199- الثمرة في ان البيان تتنجيزي او تعليقي : 1ـ في صورة الشك في كون المعرفة ذاتاً مقدورة 2ـ او الشك في كونها مقدورة للمكلف 3ـ او الشك في حدود القدرة وشبهة انه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية
الثلاثاء 11 صفر الخير 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملخص ما تقدم
كان البحث يدور حول ان أوامر المعرفة هل هي في مقام البيان التنجيزي, وهو ما ذهبنا إليه, ام ان هذه الأوامر في مقام البيان التعليقي، وهو ما لعلّه المستفاد من كلام صاحب القوانين، من ضم بعض كلماته للبعض الآخر, وبتعبير آخر هل أوامر المعرفة هي مهملة بالاصطلاح المنطقي أي مبهمة بقوة الجزئية, ام ان هذه الأوامر هي من قبيل المحصورة المسورة بسور كل، كما نراه.
الثمرات المترتبة على اختيار احد المقامين
والسؤال :ما هي الثمرة التي تترتب على القول بان أوامر المعرفة هي في مقام البيان التنجيزي وليست في مقام البيان التعليقي؟
1- الاحتياط في صورة الشك في القدرة ذاتاً
الثمرة الأولى: تظهر في صورة الشك في القدرة على المعرفة بلحاظ إمكان المتعلّق, والذي كان مشمولاً لكلام صاحب القوانين ، وانه هل هناك قدرة نوعية على هذا الصنف من المعرفة، وبتعبير اخر :هذه المعرفة وهذه المعلومة وهذا المتعلق، هل هو مقدورا ذاتا ام لا؟ فان قلنا بان المقام مقام بيان تنجيزي فيصح التمسك بالاطلاق لإثبات شمول الحكم أي الوجوب لصورة الشك في مقدورية هذه المعرفة ذاتا، وإلا فلا, هذه هي الصورة الأولى من صور الشك التي تظهر فيها الثمرة وسنمثل لذلك بعد قليل.
2- الاحتياط في صورة الشك عرضاً
الثمرة الثانية: وهي فيما لو علم بان المعلومة أو هذا الصنف من المعرفة مقدور ذاتا ولا استحالة ذاتية؛ لأن يتعلق العلم بهذا الأمر الخارجي، لكنه حدث شك بانني قادر على تحصيل هذه المعرفة اولا؟
والفرق بين الصورتين واضح إذ في الصورة الأولى يشك في كونها مقدورة ذاتا، اما الصورة الثانية فمحرز انها مقدورة ذاتا لكن يشك في كونها مقدورة لي لعارض.
توضيح ذلك:هو ان الشك في القدرة تارة يعود لأمر يرتبط بالفاعل أو العالم واخرى يتعلق بأمر مرتبط بالقابل أو المعلومة والثاني على ثلاثة أقسام
أ- التعذر بسبب الاستحالة الذاتية
الصورة الأولى: ان يكون العجز عن تحصيل هذه المعرفة نابعا من الاستحالة الذاتية عن ان تكون هذه المعرفة او المعلومة في حيِّز حيطة العالم من حيث الانكشاف التفصيلي وذلك مثل حقيقة الباري جل اسمه وحقيقة كنه صفاته، فاننا نعلم انه تعالى موجود، لكن ما هو كنهه؟ ذلك مما تحار فيه العقول اذ اللامحدود لا يمكن ان يحيط به المحدود وكذلك مسألة أن صفاته عين ذاته، فاننا بالبرهان نصل الى كون ذلك حقاً ثابتاً لكن ليس في مقدورنا ان ندرك ماهية ذلك أي كنه صفاته وانها عين ذاته, وهذا مما ليس في حيطتنا وكذلك الكثير مما يتعلق بالباري جل اسمه.
اذن العجز ههنا عن القدرة نوعي وليس شخصيا ويعود إلى ان القابل أي المتعلَّق غير قابل لأن يعلم، وحينئذ لو شككنا ان هذه المعلومة مما يمتنع ذاتا الاحاطة بها والعلم بها فما هو التكليف؟ فهل نجري أصل البراءة أم نجري أصل الاحتياط ، وذلك ككثير من المعارف كحقيقة القضاء والقدر ، وحقيقة ربط القديم بالحادث، فان أصله معلوم لكن كيفية الربط مجهولة في كنهها، ومعلومية أصله لوضوح كون الحادث معدوماً ثم وجد كما أن أصل الربط مما لا يحتاج الى تحليل وبحث فإن ربط القديم بالحادث بمشيئة الله، فقد شاء الله فوجد، ومعنى وجوده من العدم ليس ان العدم ولّد الوجود كما قد يتوهم، او وجد من العدم وان العدم علة الوجود فان (من) ههنا ليست نشوية بل ان (من) ابتدائية وقد نشأ الشيء من الموجِد وهو الله، لا من العدم، والحاصل: انه إذا نسبت (من) إلى الله فهي (من) النشوية اما اذا نسبتها إلى العدم فـ(من) ابتدائية، وهذا التحليل يفيدنا أيضاً، أصل ان الربط بمشيئة الله وانه لم نكن فكنا ويفيدنا في دفع تلك الشبهة، لكن لو تعمق احد في التصور التفصيلي وانه ما هو كنه إيجاد الله لنا بعد إن لم نكن، فانه سيجد نفسه عاجزاً إلا عن أوهام وتخرصات والأمثلة في هذا الحقل كثيرة وفي هذا المقدار الكفاية وعلى أية حال فإن كثيرا من هذه المسائل تقع في دائرة الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين فان كثيراً من المسائل الفيلسوف يراها ممكنة اما المتكلم فيرى استحالة تعقلها.
والنتيجة انه إذا اطمأن المكلف باحد الطرفين فانه مكلف بالمعرفة هذه التي احرز قدرته عليها, اما اذا شك فما هو تكليفه؟ فهل يجب عليه الفحص والبحث والذهاب وراء المعلومة؟
الجواب المبدئي على ذلك، كلا, لأنه لا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن وجوب المعرفة مقيد بالقدرة وهي من الشرائط العامة للتكليف كأي واجب آخر, فاذا شككنا في القدرة من حيث قابلية القابل وانه مستحيل الاحاطة به فقد شككنا في التكليف اذ بدون القدرة لا تكليف كما انه بدون البلوغ لا تكليف، وبلا عقل لا تكليف، والشك في التكليف مجرى البراءة، لكن الحق انه مجرى الاحتياط، ولذلك تخريجان: احدهما التخريج الذي نستظهره ثانيها: تخريج اخر ذكره البعض في بحث العلم الاجمالي إذ ذكروا هناك ما ينفعنا هنا.
اما تخريجنا فهو أن المكلف إذا شك في القدرة على المعرفة من حيث الشك في قابلية المعلومة امكانا واستحالة فهنا يتمسك باطلاق (انْظُروا)واطلاق (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)لحرمة التقول بغير العلم وما أشبه من الآيات التي يصح التمسك بها مما مضى بحثه, فيتمسك بالاطلاق لاثبات وجوب الفحص أولاً، ثم بعد ذلك لو فحصنا ولم نحرز ان هذه المعرفة مقدورة او لا فعلينا ان نحتاط بان نجري في المقدمات وان نحاول الوصول فان وصلنا فبها وان لم نصل انكشف ان القدرة لم تكن متحققة، وسيأتي مزيد توضيح لهذا الكلام بما يدفع عنه الشبهات والحاصل: ان اصل المدعى هو انه يتمسك بالاطلاق لدى الشك اذا كان البيان تنجيزيا ولا ترد شبهة انه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية بما سنوضحه في البحث القادم بإذن الله.
اذن عدم القدرة قد يكون لأن المعلومة في حد ذاتها مستحيل الاحاطة بها .
ب- التعذر بسبب تعقيد المعلومة
الصورة الثانية من صور عدم القدرة على الوصول للمعلومة: ان تكون المعلومة من التعقيد بمثابة تعذرت على البعض وإن لم تكن مستحيلة ذاتاً وهذا ايضا ملموس وجدانا فان كثيراً من القضايا قد يرى الشخص انه لا يستطيع ان يدركها نظرا لتعقيد في المسألة نفسها ككثير من المسائل الأصولية أو الفلسفية أو الكيمياوية والفيزيائية. وحينئذٍ فلو شككنا ان هذه المسالة معقدة فلا استطيع ان ادركها كـ(مسألة القضاء والقدر) او ليست معقدة فقد شككت في القدرة، فهل ذلك مجرى البراءة؟ كلا, بل هو مجرى الاحتياط تمسكا بالاطلاق لأنه اطلاق تنجيزي وليس اطلاقا تعليقيا .
ج - التعذر بسبب فقد الادلة
الصورة الثالثة: ان لا يكون هذا ولا ذاك، بان لا تكون المعلومة مستحيلة ولا تكون من الصعوبة بمكان (مثل شبهة من سمي بفخر الشياطين، فان شبهته صعبة وكثير من الناس قد لا يفهمها كي يحكم عليها حتى يجيب عنها) بل يتعذر العلم بها لفقد الادلة كما هو مرمى نظر صاحب القوانين، فان كثيراً من المسائل العقدية والكلامية لا نستطيع ان نصل الى العلم فيها لفقد الادلة ؛ لأن الادلة هي الايات والروايات والروايات الكثير منها لم يصل الينا واما الايات فان الكثير منها لم يصل الينا تفسيرها او تأويلها أو بطونها او انها تبدو غير دالة وان كانت في حقيقتها دالة، فهذه ثلاثة من الصور، ونكتفي بهذا المقدار.
