والموضوع فانها لا تفيد أكثر من كونه حكمة، نعم لو شك إنه حكمة أو علّة، أمكن القول بعدم صحة النقل إذ صحته فرع ثبوت أنه حكمة إن قيل أن الأصل عدم صحة التقلبات في مثل ذلك، وقد مضى بحثه.
ثانياً: أن من الوارد عقلائياً أن يكون جعل حق الحضانة للأم لأجل رعاية حقها في الأمومة فإن إحساس الأم بالأمومة والعطف والحنان تجاه أطفالها ليس أقل من إحساس الأطفال بالحاجة لها والحنين لها بل الظاهر ثبوت اقوائية عاطفة الأبوين تجاه الأولاد على عاطفتهم تجاههما، وعلى أيّ فانه وإن لم نقل بأن جعل الحق إنما هو لرعاية حالها فإن الأصح، وعليه العقلاء، أنه جعل لرعاية حال الطرفين فحيث كان جعله رعاية لحالها أيضاً جاز لها إسقاطه أو نقله إذ رعاية حاله أصبحت جزء العِلّة ومقتضياً لا تمام العلّة. وفيه تأمل
الروايات صريحة في صحة إسقاط حق الحضانة
ثالثاً: أن الروايات ظاهرة في أن حق الرضاعة قد جعل لرعاية حالها بل هي صريحة في أن لها الإسقاط ومعها لا يبقى مجال للاجتهاد في مقابل النص، والظاهر أن الأعلام لم يلاحظوا هذه الروايات.
ومن الروايات رواية أيوب بن نوح: "قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ (عليه السلام) بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ كَانَتْ لِيَ امْرَأَةٌ وَلِي مِنْهَا وَلَدٌ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهَا فَكَتَبَ (عليه السلام) الْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ سَبْعَ سِنِينَ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ الْمَرْأَةُ"
([5]) والظاهر أن المراد بالولد البنت لا الذكر إذ أن حق حضانته سنتان.
وفي رواية أخرى: "الْحُبْلَى الْمُطَلَّقَةُ يُنْفَقُ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَهِيَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا إِنْ تُرْضِعْهُ بِمَا تَقْبَلُهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)
([6]) "
([7])
و"عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْوَلَدِ قَالَ الْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ"
([8])
والظاهر أن الروايات مستفيضة في الدلالة على ثبوت حقٍ لها في حضانته، وربما هي مستفيضة في الدلالة على أن لها حق الإسقاط. فتأمل
ومن ذلك كله يظهر عدم صحة الاعتماد على مناسبات الحكم والموضوع لاستكشاف ملاكات الأحكام التامة، ولا الاعتماد عليها لتضييق دائرة الحكم أو توسعته إلا بعد الفحص التام فيما إذا كان كونه كذلك
([9]) عرفياً لا بمجرد فهم الفقيه لذلك إلا إذا كان كاشفاً عن فهم نوعهم، فتأمل. وقد فصلنا الحديث عن ذلك بمناسبة أخرى في بحث أسباب الانصراف.
الاصفهاني: حق الوصاية والولاية غير قابلين للإسقاط أو النقل
وبذلك كله ظهر إشكال آخر على ما ذكره المحقق الاصفهاني في حق آخر وهو حق الولاية والوصاية قال: (فالتحقيق: أن قبول كل حق للسقوط وعدمه وللنقل وعدمه وللانتقال بالإرث وعدمه يتبع دليل ذلك الحكم ومناسبة الحكم وموضوعه والمصالح والحِكَمْ المقتضية لذلك الحكم، فمثل حق الولاية للحاكم والوصاية للوصي لخصوصيةِ كونه حاكما شرعيا وله هذا المنصب، أو أن الوصي لوحظ فيه خصوصية في نظر الموصي فلذا عينه للوصاية دون غيره - فإن التخصيص بلا مخصص محال من العاقل الشاعر فنقله إلى غيره غير معقول لفقد الخصوصية، أو لوجود هذا الاعتبار له بنفسه من دون حاجة إلى النقل، كحاكم آخر مثلا، وحيث إن هذا الاعتبار لمكان رعاية حال المولّى عليه والموصي لا لرعاية نفس الولي والوصي فلا يناسبه السقوط بالاسقاط)
([10]).
أجوبة عديدة وإضافة مفيدة
وقد سبقت مناقشة هذا الكلام مفصلاً
([11]).
ونضيف: أن قوله (وحيث إن هذا الاعتبار لمكان رعاية حال المولّى عليه والموصي لا لرعاية نفس الولي والوصي) لا دليل عليه أي أنه لا دليل على أنه لذلك صِرفاً بل غاية الأمر انه جزء العلّة للجعل؛ لوضوح أنه كثيراً ما يجعل المالك وصياً على أمواله أو قيّماً على أولاده رعايةً لنفس الولّي والوصي تكريماً له وتقديراً ورداً لبعض جميله عليه أو حباً له مع فرض كونه صالحاً للقيمومة أو الوصاية؛ ألا ترى أن كثيراً ممن يعينون متولياً لمدرسة أو مسجد أو وصياً على وقف أو غيره لم يلاحظوا مصلحة المدرسة أو الوقف فقط بل لو لاحظوها لكان الأصلح تعيين شخص آخر، بل لاحظوا جهات مصلحة ذاتية أو انتسابية قائمة بالمولي أو الولّي والموصي والوصي بنفسها نعم يجب أن لا يكون خلاف مصلحة المسجد أو الوقف، ويكفي صدق الكلي الطبيعي للمصلحة من غير اشتراط أعلى مراتبها في الولي والوصي، ومرجع ذلك وتتميمه إلى ما ذكرناه سابقاً من (2- الخصوصية المرجحة في الجامع، ثانياً: وأما صغرى: فنقول: سلمنا لكن يمكن في الخصوصية المرجحة أن تكون هي أمراً جامعاً متحققاً في كلا الفردين فيكون من الممكن النقل للفرد الآخر لوجود جامع الخصوصية فيه، والحاصل أن المرجح قد يكون شخصياً وقد يكون صنفياً أو نوعياً والأول لا يمكن نقله دون الثاني)
([12]) وراجع تمام الكلام هنالك.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "مَنْ عَدَّ غَداً مِنْ أَجَلِهِ فَقَدْ أَسَاءَ صُحْبَةَ الْمَوْتِ" من لا يحضره الفقيه: ج1 ص139.
..............................................