373- وجهان على المشهور وعلى المنصور للجواب عن شبهة كراهة معاملة المحارَف ــ وجه للجواب عن شبه كراهة التعامل مع الاكراد
الاثنين 24 ربيع الآخر 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
كراهة الشراء من المحارَف ومخالطة الاكراد
ثم ان الكثير من الفقهاء ممن تعرض لمسألة الشراء من محارف ومخالطة الاكراد ، افتوا بالكراهة ، ومنهم الشيخ الطوسي في كتاب النهاية ويحيى بن سعيد الحلي في الجامع للشرائع و العلامة الحلي في التذكرة وتحرير الاحكام وفي منتهى المطلب والشهيد في اللمعة وأفتى به في الجواهر والحدائق ومفتاح الكرامة وجامع المدارك وغيرها
ومنه يظهر ان الروايات اضافة الى كون بعضها صحاحاً ، فإن الفتوى والعمل على طبقها ايضاً فلا يصح التذرع بانها جميعاً مراسيل اذ بعضها مسانيد صحاح ، ولابأنها معرض عنها اذ هي معمول بها ، ثم ان بعضها وان كانت مراسيل الا ان فتوى المشهور حيث كانت على طبقها احتاجت الى بيان الوجه
والجواب اما اذا قلنا بجبر ضعف السند بالشهرة العملية فالضرورة واضحة واما لو نقل فإن بيان الوجه العقلائي ينفع في دفع الاشكال عن مشهور علماء الشيعة ، اضافةً الى ان ضعف السند لا يلازم عدم الصدور ثبوتاً اذ لعلها صادرة ولم تصل الينا بسند تام اذ ما اكثر الروايات و التي لم تصل الينا ككتاب مدينة العلم للشيخ الصدوق فلابد من دفع الدخل على كل التقادير حتى
على فرض الصدور ، كما صنع الشيخ الطوسي في الاستبصار وكان ذلك سرّ عظمتة ومظهر قدرته العلمية اذ ذكر الوجوه المختلفة للروايات المتعارضة بما اخرجها عن التعارض وعن لزوم طرحها لذلك او ذكر لها وجهاً دفع له عنها السقوط الضعف المضمون او مخالفة للقواعد ، اما التذرع بالضعف السندي لطرح الروايات ، فغير تام صغرى أحيانا ، وغير مجد على بعض المباني[1] أحيانا أخرى ، وغير كاف لدفع الأشكال عن امتلاء كتبنا بأمثال هذه الروايات مما لو لم نجد لها محملا صحيحا لا تهمنا بملأها الاسرائيليات فتدبر.
وجوه تخريج روايات كراهة الشراء من المحارَف
اما قوله( عليه السلام ) ( لا تشتروا من محارَف فإن حرفته[2] لابركة فيها ) فالجواب عن الاشكال السابق الوارد عليه ، من وجهين :
أ ـ معاني ثلاثة اخرى للمحارَف بها يندفع الاشكال
الوجه الاول : ان للمحارَف معاني اخر غير المعنى الذي بني عليه الاشكال وهو ( المنقوص من الحظ الذي لا ينمو له مال و المحدود الذي اذا طلب لا يرزق)
والمعاني الأخرى هي:
1ــ ( الذي لا يسعى في الكسب )
وهنا فان النهي عن الشراء منه يكون على القاعدة ، فإن من لا يسعى في الكسب لكسله وتهاونه او لغير ذلك ، فأنه لا يتقن عمله ولا يلتزم غالباً ــ اوكثيراً ما بوعوده التجارية ، وعليه فإن التعامل معه سيكون سبباً للخسارة وفقد ثقة العملاء ، اذ ان من يتعاقد معه لشراء البضاعة الكذائية بالكيفية المطلوبة ليسلمها في الزمن المحدّد ، ويبني على ذلك وعوده لعملائه ، فإنه حيث اخل المحارف بالكم أوالكيف أوالجهة ، فسيتبعه اخلاله هو بوعوده فيفقد ثقة المتعاملين معه ويخسر قسماً من صفقاته وقد يؤول أمره الى الانكسار ،أضافة الى ان الردع عن التعامل معه هو نوع عقوبة له على كسله ولا مبالاته فلعله يرتدع بذلك
والحاصل: ان ( من لا يسعى في الكسب ) هو المقصّر لبجهةٍ اختيارية ، عكس المنقوص الحظ ، فلا وجه للاشكال على التحذير من التعامل مع الاول فإنه يستحق ذلك يسوء اختياره ، عكس المنقوص الحظ لا لأمر راجع اليه فقد يَرِد الاشكال على التحذير من التعامل معه بأنه مبتلى فلم نزيده ، بلاءاً بالردع عن التعامل معه؟[3]
2ــ ( المحارَف هو المستغني بعد فقر )
اذ (احرف : اذا استغنى بعد فقر ) والوجه في النهي عن الشراء منه هو ان المستغني بعد فقر ياخذه عادة البطر والعجب والخيلاء والتكبر فيصعب التعامل معه ولعله يتشدد في شروطه ولا يتنازل عند الاختلاف ولايقيل عند الحاجة عكس من ولد في النعمة ، وكلتا القضيتين بنحو اقتضاء الطبيعيّ في الجملة لذلك وليس المراد الاطلاق
والمشاهد خارجاً هو ذلك في الكثير ــ ان لم يكن اكثر ــ من يصلون للمال بعد الفقر او للرياسة بعد الحرمان والضغط فإنهم يطغون اذ يعوَّضون عن حرمان السنين السابقة بالاجحاف والاستعلاء والايذاء
3ــ ( المحارَف : المجازى على شرٍّ ) اذ ( احرف الرجل اذا جازى على خير او شرّ )
فقد يرتكب الانسان ظلماَ او يجترح معصية فيجازيه الله على شره وبغيه بابتلائه بمرض كالطاعون او السرطان او مختلف الامراض النفسية كالماليخوليا اوالبارانويا او غيرها ، ويكون الحكم بكراهة التعامل معه امتداداً لعقوبته على قبيح فعاله .
والمستظهر من المعاني هو الاول ، الا ان الاخيرين يندفع بهما الاشكال ايضاً
ب ــ الكراهة من باب نصح المستشير ومن مصاديق التزاحم
الوجه الثاني : وهو يتكفل بالجواب بناءاً على الذهاب الى نفس المعنى الاول المعروف للمحارَف ( المنقوص الحظ ...) والذي لعله هو ما فهمه المشهور
والجواب على هذا هو ان الروايات الكارهة لذلك هي من باب ارشاد الجاهل وتنبيه الغافل ونصح المستشير ومن مصاديق باب التزاحم مآلاً كما سيتضح
وفي باب نصح المستشير ينبغي بيان الواقع بما يحمل من مرارة وسلبيات ، وهو باب آخر غير باب الاحسان ، اذ في باب الاحسان ينبغي التشجيع على الاحسان للمحروم اما في باب النصح فينبغي لحاظ مصلحة المستشير وان كان ذلك مرّاً على الطرف الاخر ، فحيث تزاحما كان لكلٍ وجهٌ ولكلٍ مقامه ولكل منهما ضوابطه وشروطه، ويتضح ذلك بالمثال التالي: فأنه قد يسأل مستشير عمن يباحثه من طلبة الدرس ، فيجاب بتباحث مع الذكي المتفوق، فأنه لا يصح القول: لِمَ تهمل أمر الغبي ؟ ولِمَ تَنصح الذكي بان يتباحث مع الغبي ليرفع مستواه؟ اذ الجواب ان هذا مقام الاحسان وأما مقام النصح فهو مقام بيان الاصلح بحاله.
وكذلك لو استشارك مستنصح عن التي يتزوجها فقلت له: لا تتزوج العقيم، فلا يصح الاعتراض بـ(وما ذنبها) ولم لا تنصح بالزواج منها ؟ اذ الجواب باختلاف المقامات اذ يجب على المستشير ان يشير عليه بما هو صالح له ، وأما مقام الاحسان فهو مقام آخر.
والحاصل: أن المقام مقام التزاحم بين مصالح الطرفين ولكل منهما جواب يناسبه ، ويقربه الى الذهن القول بأن هذه الروايات ناظرة الى (اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا، واعمل لاخرتك كأنك تموت غدا)[4] وغيرها ناظر الى (اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا، واعمل لاخرتك كأنك تموت غدا) وبالجمع بين الحقين تتكامل شؤون الدنيا والآخرة .
وجه وتفسير كراهة التعامل مع الاكراد
وأما رواية ابى الربيع الشامي قال: سألت ابا عبد الله( عليه السلام ) فقلت : ((ان عندنا قوما من الأكراد ، وانهم لا يزالون يجيئون بالبيع ، فنخالطهم ونبايعهم؟ قال : يا ابا الربيع لا تخالطوهم ، فان الأكراد حى من أحياء الجن ، كشف الله تعالى عنهم الغطاء فلا تخالطوهم))[5]..
فالجواب : أن النهي عن معاملة (الاكراد) ليس بلحاظ القومية بل هو بلحاظ الصفة والحالة .. وذلك لأن (الأكراد ) هم الذين كردوا الى الجبال أي صُرفوا ورُدّوا ودُفعوا اليها فالمراد الذين يعيشون في منقطع من الجبال ولا يعرفون عن المدنية شيئا، ومن الواضح أن مثل هؤلاء تغلظ طباعهم وتخشن تصرفاتهم وتتولد لهم عادات وتقاليد ورسوم أخرى لا يفهمها المدني ولا يستسيغها كما لا يفهمون طباع أهل المدينة ولا يستسيغونها ، ولذا فأن أي تعامل معهم قد يكون مثار فتنة ونزاع ولو اختلفوا مع البائع فلعلهم لخشونة طباعهم يعتدون عليه فيجرحونه أو يقتلونه .
أما (الأكراد) كقومية فأن الكثيرين منهم من المتحضرين ، كما أن الجبال التي يعيش بها أكثرهم لم تعد جبالا منقطعة عن المدينة بل أضحت مدنا في الجبال فلا كراهة للتعامل معهم .
والحاصل: أن (الأكراد) لا يُراد بهم (القومية المعينة) وأن أريدت فأنها بلحاظ اتصافهم بالصفات الخاصة و الحالة المعينة فلا اطلاق لها بل الأمر يدور مدار تلك الحالة فان كان غير الكرد متصفا بتلك الصفة[6] كره التعامل معه وأن كان الكردي غير متصف بها حسن التعامل معه
ويوضح ذلك قوله تعالى : (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة-97 فأن الاعراب يراد بهم (البدو) ومن الواضح أنه ليس السبب الا جهة انقطاعهم عن المدينة والثقافة أما لو تواصلوا مع المدن فلا يكونون – على حسب درجة تواصلهم – كذلك . وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[1] - كمبنى حجية الضعيف المعتضد بأحدى الشهرات الثلاث ، أو مبنى حجية مراسيل الثقاة .
2- وفي بعض النسخ (صفقته)
[3] - سيأتي الجواب عند هذا ايضاً بوجه آخر.
[4] - وسائل الشيعة ج17 ص76
[5] - الكافي ج5 ص158
[6] - بأن عاش في منقطع من الجبال فغلظت طباعه واخشوشن...
الاثنين 24 ربيع الآخر 1435هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |