346- تقسيم آخر للتورية والمعاريض : 1ـ ان يورّي لكي لا يفهم مراده الواقعي 2ـ ان يورّى لكي يفهم الفطن مثال ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) وهل المجاز في الحذف أو في الصفة ؟
الاحد 10 ربيع الاول 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضيين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
معنى ( الصلاة تنهى )
والحاصل : ان المحتمل في ( الصلاة تنهى ) امران اولهما النهي التشريعي والاخر النهي التكويني والنهي التكويني يراد به الاقتضاء أي ان الصلاة بطبعها وبما توجبه في المصلي من خشوع وخضوع وبايحاءها وامواجها واشعاعاتها مثلاً ، تقتضي وتؤثر بنحو العلة المعدّه في النهي عن المنكر ، ومن الواضح ان هذا المعنى مجازي لـ( تنهى ) اذ اطلاق النهي على غير العاقل مجاز فهو كاطلاق الامر عليه
واما النهي التشريعي فيعني زجرها المصلي عن المنكر والزجر كما سبق هو طلب الترك والطلب لا يصدر الامن عاقل ، لذلك حمل (تنهى) على النهي التكويني وان كان مجازاً ايضاً
وفيه : ان الاصل في النهي التشريعي، والتكويني مجاز لا يصار اليه الا لدى تعذر التشريعي ، والتشريعي صحيح صادق في ( الصلاة ) لانها ، حسب الرواية ، موجود عاقل له لسان ، ومما يقرب ذلك الى الاذهان مبحث تجسيم الاعمال وما وصل اليه العلم الحديث من تحول المادة الى طاقة والطاقة الى مادة ، بل وما ارتآه عدد من العلماء من الطاقة هي ماده خفيفة والمادة هي طاقة مكثفة ، كما اشار اليه السيد الوالد ايضاً ، فالصلاة موجود عاقل يأمر وينهى والأدلة على ذلك كثيرة ليس هذا محل ذكرها ، فلنكتف بالرواية السابقة وبهذا الموجز
تقسيم آخر : التورية اما بقصد الاخفاء او بقصد الافهام
ثم ان التورية ، وكذا المعاريض، تنقسم الى التورية بقصد ان لايفهم السامع مراده الواقعي والى التورية بقصدان يفهمهما الفطن اللبيب
قال الشاعر :
ولقد لحنت لكم لكيما تعرفوا واللحن يعرفه ذوو الالباب
واللحن هو الامالة ، ويقال للالحان الحان لانها تتضمن امالةً في الصوت
وأشار الشاعر بـ( لكيما ) الى القسم الثاني ، ولنا ان نبدلها بـ( لكيلا ) لتفيد القسم الاول ايضاً مع تتمة انك لست من ذوي الالباب لتعرف اللحن
امثلة للتقية بقصد الاخفاء
ومن القسم الاول : قول ابراهيم( عليه السلام )للجبار ، عندما سأله عن زوجته فقال انها أختي واراد أخته في الدين
وقول ذلك الفقيه عندما اضطروه ليبين عدد الخلفاء ، وكان في تقيه ، فقال الخلفاء بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اربعة اربعة اربعة ، فقصد التأسيس فهم اثنى عشر خليفة لكنهم فهموا التأكيد وانهم اربعة وإنه أكّد ذلك مراراً ، فقد ورّى بظاهر التكرار في التأكيد حسب ما فهموه عن باطنه في التأسي كما هو الاصل
معنى ( فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ) بعد تعذر المعنى الحقيقي
ومن القسم الثاني : قوله تعالى( عز وجل ) : (فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ) فإن ارادة المعنى الموضوع له للفظ آسَفُونَا ممتنع في حق الله تعالى اذ الاسف والغضب والحزن والفرح هي من الحالات النفسية الطارئة التي تمتنع على الله تعالى إذ لا يعقل كونه محلاً للحوادث ولالكان حادثاً فلابد ان يراد به المعنى المجازي
أ ــ المجاز في الوصف
قال الشيخ الطوسي في التبيان (آسَفُونَا ) فلما آسفونا انتقمنا " ومعناه أغضبونا كغضب المتحسر في الشدة، وهو مجاز في الصفة .... وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : معنى اسفونا اغضبونا لان الله يغضب على العصاة بمعنى يريد عقابهم[1]
وقال الرازي (واعلم أن ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى محال وذكر لفظ الانتقام وكل واحد منهما من المتشابهات التي يجب أن يصار فيها إلى التأويل، ومعنى الغضب في حق الله إرادة العقاب، ومعنى الانتقام إرادة العقاب لجرم سابق[2].)
والحاصل ان المجاز هو في الوصف كما ذكره الطوسي وهو من اصناف المجاز في الكلمة
ب ـ الاصح : المجاز في الحذف ، أي آسفوا رسلنا
لكن الاظهر هو المجاز في الحذف وهو ماذكره مجمع البيان بعنوان قيل ، قال ( وقيل معناه آسفوا رسلنا لان الاسف بمعنى الحزن لا يجوز على الله تعالى )
لكم الحق انه ليس بمجرد قول مجهول كي يقال ( قيل ) بل هو رواية صحيحة فقد روى الكليني بسند في الصحيح عن حمزة بن بزيع عن ابي عبد الله ( عليه السلام )في قوله ( عز وجل ) ( فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) فقال ان الله تعالى لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق اولياء لنفسه يأسفون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه ، لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه فلذلك صاروا كذلك وليس ان ذلك يصل الى الله كما يصل الى خلقه ، لكن هذا معنى ما قال من ذلك ، وقد قال : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ودعاني اليها وقال : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) وقال ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) وكل هذا وشبهه ما ذكرت لك وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الاشياء مما يشاكل ذلك[3]
ويؤكد كلام الامام ( عليه السلام )، وان كان كلامه غير محتاج اليه ، ان الله تعالى قد ينسب الفعل الى نفسه وقد ينسبه الى غيره ، بل قد يثلّث
ومنه قوله تعالى( عز وجل ): (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) و ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) و ( إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ )
فقد نسب التوَّفي تارة الى نفسه واخرى الى ملك الموت وثالثة الى الرسل ، وكلها صحيح للطولية اذ يصح نسبه الفعل الى للملك ولرئيس الجند وللجنود لو فتحوا بلداً فيقال فتح الملك او الجنود البد الكذائي
وفي المقام حيث امتنع نسبة الاسف الى الله حقيقة وصحت نسبته الى رسله ، كانت هي المراد ، والمجاز في الحذف أي ( اسفوا رسلنا ) بحذف مفعول (اسفوا ) ووضع المضاف اليه مكانه
والحاصل : انه حيث امتنع المعنى الحقيقي كان لابد من المصير الى المعنى المجازي وهو اما المجاز في الكلمة والوصف او المجاز في الحذف ، و الاخير اسلس والطف[4] حتى مع قطع النظر عن دلالة الرواية الصحيحة عليه فكيف مع وجودها ؟
كما يؤكده ان الله بنى الكون على وسائط الفيض وعلى الاسباب والمسببات فكل شيء بواسطة ، كملائكة الرحمة وملائكة الغضب والاماتة والاحياء[5] والرزق[6] وهكذا
كما قول صحاح الروايات ، بل ومتواترها ، على ان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة ( عليهم السلام ) هم وسائط الفيض و (فبكم يجبر المهيض و يشفى المريض و عندكم ما تزداد الأرحام و ما تغيض * إني بسركم مؤمن و لقولكم مسلم و على الله بكم مقسم في رجعتي بحوائجي و قضائها و إمضائها و إنجاحها و إبراحها و بشئوني لديكم و صلاحها و السلام عليكم سلام مودع و لكم حوائجه مودع يسأل الله إليكم المرجع و سعيه إليكم غير منقطع)[7]
و ( بيمنهم رزق الورى وبوجودهم ثبتت الارض والسماء ) و ( لولا الحجة لساخت الارض باهلها )
وقبل ذلك قال الله تعالى ( جل جلاله ) ( وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ )
فإن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليس في عرض الله تعالى اذ ليس شريكاً له بل هو في طوله، وليس ذلك الا لكونه واسطة الفيض والا لما كان لهذا الكلام معنى فتدبر
وللكلام تتمة...
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - التبيان - الشيخ الطوسي - ج 4 - الصفحة 547
[2] - تفسير الرازي - ج 27 - الصفحة 219
[3] - البرهان ص94
[4] - فإن حاصل التوجيه الاول لآسفونا هو ( فلما فعلوا بنا فعل من يؤسف غيره ) ! وهو ضعيف وان صح ثبوتاً اذ معناه : فلما عصونا ولم يطيعونا ( انتقمنا ) أي فعلنا بهم فعل المنتقم.
[5] - اذ الحياة تكون عبر الولادة والابوين ، لابخلق الانسان فجأة من كتم العدم ، والموت يكون بالحوادث والامراض ظاهراً وبعزرائيل باطناً لا بقبض الله الروح مباشرة
[6] - اذ يكون الرزق عبر السحاب والبذر واللحم و.... وكلها اسباب ظاهرية، وكان من الممكن ان يخلق الله تعالى الحيوانات والفواكه والحبوبات ... دفعة دون سبب ان ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )
[7] - بحار الانوار ج99 ص 195
الاحد 10 ربيع الاول 1435هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |