بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(160)
أن تصنع الأمارة: واقعاً وتضمّه إلى واقع
الثالث: أن يكون لها([1]) واقع، ولكن بقيام الطريق ينضم إليها واقع آخر مكافِئ قائم بنفس المتعلق، بمعنى أن الطريق لا يوجد واقعاً مضاداً للواقع ولا انه يوجده بعد ان لم يكن، بل إنما يوجد واقعاً آخر إلى جوار الواقع الأول، والمقصود بالواقع الآخر، الآخر تكويناً أو تشريعاً.
والمراد من الواقع الآخر التكويني: إيجاد الطريق مصلحةً ملزمةً في المتعلَّق مغايرةً للمصلحة الثبوتية القائمة به أو مفسدة ملزمة فيه مضادة له.
والحاصل: ان الطريق إذا أوجد واقعاً آخر ضمّ إلى الواقع الأول فإن كان مماثلاً كان مجموعهما علّة لإنشاء الحكم على طبقهما حسب قاعدة ان اجتماع علتين على معلول ينقلهما، أي ينقل كلّاً منهما، من العلية التامة إلى الناقصة فيكون مجموعهما العلة، وإن كان مضاداً، تزاحما فيقدم الأقوى.
والمراد من الواقع الآخر التشريعي: إيجاد الطريق حكماً آخر للمتعلق اما مماثلاً، أو مضاداً، فإن أوجد أحدهما دخل في البحث المعروف من ان المجعول في موارد الطرق والأمارات هل هو حكم آخر مماثل للحكم الواقعي أو مضاد له، وذلك في مقابل القول بانه لا يوجد جعل لحكمٍ فيها أصلاً بل هو مجرد التنجيز والاعذار.
نعم البحث المعروف خاص بالحكم (وانه بجعلٍ مماثلٍ أو مضادٍ أو لا شيء منهما) وقد عمّمنا البحث للمصلحة والمفسدة.
والتصويب في دعوى إيجاد الطريق للمصلحة أو المفسدة، أو تغييره لهما أو ضم مصلحة أو مفسدة إلى مصلحة الواقع أو مفسدته، أشدّ واسوأ من التصويب في دعوى إيجاد الطريق للحكم أو تغييره أو جعل الحكم المماثل أو المضاد([2])، كما ان دفعه أهون لمضادة الثلاثة الأولى للمشاهدة والوجدان، لبداهة أن قيام الخبر على وجوب محرم ثبوتي أو العكس أو وجوب واجب أو حرمة حرام أو إيجاده لأحدهما، لا يغير من المصالح والمفاسد في المتعلقات شيئاً أبداً.
ان تكون المصلحة أو المفسدة في سلوك الطريق
الرابع: ان تكون في الطريق مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك، من دون ان تمسّ المتعلَّق والمطروق إليه، عكس الصورتين السابقتين([3])، كما ان الرابع يبني على وجود مصلحة أو مفسدة واقعية، عكس الصورة الأولى.
وهذه المصلحة أو المفسدة في الطريق على أنحاء أربعة:
اما مساوية لمصلحة الواقع
الأول: أن تكون مساوية للمصلحة الواقعية، فيجب حينئذٍ التخيير بينهما، أي بين العمل بالواقع، كقول الرسول (صلى الله عليه وآله) نفسه، والعمل بالطريق كخبر سلمان عنه (صلى الله عليه وآله)، فهذا لو افترقا ولو اجتمعا تأكدت المصلحة الواقعية بالمصلحة السلوكية، ولو كانت في الطريق مصلحة وفي الواقع مفسدة([4])، تزاحما.
أو مصلحة الطريق أقوى
الثاني: أن تكون مصلحة الطريق أقوى من مصلحة الواقع، فيجب تقديمها على مصلحة الواقع لو خالفتها، وذلك كما لو حكم الحاكم بخلاف الواقع، وقيل بان إطاعة أمره أولى، كما قالته العامة بالنسبة إلى ولي الأمر الفاسق، وكما قيل في لزوم إطاعة قوانين الدولة المدنية وإن كانت باطلة حذراً من الهرج والمرج (وإن ذكرنا في محله ان هذا الدليل أخص من المدعى) وعلى أي ففي مورد لزوم الهرج والمرج من مخالفة القوانين المجعولة فان مفسدة مخالفة الطريق أعظم من مفسدة مخالفة الواقع.
أو مصلحة الطريق مرجوحة
الثالث: أن تكون مصلحة الطريق مرجوحة بالنسبة إلى مصلحة الواقع، فلا مناص حينئذٍ من القول بتعيّن الواقع، ولزوم إتباعه لو كان لنا كلا الخيارين، فان عجزنا عن الوصول إليه، دخل في الصورة الرابعة الآتية وكان في الطريق التعويض، كما لو عجزنا عن نيل الأحكام الواقعية فاننا نتمسك حينئذٍ بالفتاوى أو بالظن المطلق لدى الإنسداد.
أو مصلحته يُتدارك بها مصلحة الواقع المفوّت
الرابع: أن تكون مصلحة الطريق مما يتدارك به مصلحة الواقع المفوّت، وهي على أقسام ثلاثة فقد تكون مصلحة الطريق أعظم وقد تكون مساوية وقد تكون أدنى.
الفرق بن الأقسام الأربعة الأخيرة
ولا يتوهم عينية هذا لسوابقه ولزوم التفصيل بحسب الصور الثلاث؛ لأن هذه الصورة مبنية على فرض الجهل بالمصلحة الواقعية والحكم الشرعي، والصور الثلاث السابقة مبنية على فرض انفتاح باب العلم، كما لو خيّرنا بين الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة وتحصيل العلم بالحكم الشرعي وبين الرجوع إلى الرواة عنه (صلى الله عليه وآله) مع انه طريق قد يخطئ وقد يصيب، فحيث فرض تكافؤهما جرى التخيير الواقعي بين الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) وبين الرجوع إلى سلمان أو زرارة، ولو كان من القسمين الآخرين لترجح هذا (الأهم) على ذاك (المهم)، والعكس بالعكس.
وأما الصورة الرابعة فمبنية على حالة الجهل، كما هو الحال في الأمارات المطابقة للواقع غالباً، فانه مع الجهل التفصيلي بحال هذه الأمارة (كخبر زرارة في هذا المورد) حيث افترض ان باب العلم منسد مع انفتاح باب العلمي الذي في واقعه يعود إلى عدم العلم التفصيلي بالإصابة في كل مورد مورد بل مجرد ظن نوعي فيه بالإصابة، فههنا يقال: ان تشريع حجية الأمارة بقول مطلق، رغم شمولها لموارد خطأها ثبوتاً، إنما هو لكون مفسدة المخالفة للواقع (في موارد الخطأ، المجهول بعينه) متداركة بمصلحة الموافقة للطريق، فهذا هو موطن كلام الشيخ (قدس سره) لا الصور الثلاث السابقة.
أن تكون مصلحة الواقع ناقصة تتمّم بالطريق
الخامس: أن تكون مصلحة الواقع ناقصة، وإنما تتمّم بمصلحة الطريق، بمعنى كونها مقيدة بها، كما يكون الزوال قيداً لوجوب الصلاة الكاشف إنّاً عن كونه قيداً للمصلحة الثبوتية.
وعلى هذا حمل الشيخ كلام صاحب الفصول (قدس سرهما) فيما يظهر من كلامه.
ويمكن أن ينظّر له أو يستدل عليه بزمن تدرجية نزول الأحكام، حيث أن المصلحة الملزمة في الزكاة لم تتغير ثبوتاً في حد ذاتها بعد الحكم بوجوبها عما قبله، وكذا المفسدة الملزمة في الخمر لم تتغير، بزيادة أو نقيصة، بعد الحكم عما قبله، لكن الوجوب نفسه مقيد بالتشريع فقبله لا وجوب، فيقال: بان حال ما قبل قيام الطريق في حقنا الآن وما بعده، هو كذلك([5]).
وفيه: انه في زمن تدرجية نزول الأحكام، لم يكن قصور في المقتضي ولم يتغير حال الشيء قبل / بعد التشريع إنما كان هناك مانع عن التشريع، ككون تشريع الأحكام كلها دفعةً واحدةً أول الإسلام مانعاً من دخولهم في الدين، أما بعد إكمال الشريعة، فالضرورة قاضية بأن كل الأحكام فعلية وانه لا مانع في نظر الشارع من فعليتها بأجمعها وأن شخصاً لو كان يفرّ من الإسلام فيما إذا علم بان كل أحكامه آخذة بخناقه فإن ذلك لا يمنع من وجوب الأحكام عليه وتنجزها في حقه.
والحاصل: انه في مثل زمننا فلا مصلحة الواقع ناقصة، ولا التشريع مبتلى بالمانع، فلا شيء يقيّده من طريقٍ وغيره، فلو ظن بالطريق أو ظن بالواقع كانا سيان عند الإنسداد. فتأمل، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِيَّاكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ آبِقٌ مِنْ رَبِّكَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا)) (نهج البلاغة: الكتاب 69)
-----------------------------------
([1]) أي للمصلحة الملزمة أو المفسدة الملزمة، هذا تكويناً، وللأحكام التكليفية والوضعية، تشريعاً.
([2]) إن قيل بكون الأخير تصويباً.
([3]) في الدرس السابق.
([4]) أي لو كان الحكم الواقعي الحرمة وأفاد الطريق الوجوب.
([5]) كحال زمن التدرجية.