037- الاستدلال على إطلاق (ماءً) بأنها للماهية والتنوين للتمكين لا للتنكير
الإثنين 22 جمادى الأولى ١٤٤٦هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(37)
سبق أن المشكلة في الاستدلال بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً}[1] هي كون {ماءً} نكرة في سياق الإثبات وهي لا تفيد العموم، وأجيب بانه يمكن إفادتها العموم ببركة دليل الامتنان، وقد مضى مفصّلاً.
دليل آخر على عموم {ماءً} وشموله
وهناك وجه آخر لإفادة {ماءً} الإطلاق الإفرادي (والأحوالي والأزماني) وهو ان يقال بأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم لعامل داخلي، من غير حاجة إلى إدخال عامل خارجي كدليل الامتنان لاستفادة العموم، والوجه هو بإجمال:
تنوين {ماءً} للتمكين لا للتنكير فيفيد {ماءً} الماهية المطلقة
1- ان التنوين في {ماءً}، وفي مطلق النكرة، هو للتمكين وليس للتنكير كي يفيد الوحدة المانعة عن الإطلاق والشمول لكل الأفراد.
2- وتنوين التمكين، حسب الشهيد الصدر (قدس سره)، هي ما يؤتى بها لإشباع حاجة الكلمة المعربة، (وسيأتي نص كلامه، كما سيأتي وجه التسمية بتنوين التمكين، الذي ذكره أعاظم النحاة والبلاغيين كالرضي وابن هشام).
3- والتنوين التمكيني لا يقيّد الكلمة بقيد الوحدة، عكس التنوين التنكيري (الذي تخلصنا منه).
4- وعليه: يراد من {ماءً} نفس الماهية، كما أريد من (الماء) نفس الماهية.
5- والماهية مطلقة؛ لكونها الطبيعي الذي ينطبق على كل الأفراد أو لمقدمات الحكمة.
6- وهناك شاهد السياق في كلامه (قدس سره) كما سيأتي.
قال: (ولنا جواب ثالث على الإشكال الذي نشأ من كون كلمة (ماء) نكرةً في سياق الإثبات، وحاصله: أنّ الإشكال المذكور مبنيّ على أن يكون التنوين في كلمة (ماء) للتنكير؛ لكي تكون الكلمة نكرةً في سياق الإثبات، ودالةً على قيد الوحدة المانع عن الشمول لتمام الأفراد.
ولكن قد يقال في مقابل ذلك: إنّ التنوين هو تنوين التمكين، لا التنكير، وتنوين التمكين يؤتى به لإشباع حاجة الكلمة المعرَبة؛ لأنّ الكلمة المعرَبة في لسان العرب تستند إلى اللام في أوّلها، أو إلى التنوين في آخرها، ولا تستقرّ مجرّدةً عن ذلك، فحال هذا التنوين التمكينيّ، حال اللام، لا يقيّد الكلمة بقيد الوحدة، وإنّما أريد من الكلمة نفس الماهية، فيتمّ الإطلاق الشمولي لكلمة (ماء) في الآية، كما لو كانت الكلمة معرّفةً باللام ببركة مقدّمات الحكمة.
وممّا يشهد لكون التنوين في كلمة (ماء) للتمكين لا للتنكير: قوله تعالى بعد تلك الجملة: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً...}[2]، فإنّ المراد من هذه العبارة الامتنانية جنس البلدة، لا بلدةً واحدة، وإلّا لم تكن امتناناً على جميع الناس، وبمقتضى قرينة وحدة السياق يظهر كون المراد من التنوين في (ماء) هو التمكين أيضاً، لا التنكير. وهذا هو الجواب الصحيح عن الإشكال)[3].
الأجوبة:
ولكن قد يورد على كلامه بإشكالات تتنوع بين علمية – فلسفية، وفنية – نحوية:
1- الماهية إما مرسلة أو مهملة، فمن أين تعيين الأولى؟
أولاً: فلسفياً: الماهية قسمان إما مرسلة أي سيّالة مستغرقة، وإما مهملة، فقوله (فحال هذا التنوين التمكينيّ، حال اللام، لا يقيّد الكلمة بقيد الوحدة، وإنّما أريد من الكلمة نفس الماهية، فيتمّ الإطلاق الشمولي لكلمة (ماء) في الآية) غير ناهض بالمقصد إذ لا بد من إثبات أن الماهية في {ماءً} في الآية الكريمة مرسلة لا مهملة، فما هو المثبت؟[4].
ويتضح ذلك إذا لاحظنا كلام السيد الوالد في البيع مستنداً إلى كلام المحقق الاصفهاني المعترض على تفريق المشهور بين النكرة في سياق النفي وإنها تفيد العموم دون النكرة في سياق الإثبات، فقد ذكرنا في بحث سابق: (وتحقيق كلامه في البيع (من عدم الفرق بين النكرة في سياق النفي والنكرة في سياق الإثبات) مبني على ما ذكره في الأصول من رفض تفريقهم بينهما بـ:(استدلوا له بأن انتفاء الطبيعة لا يكون إلا بانتفاء جميع أفرادها، بخلاف إيجادها في مورد الإثبات حتى[5] يتحقق بإيجاد فرد)[6] ورَفْضُه مستندٌ إلى ما أشكل به المحقق الاصفهاني على المشهور من (وإلا لورد عليه ما ذكره الاصبهاني (قدس) من عدم تقابل الثبوت والنفي لملاحظة الطبيعة في الأول مهملة، وفي الثانية مرسلة، ونقيض كل وجود عدمه البديل له ولا بدلية إلا بملاحظتهما إلى شيء واحد)[7] وحاصله بعبارة أخرى: ان الطبيعة إن أخذت مرسلة أي سيّالة لأفاد الإثبات الوارد عليها، كالنفي، العمومَ، وإن أخذت مهملة لما أفاد النفي الوارد عليها، كالإثبات، العمومَ، بل كانت جزئية في الصورتين)[8].
والحاصل: انه لو قال: (أكرم عالماً) فإن لاحَظَ (عالماً) بنحو الطبيعة بما هي ماهية مرسلة، أفاد وجوب إكرام كل عالم أي أفاد العموم الاستغراقي، وإن لاحظه بنحو الماهية المهملة أفاد العموم البدلي فكفى إكرام إنسان واحد.
وكذا لو قال: لا تكرم عالماً، فإنه إن لاحظه بنحو الماهية المرسلة، أفاد النهي الاستغراقي وإن لاحظه بنحو المهملة أفاد العموم البدلي.
إذاً: 1- واقع الأمر انقسام الماهية إلى قسمين: المرسلة والمهملة.
2- والأمر مرتهن بقصد المتكلم في الصورتين.
أقول: 3- ولكن يبقى ما هو المتبادر من الجملتين، وهو ما سيأتي.
التبادر دليل على أن {ماءً} يفيد الوحدة دون الاستغراق
ثانياً: ان الدليل في عالم الإثبات، على أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم عكس النكرة في سياق الإثبات، هو التبادر، وهو الذي يجاب به على التسوية بين المفرد المحلى باللام وبين النكرة بدعوى تمامية مقدمات الحكمة فيهما، فإنه مع تبادر عدم الاستغراق من النكرة في سياق الإثبات لا يبقى مجال لدعوى تمامية مقدمات الحكمة فيها وانه كتمامية مقدمات الحكمة في المعرفة باللام، إذ المقدمة الأولى في (أكرم عالماً) مختلة فإنه ببركة التبادر يحرز كون المتكلم في مقام البيان لإكرام شخصٍ واحد لا المستغرق، أي أن مراده العموم البدلي لا الاستغراقي.
والمتبادر هو الذي استند إليه المحقق الرضي قال: (وإن وقعت النكرة لا في سياق الأشياء الثلاثة[9]، فظاهرها عدم الاستغراق، وقد تكون للاستغراق مجازاً، كثيراً إن كانت مبتدأة، كتمرة خير من زنبور، ورجل خير من امرأة، وقليلاً في غيره كقوله تعالى: {علمت نفس ما قدَّمت}[10].
والدليل على كونها في الموجب مجازاً في العموم، بخلاف المعرّفة باللام تعريفاً لفظياً، كما في: الدينار خير من الدرهم: أن الاستغراق يتبادر إلى الفهم، بلا قرينة الخصوص، مع اللام، وعدم الاستغراق بلا لام، والسبق إلى الفهم: من أقوى دلائل الحقيقة)[11]، وسيأتي مزيد إيضاح لكلامه ولكلامنا كما سننقل كلامه بأكمله غداً بإذن الله تعالى.
تنوين التنكير خاص بالعَلَمِ واسم الفعل
ثالثاً: ان التنوين في النكرة، حسب بعض النحاة، كابن هشام في المغني، لا مجال لتوهم كونه تنوين التنكير، كي يبنى إفادته الوحدة على ذلك ثم كي يبنى الكلام على انه إن كان للتنكير أفاد الوحدة، لكنه ليس للتنكير بل للتمكين فلا يفيد الوحدة، إذ التنوين خاص بالاسم المعرب المنصرف (ولذا يشمل المعرّفة كـ: زيد، والنكرة كـ: رجل) فهذا هو تنوين التمكين، وأما تنوين التنكير فليس التنوين اللاحق بـ (رجلٍ، ماءٍ) بل هو اللاحق للعَلَمِ المختوم بـ (ويه) وباسم الفعل قال في المغني: (تنوين التمكين: وهو: اللَّاحِق للاسم المعرب المنصرف إعلاما ببقائه على أَصله وأَنه لم يشبه الْحَرْف فيبنى، ولا الفعل فيمنع الصرف، ويُسمى تنوين الأمكنية أيضاً، وتنوين الشرف، وذلك، كزيدٍ، ورجُلٍ، ورجال.
وتنوين التنكير: وهو: اللاحق لبعض الأسماء المبنيَّة فرقاً بين معرفتها ونكرتها، ويقع في باب اسم الفعل بالسماع كصَهٍ ومَهٍ وإيهٍ، وفي العَلَم المختوم بوَيْهٍ بقياس نحو: جاءني سيبويهِ وسيبويهٍ آخر.
وأما تنوين رجل ونحوه من المعربات فتنوين تمكين، لا تنوين تنكير، كما قد يتوهم بعض الطلبة، ولهذا لو سميت به رجلاً بقي ذلك التنوين بعينه مع زوال التنكير)[12].
والتنوينان إما متضادان أو لا
وبعبارة أشمل: إما أن يقال بتضاد التنوينين، كما هو مبنى ابن هشام، وأما أن يقال بإمكان اجتماعهما:
فعلى الأخير فاستدلاله (قدس سره) غير تام إذ بنى كل كلامه على نفي كونه تنوين التنكير وكونه تنوين التمكين (مع انهما على المبنى الأخير، يجتمعان) فإنه مع كونه تنوين تنكير يفيد الوحدة التي أراد التخلص منها، فما صنع شيئاً.
وعلى الأول: فالتنوين وإن كان للتمكين (لا للتنكير، فلا يفيد الوحدة) لكن مجرد عدم وجود المانع (وهو إفادة التنوين للوحدة) غير مجد بل لا بد من إثبات أن الماهية (المعرّاة عن تنوينٍ يفيد الوحدة) هي الماهية المطلقة المرسلة لا المهملة، فمن أين؟ وقد نفيناه بالتبادر كما سبق.
أسئلة:
- راجع المغني والكافية وغيرهما واشرح تنوين التنكير وحدِّد مساحته وتنوين التمكين ومساحته.
- ما هو المتمكن الأمكن؟.
- كيف تفيد {ماءً} العموم إذا كانت التنوين للتمكين؟
- اشرح الماهية المرسلة والمهملة.
- المعروف: أن الماهية إما لا بشرط مقسمي أو لا بشرط قسمي، وأنّ البشرط لا، والبشرط شيء قسيمان للابشرط القسمي اشرح هذه الأنواع، وبيّن موقع الماهية المرسلة والمهملة التي ذكرت في المتن، معها؟
قال الإمام الجواد (عليه السلام): ((تَأْخِيرُ التَّوْبَةِ اغْتِرَارٌ وَطُولُ التَّسْوِيفِ حَيْرَةٌ وَالِاعْتِلَالُ عَلَى اللَّهِ هَلَكَةٌ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَمْنٌ لِمَكْرِ اللَّهِ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}[13])) تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ص456.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
------------------------------------
[1] سورة الفرقان: الآية 48.
[2] سورة الفرقان: الآية 49.
[3] السيد محمد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى، العارف للمطبوعات ـ لبنان: ج1 ص34.
[4] المثبت هو حسب ظاهر كلامه (قدس سره) هو مقدمات الحكمة وسيأتي جوابه في ثانياً.
[5] الظاهر (فانه).
[6] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، ط5، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت: ج1 ص517.
[7] المصدر نفسه.
[8] درس المكاسب (البيع: المعاطاة): (439/782).
[9] النفي والنهي والاستفهام.
[10] سورة الانفطار: الآية 5.
[11] رضي الدين الاسترابادي، شرح الرضي، دار المجتبى ـ قم: ج3 ص225.
[12] ابن هشام الانصاري، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر ـ طهران: ج2 ص4.
[13] سورة الأعراف: آية 97.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
سبق أن المشكلة في الاستدلال بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً}[1] هي كون {ماءً} نكرة في سياق الإثبات وهي لا تفيد العموم، وأجيب بانه يمكن إفادتها العموم ببركة دليل الامتنان، وقد مضى مفصّلاً.
دليل آخر على عموم {ماءً} وشموله
وهناك وجه آخر لإفادة {ماءً} الإطلاق الإفرادي (والأحوالي والأزماني) وهو ان يقال بأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم لعامل داخلي، من غير حاجة إلى إدخال عامل خارجي كدليل الامتنان لاستفادة العموم، والوجه هو بإجمال:
تنوين {ماءً} للتمكين لا للتنكير فيفيد {ماءً} الماهية المطلقة
1- ان التنوين في {ماءً}، وفي مطلق النكرة، هو للتمكين وليس للتنكير كي يفيد الوحدة المانعة عن الإطلاق والشمول لكل الأفراد.
2- وتنوين التمكين، حسب الشهيد الصدر (قدس سره)، هي ما يؤتى بها لإشباع حاجة الكلمة المعربة، (وسيأتي نص كلامه، كما سيأتي وجه التسمية بتنوين التمكين، الذي ذكره أعاظم النحاة والبلاغيين كالرضي وابن هشام).
3- والتنوين التمكيني لا يقيّد الكلمة بقيد الوحدة، عكس التنوين التنكيري (الذي تخلصنا منه).
4- وعليه: يراد من {ماءً} نفس الماهية، كما أريد من (الماء) نفس الماهية.
5- والماهية مطلقة؛ لكونها الطبيعي الذي ينطبق على كل الأفراد أو لمقدمات الحكمة.
6- وهناك شاهد السياق في كلامه (قدس سره) كما سيأتي.
قال: (ولنا جواب ثالث على الإشكال الذي نشأ من كون كلمة (ماء) نكرةً في سياق الإثبات، وحاصله: أنّ الإشكال المذكور مبنيّ على أن يكون التنوين في كلمة (ماء) للتنكير؛ لكي تكون الكلمة نكرةً في سياق الإثبات، ودالةً على قيد الوحدة المانع عن الشمول لتمام الأفراد.
ولكن قد يقال في مقابل ذلك: إنّ التنوين هو تنوين التمكين، لا التنكير، وتنوين التمكين يؤتى به لإشباع حاجة الكلمة المعرَبة؛ لأنّ الكلمة المعرَبة في لسان العرب تستند إلى اللام في أوّلها، أو إلى التنوين في آخرها، ولا تستقرّ مجرّدةً عن ذلك، فحال هذا التنوين التمكينيّ، حال اللام، لا يقيّد الكلمة بقيد الوحدة، وإنّما أريد من الكلمة نفس الماهية، فيتمّ الإطلاق الشمولي لكلمة (ماء) في الآية، كما لو كانت الكلمة معرّفةً باللام ببركة مقدّمات الحكمة.
وممّا يشهد لكون التنوين في كلمة (ماء) للتمكين لا للتنكير: قوله تعالى بعد تلك الجملة: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً...}[2]، فإنّ المراد من هذه العبارة الامتنانية جنس البلدة، لا بلدةً واحدة، وإلّا لم تكن امتناناً على جميع الناس، وبمقتضى قرينة وحدة السياق يظهر كون المراد من التنوين في (ماء) هو التمكين أيضاً، لا التنكير. وهذا هو الجواب الصحيح عن الإشكال)[3].
الأجوبة:
ولكن قد يورد على كلامه بإشكالات تتنوع بين علمية – فلسفية، وفنية – نحوية:
1- الماهية إما مرسلة أو مهملة، فمن أين تعيين الأولى؟
أولاً: فلسفياً: الماهية قسمان إما مرسلة أي سيّالة مستغرقة، وإما مهملة، فقوله (فحال هذا التنوين التمكينيّ، حال اللام، لا يقيّد الكلمة بقيد الوحدة، وإنّما أريد من الكلمة نفس الماهية، فيتمّ الإطلاق الشمولي لكلمة (ماء) في الآية) غير ناهض بالمقصد إذ لا بد من إثبات أن الماهية في {ماءً} في الآية الكريمة مرسلة لا مهملة، فما هو المثبت؟[4].
ويتضح ذلك إذا لاحظنا كلام السيد الوالد في البيع مستنداً إلى كلام المحقق الاصفهاني المعترض على تفريق المشهور بين النكرة في سياق النفي وإنها تفيد العموم دون النكرة في سياق الإثبات، فقد ذكرنا في بحث سابق: (وتحقيق كلامه في البيع (من عدم الفرق بين النكرة في سياق النفي والنكرة في سياق الإثبات) مبني على ما ذكره في الأصول من رفض تفريقهم بينهما بـ:(استدلوا له بأن انتفاء الطبيعة لا يكون إلا بانتفاء جميع أفرادها، بخلاف إيجادها في مورد الإثبات حتى[5] يتحقق بإيجاد فرد)[6] ورَفْضُه مستندٌ إلى ما أشكل به المحقق الاصفهاني على المشهور من (وإلا لورد عليه ما ذكره الاصبهاني (قدس) من عدم تقابل الثبوت والنفي لملاحظة الطبيعة في الأول مهملة، وفي الثانية مرسلة، ونقيض كل وجود عدمه البديل له ولا بدلية إلا بملاحظتهما إلى شيء واحد)[7] وحاصله بعبارة أخرى: ان الطبيعة إن أخذت مرسلة أي سيّالة لأفاد الإثبات الوارد عليها، كالنفي، العمومَ، وإن أخذت مهملة لما أفاد النفي الوارد عليها، كالإثبات، العمومَ، بل كانت جزئية في الصورتين)[8].
والحاصل: انه لو قال: (أكرم عالماً) فإن لاحَظَ (عالماً) بنحو الطبيعة بما هي ماهية مرسلة، أفاد وجوب إكرام كل عالم أي أفاد العموم الاستغراقي، وإن لاحظه بنحو الماهية المهملة أفاد العموم البدلي فكفى إكرام إنسان واحد.
وكذا لو قال: لا تكرم عالماً، فإنه إن لاحظه بنحو الماهية المرسلة، أفاد النهي الاستغراقي وإن لاحظه بنحو المهملة أفاد العموم البدلي.
إذاً: 1- واقع الأمر انقسام الماهية إلى قسمين: المرسلة والمهملة.
2- والأمر مرتهن بقصد المتكلم في الصورتين.
أقول: 3- ولكن يبقى ما هو المتبادر من الجملتين، وهو ما سيأتي.
التبادر دليل على أن {ماءً} يفيد الوحدة دون الاستغراق
ثانياً: ان الدليل في عالم الإثبات، على أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم عكس النكرة في سياق الإثبات، هو التبادر، وهو الذي يجاب به على التسوية بين المفرد المحلى باللام وبين النكرة بدعوى تمامية مقدمات الحكمة فيهما، فإنه مع تبادر عدم الاستغراق من النكرة في سياق الإثبات لا يبقى مجال لدعوى تمامية مقدمات الحكمة فيها وانه كتمامية مقدمات الحكمة في المعرفة باللام، إذ المقدمة الأولى في (أكرم عالماً) مختلة فإنه ببركة التبادر يحرز كون المتكلم في مقام البيان لإكرام شخصٍ واحد لا المستغرق، أي أن مراده العموم البدلي لا الاستغراقي.
والمتبادر هو الذي استند إليه المحقق الرضي قال: (وإن وقعت النكرة لا في سياق الأشياء الثلاثة[9]، فظاهرها عدم الاستغراق، وقد تكون للاستغراق مجازاً، كثيراً إن كانت مبتدأة، كتمرة خير من زنبور، ورجل خير من امرأة، وقليلاً في غيره كقوله تعالى: {علمت نفس ما قدَّمت}[10].
والدليل على كونها في الموجب مجازاً في العموم، بخلاف المعرّفة باللام تعريفاً لفظياً، كما في: الدينار خير من الدرهم: أن الاستغراق يتبادر إلى الفهم، بلا قرينة الخصوص، مع اللام، وعدم الاستغراق بلا لام، والسبق إلى الفهم: من أقوى دلائل الحقيقة)[11]، وسيأتي مزيد إيضاح لكلامه ولكلامنا كما سننقل كلامه بأكمله غداً بإذن الله تعالى.
ثالثاً: ان التنوين في النكرة، حسب بعض النحاة، كابن هشام في المغني، لا مجال لتوهم كونه تنوين التنكير، كي يبنى إفادته الوحدة على ذلك ثم كي يبنى الكلام على انه إن كان للتنكير أفاد الوحدة، لكنه ليس للتنكير بل للتمكين فلا يفيد الوحدة، إذ التنوين خاص بالاسم المعرب المنصرف (ولذا يشمل المعرّفة كـ: زيد، والنكرة كـ: رجل) فهذا هو تنوين التمكين، وأما تنوين التنكير فليس التنوين اللاحق بـ (رجلٍ، ماءٍ) بل هو اللاحق للعَلَمِ المختوم بـ (ويه) وباسم الفعل قال في المغني: (تنوين التمكين: وهو: اللَّاحِق للاسم المعرب المنصرف إعلاما ببقائه على أَصله وأَنه لم يشبه الْحَرْف فيبنى، ولا الفعل فيمنع الصرف، ويُسمى تنوين الأمكنية أيضاً، وتنوين الشرف، وذلك، كزيدٍ، ورجُلٍ، ورجال.
وتنوين التنكير: وهو: اللاحق لبعض الأسماء المبنيَّة فرقاً بين معرفتها ونكرتها، ويقع في باب اسم الفعل بالسماع كصَهٍ ومَهٍ وإيهٍ، وفي العَلَم المختوم بوَيْهٍ بقياس نحو: جاءني سيبويهِ وسيبويهٍ آخر.
وأما تنوين رجل ونحوه من المعربات فتنوين تمكين، لا تنوين تنكير، كما قد يتوهم بعض الطلبة، ولهذا لو سميت به رجلاً بقي ذلك التنوين بعينه مع زوال التنكير)[12].
والتنوينان إما متضادان أو لا
وبعبارة أشمل: إما أن يقال بتضاد التنوينين، كما هو مبنى ابن هشام، وأما أن يقال بإمكان اجتماعهما:
فعلى الأخير فاستدلاله (قدس سره) غير تام إذ بنى كل كلامه على نفي كونه تنوين التنكير وكونه تنوين التمكين (مع انهما على المبنى الأخير، يجتمعان) فإنه مع كونه تنوين تنكير يفيد الوحدة التي أراد التخلص منها، فما صنع شيئاً.
وعلى الأول: فالتنوين وإن كان للتمكين (لا للتنكير، فلا يفيد الوحدة) لكن مجرد عدم وجود المانع (وهو إفادة التنوين للوحدة) غير مجد بل لا بد من إثبات أن الماهية (المعرّاة عن تنوينٍ يفيد الوحدة) هي الماهية المطلقة المرسلة لا المهملة، فمن أين؟ وقد نفيناه بالتبادر كما سبق.
أسئلة:
- راجع المغني والكافية وغيرهما واشرح تنوين التنكير وحدِّد مساحته وتنوين التمكين ومساحته.
- ما هو المتمكن الأمكن؟.
- كيف تفيد {ماءً} العموم إذا كانت التنوين للتمكين؟
- اشرح الماهية المرسلة والمهملة.
- المعروف: أن الماهية إما لا بشرط مقسمي أو لا بشرط قسمي، وأنّ البشرط لا، والبشرط شيء قسيمان للابشرط القسمي اشرح هذه الأنواع، وبيّن موقع الماهية المرسلة والمهملة التي ذكرت في المتن، معها؟
[2] سورة الفرقان: الآية 49.
[3] السيد محمد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى، العارف للمطبوعات ـ لبنان: ج1 ص34.
[4] المثبت هو حسب ظاهر كلامه (قدس سره) هو مقدمات الحكمة وسيأتي جوابه في ثانياً.
[5] الظاهر (فانه).
[6] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، ط5، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت: ج1 ص517.
[7] المصدر نفسه.
[8] درس المكاسب (البيع: المعاطاة): (439/782).
[9] النفي والنهي والاستفهام.
[10] سورة الانفطار: الآية 5.
[11] رضي الدين الاسترابادي، شرح الرضي، دار المجتبى ـ قم: ج3 ص225.
[12] ابن هشام الانصاري، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر ـ طهران: ج2 ص4.
[13] سورة الأعراف: آية 97.