اذن الثمرات تظهر:
اولا: لو شككنا في أصل القدرة .
وثانيا لو شككنا في مقدورية هذه المعرفة او المعلومة لهذا الشخص بعد الفراغ عن كونها ذاتا مقدورة
3- الاحتياط في صورة الشك في حدود القدرة
الثمرة الثالثة: لو شككنا في حدود القدرة سعة وضيقا, وحينئذٍ فان كان البيان تنجيزيا فعندئذ يمكن التمسك باطلاق الامر، لاثبات وجوب الحدود المشكوكة والا فلا، توضيح ذلك:ان القدرة المشترطة على قسمين:
التفريق بين القدرتين العقلية والعرفية
القسم الاول: القدرة العقلية .القسم الثاني:القدرة العرفية,ولا شك في ان ما هو من شرائط التكليف العامة هو القدرة العقلية وهو المخصص لكافة الاوامر المولوية، فانه اذا لم تكن قدرة عقلية أي دقية فهنا لا تكليف, لكن اذا لم تكن قدرة عرفية وكانت قدرة عقلية فهل الاوامر تشمل هذه الصورة باطلاقها؟
والمشاهد في العرف ان احدهم يقول اني لا اقدر لكنه لا يقصد من عدم القدرة الدقة العقلية بل يقصد عدم القدرة العرفية أي انه قادر عقلاً لكن بمشقة وصعوبة شديدة فالعرف يستعمل انا لا اقدر او لا استطيع في الكثير من الاحيان في القدرة العرفية لا القدرة الدقية، والذي يعدّ من الشرائط العامة للتكليف هو القدرة العقلية فانه لا يعقل ان يكلفنا الشارع ونحن غير قادرين عقلا ولكنه يعقل ان يكلفنا ونحن غير قادرين عرفا بل كثيرا ما وقع ذلك أي ان يكلفنا بما هو عسري وحرجي الى ابعد الحدود كالجهاد وغيره، والحاصل: ان القدرة العرفية اشتراطها يحتاج الى دليل وليس مما يستقل به العقل ابتداءا.
وعلى هذا فلو شككنا في حدود القدرة المشترطة في التكليف بوجوب المعرفة وكانت للمكلف القدرة العقلية دون العرفية كما هو كذلك خارجاً, فان كثير من الناس غير قادرين على المعرفة لكن لا بمعنى انتفاء القدرة العقلية بل انتفاء القدرة العرفية، فلو شككنا في ان القدرة العرفية قيد، بحيث لو فقدها فلا وجوب للمعرفة بعهدته، فلو قلنا ان هذه الايات والروايات في مقام البيان التنجيزي فان اشتراط القدرة العرفية منفي بهذا الاطلاق التنجيزي وذلك لأن المولى كان في مقام الاطلاق التنجيزي ولم يقيد وبتعبير اخر, كان في مقام الفتوى والحكم واعطاء النتيجة النهائية ومع ذلك لم يقيد بصورة القدرة العرفية وذلك عكس الحج مثلاً (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)حيث قيد بالقدرة العرفية، لا العقلية لأنها بديهية، فالمراد القدرة العرفية أي من استطاع قدرة عرفية.
وهذه مسألة كثيرة الابتلاء فان كثيراً من الناس لا قدرة عرفية له على المعرفة الا ان له قدرة عقلية، فلو قلنا في الثمرة الثالثة ان المقام في (انظروا)وغيره من الايات والروايات مقام البيان التنجيزي فيجب على هؤلاء الذين لا قدرة عرفية لهم ان يسلكوا طريق المعرفة وإِن وقعوا في اشد العنت والعسر والحرج، هذه هي الثمرة الثالثة وما أهمها من ثمرة سواءاً قبلنا بها على هذا المبنى المنصور ام لم نقبل بها على مبنى صاحب القوانين، تبقى شبهة رئيسية نتطرق لها في البحث اللاحق وهي ان القدرة من الشرائط العقلية فهي من القرائن الحافة بالكلام فهي كالقرينة المتصلة فلا ينعقد معها اطلاق، على خلاف ما ادعينا, هذه الشبهة تحتاج الى جواب والجواب له وجهان احدهما ما نذهب اليه، وهو هذا المبنى الذي اوضحناه وسنكمله بما ينفع في دفع الشبهة وهناك جواب اخر تخلص به في بحث اخر السيد الخوئي في المصباح سنذكرهما لاحقا ان شاء الله.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
الثلاثاء 11 صفر الخير 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |